تحلّ الذكرى السنوية السادسة والأربعون ليوم الأرض، الذي انفجر فيه غضب فلسطينيي الداخل عام 1976، فيما لا تزال قضية الأرض محور نضال الفلسطينيين حتى اليوم. ويظهر ذلك جلياً في النقب، حيث تكثفت محاولات الاحتلال في الفترة الأخيرة لطرد الأهالي العرب من أراضيهم، بالتوازي مع تضييق على فلسطينيي 48 ومنعهم من حقّهم بالسكن وإعطائهم رخص بناء.
ويكرّس هذا الواقع، الأرض التي يعمل الاحتلال على توسيع سيطرته عليها، خصوصاً عبر عمليات الاستيطان التي تحصل تحت أنظار الدول العربية المطبّعة معه وبدعم أميركي لا محدود، جوهراً للصراع حول واقع ومستقبل الفلسطينيين.
يوم الأرض: إضراب ومواجهات وشهداء
وانفجر يوم الأرض، بعد قرارات من الحكومة الإسرائيلية بمصادرة أكثر من 20 ألف دونم في منطقة سهل البطوف، لتعلن لجنة الدفاع عن الأرض في ذلك الوقت، إضراباً عاماً في 30 مارس/آذار 1976، على الرغم من محاولات الحكومة الإسرائيلية الضغط على رؤساء البلديات والمجالس المحلية بعد الإضراب.
المجتمع الفلسطيني في الداخل يعاني اليوم حالة انقسام وتشرذم
وواجهت الحكومة الإسرائيلية حالة الإضراب العام بالدفع بآلاف عناصر الشرطة وحرس الحدود إلى القرى والبلدات العربية في الجليل والمثلث والنقب، لتنفجر المواجهات الأعنف بين فلسطينيي الداخل وبين مؤسسات الاحتلال، منذ النكبة وإقامة دولة إسرائيل، والتي امتازت بالأساس بشمولها كافة البلدات العربية الفلسطينية من أقصى الشمال إلى الجنوب.
وفي 30 مارس 1976، سقط ستة شهداء في سخنين وعرابة ودير حنا وكفر كنا والطيبة، هم: خير ياسين (23 عاماً) من عرابة البطوف، رجا أبو ريا (23 عاماً) من سخنين، خضر خلالية (27 عاماً) من سخنين، خديجة شواهنة (23 عاماً) من سخنين، محسن طه (15 عاماً) من كفركنا، ورأفت علي زهيري (19 عاماً) من نور شمس. وظلّ يوم الأرض والـ30 من مارس 1976 نقطة تحوّل في تاريخ الفلسطينيين في الداخل.
فلسطينيو الداخل ينفرون من الانقسام السياسي
وعلى الرغم من مرور 45 عاماً على يوم الأرض، إلا أن المجتمع الفلسطيني في الداخل يعاني، اليوم أكثر من أي وقت مضى، حالة انقسام وتشرذم، تنعكس بالأساس في وجود حزب سياسي (الحركة الإسلامية الجنوبية بقيادة منصور عباس) في أكثر الائتلافات الحكومية الإسرائيلية تطرفاً.
ويعكس ذلك، ليس فقط الانقسام السياسي وتفكك القائمة المشتركة للأحزاب العربية في الكنيست، وإنما أيضاً نفور الجمهور العام من العمل السياسي المرتبط بالكنيست، لا سيما أن المشهد العام لا يتجاوز تراشق الاتهامات بين من هو داخل الائتلاف الحكومي وبين من هو خارجه. وهذه الأخيرة هي الأحزاب الثلاثة المعارضة المشكلة للقائمة المشتركة بقيادة أيمن عودة: الجبهة الديمقراطية، التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير.
كما تراجعت هيبة ومرجعية لجنة المتابعة العليا للفلسطينيين في الداخل التي تضم حركات لا تشارك في انتخابات الكنيست، ولا سيما حركة أبناء البلد، والحركة الإسلامية الشمالية، المحظورة رسمياً، والتي يرأسها الشيخ رائد صلاح.
يوم الأرض: البعد التاريخي
وحول البُعد التاريخي ليوم الأرض، شدّد المؤرخ جوني منصور، في حديث مع "العربي الجديد"، على أن "يوم الأرض ليس ذكرى، إنما نضال من أجل البقاء". وأضاف: "الأراضي لا تزال تشكّل جوهر الصراع حول واقع ومستقبل فلسطين عموماً، على الرغم من مرور 46 عاماً على يوم الأرض. ومخطط إسرائيل هو الاستيلاء بالكامل على الأرض الفلسطينية الباقية بعد النكبة، وبالتالي تشكيل تجمعات سكنية أشبه بـ"محابس" للفلسطينيين العرب فيها وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، والتعامل معهم وفقاً لقواعد العصا والجزرة وفرق تسد".
ولفت منصور إلى أن "ما يحدث في النقب أخيراً هو دليل قاطع وواضح على الخطة الاسرائيلية في الاستيلاء على الأرض هناك وتجميع العرب البدو فيها في تجمّعات محاصرة ومراقبة، ضاربة عرض الحائط بالعلاقة التاريخية والإنسانية والطبيعية التي تربط السكان في النقب مع أرضهم وجغرافيتهم وتاريخهم".
وشرح منصور، من جهة أخرى، أن "الفلسطينيين في إسرائيل يعانون عموماً من نقص في الأراضي المخصصة للبناء، ولهذا يهددهم كابوس خطر الهدم، من منطلق كون عدد كبير منهم اضطر إلى البناء من دون تراخيص بناء على خلفية الموانع الإسرائيلية لتوسيع مسطحات البناء في البلدات العربية". وأضاف: "هنا تبرز مشكلة أخرى، نقص في الأراضي المرخصة للبناء، مع اضطرار العربي الفلسطيني في إسرائيل إلى البناء كحق أساس في الحياة وبناء عائلته".
جوني منصور: مخطط إسرائيل هو الاستيلاء بالكامل على الأرض الفلسطينية الباقية بعد النكبة
ومع تفجّر يوم الأرض الأول، بدا أن فلسطينيي الداخل كسروا للمرة الأولى بشكل جماعي حاجز الخوف من مواجهة السلطات لجهة تعزيز البُعد السياسي في نضالهم ضد سياسات الدولة الإسرائيلية.
صراع دائم مع دولة الاحتلال
وفي هذا السياق، قال مدير مركز "مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية" في حيفا، الباحث مهند مصطفى، لـ"العربي الجديد"، إن "قضية الأرض لا تزال محور نضال الفلسطينيين في إسرائيل حتى الآن، ويظهر ذلك جلياً في موضوع أراضي النقب وقضايا السكن والتخطيط والبناء".
وأشار مصطفى إلى أن "قضية الأرض حملت بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل بُعداً وطنياً ومدنياً في الوقت نفسه، وهي أشد القضايا التي يختلط فيها النضال الوطني والمدني". ويتمثل البعد المدني، كما أوضح، بـ"المطالبة بالعدالة التوزيعية المدنية في موضوع إرجاع الأراضي المصادرة، وتخطيط المدن والتجمّعات العربية التي تعاني من حالة من السجن بسبب غياب مخططات واستعمال استراتيجي للأراضي الذي يضمن تطور المجتمع الفلسطيني في كافة المجالات الحياتية".
أما البعد الوطني، بحسب مصطفى، فيتمثل "في تحقيق العدالة التاريخية للفلسطينيين في حقهم في استعادة أراضيهم التاريخية وعودة المهجرين إلى قراهم داخل الخط الأخضر".
ولفت مدير مركز "مدى الكرمل" إلى أن "المشروع الصهيوني بقي حاضراً في الكثير من المجالات في سياسات وسلوك دولة إسرائيل في تعاملها مع المواطنين الفلسطينيين فيها، لذلك فإن يوم الأرض ليس مجرد حدث تاريخي بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل فحسب، وإنما حالة صراع مستمرة ودائمة مع سياسات الدولة ومشروعها في السيطرة على الأرض والاستيطان فيها وتقليص الحيّز الفلسطيني الإنساني فيها".
على الرغم من هذه التصورات، إلا أن مسألة يوم الأرض وتحوّلات الاهتمام به، تأثرت بالتحولات في السياسة الداخلية للفلسطينيين في الداخل.
عوض عبد الفتاح: يشهد الداخل الفلسطيني تحوّلات عميقة في الوعي والتعرف على الذات
ورأى السكرتير العام السابق لحزب "التجمع الوطني"، منسق حملة "الدولة الواحدة"، عوض عبد الفتاح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ذكرى يوم الأرض "لم تعد محفزاً بصورة خاصة لأحداث وطنية كبيرة، كهبّات أو مواجهات مع المستعمر، وإن كان هذا اليوم باقيا في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، خصوصاً في ذاكرة فلسطينيي 48 الذين شكّل لهم محطة تاريخية حقيقية أولى في مسيرة إثبات الوجود وكسر السكون، واكتساب الحيوية والفاعلية".
وبحسب عبد الفتاح، "فإننا نشهد منذ ذلك اليوم، أي منذ عام 1976، خصوصاً داخل الخط الأخضر، تحوّلات عميقة في الوعي والتعرف إلى الذات، باعتبارنا جزءاً من الكل الفلسطيني، ليس تاريخياً فحسب، بل على صعيدي الوطن والسياسة". وأضاف أنها "سيرورة آخذة في التشكل، رأينا تجلياتها الأخيرة في هبّة مايو/أيار المجيدة من العام الماضي، والتي يتخوف نظام الأبرتهايد الصهيوني من تكرارها في رمضان المقبل (يبدأ في 2 إبريل/نيسان المقبل)، كما نرى تجلياتها في نشاطات ومبادرات كثيرة عابرة للتقسيم الاستعماري".
من جهته، رأى الباحث في الشأن السياسي للداخل الفلسطيني، صالح لطفي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الداخل الفلسطيني "يمرّ بظروف غير مسبوقة اعترت مسارات حياته كلها وباتت هذه المسارات تحديات كبيرة".
وأشار لطفي إلى أن "الأرض بكل ما عليها من قيم حضارية وثقافية ومدينية تعبّر بوضوح عن الصراع القائم بين الفلسطيني فرداً وجماعة، والمؤسسة الإسرائيلية ومن يقف خلفها من مؤسسات عالمية داعمة". وأضاف أن "صندوق أراضي إسرائيل ودائرة أراضي إسرائيل والوكالة اليهودية، لعلّها كلّها من أدوات الصراع الموجودة راهناً".
ولفت لطفي، في ذكرى يوم الأرض، إلى أن "الأرض هي جوهر الصراع الذي له تداعياته السياسية والاجتماعية، وتتبدى لنا أبعاد مجتمعية وسياسية تشكل تحديا وجوديا لنا يتمثل راهناً بالجريمة المنظمة والعنف".
وبحسب رأيه، فإن "حالة الترهل السياسي وانتفاء الدور السياسي المسؤول للأحزاب العربية، لجهة تفعيل المجتمع والنهوض به والارتقاء في وعيه السياسي والجماهيري، تنعكس أيضاً في الاقتصار على مجرد الفعاليات التي تعلن عنها لجنة المتابعة العليا للفلسطينيين في الداخل وظهير هذه الأحزاب".
ودعت لجنة المتابعة، في بيان أصدرته أمس، إلى أوسع مشاركة جماهيرية في فعاليات ذكرى يوم الأرض، التي تنظم اليوم، بدءاً من المسيرة التقليدية التي ستنطلق من مدينة سخنين وانتهاء بالمهرجان المركزي في قرية عرابة البطوف. وأكدت اللجنة على أن يوم الأرض "هو محطة مركزية، ونقطة تحول في نضال جماهيرنا العربية، المترسخة في وطنها، لمواجهة كل السياسات العنصرية المستمرة، وسياسات مصادرة الأراضي".