بعد مرور يومين على العدوان الإسرائيلي على غزة، صدر عن وزارة الخارجية الأميركية بيان السبت يؤكد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ثم اكتفى البيان بحثّ الجانبين على "عدم التصعيد"، مع الإعراب عن "القلق" بخصوص سقوط مدنيين.
البيت الأبيض دعا هو الآخر إلى "الهدوء" وقام باتصالات أجراها مع الجهات الإسرائيلية المعنية، لكن ذلك جاء بعدما أخذت الضربة مداها الذي استدعى التحرك اجتنابا للإحراج. وقد تأخر البيان إلى ما بعد يومين من القصف الذي أودى في النهاية بحياة 44 فلسطينياً من بينهم 15 طفلاً، ومن دون وقوع ضحايا في الجانب الإسرائيلي.
وكأن المطلوب كان كالعادة، أن يأخذ "القصاص" العسكري لغزة مجراه أولاً ليتبعه تبريد محكوم بالعودة لاحقاً إلى سخونته الدورية طالما بقيت المعادلة على حالها، وليس في ذلك جديد، فواشنطن اعتادت التعامل مع استباحة غزة بمثل هذا التسويغ المبطّن الذي صار بمثابة اللازمة في رد الإدارة الأميركية، أي إدارة، وعلى أي عملية عسكرية واسعة تقوم بها تل أبيب ضد القطاع.
وتحوّل التكرار هذا إلى أسطوانة مفضوحة إلى حد أن بعض الجهات الأميركية المتحررة من الانحياز الأعمى لإسرائيل ما عادت تتقبلها، لما فيها من تزييف فاقع للوقائع والحقائق حتى عندما تنطلق الشرارة من غزة تحت ضغط الاختناق الذي تعاني منه، بقطع النظر عن الخلفيات والحسابات السياسية التي تحكمها. بالنهاية، هناك خلل كبير في التوازن وبما يؤدي في كل مرة إلى خسائر بشرية ومادية فادحة، يجري تجاوزها بالذريعة المكررة ذاتها بأن إسرائيل كانت تمارس "حق الدفاع عن النفس".
زعم يقلب المعادلة، وكأن إسرائيل هي الطرف المهدد والمغلوب على أمره، وبما يساهم في زيادة طمس صورتها كقوة احتلال في الضفة وقوة حصار للقطاع. صورة المحتل هذه انتعشت وتبلورت في السنوات الأخيرة في الساحة الأميركية خاصة في أوساط الحزب الديمقراطي، وبالتحديد يسار الوسط الصاعد في الكونغرس الذي رفع صوت الاعتراض أكثر من أي وقت مضى على إسرائيل وسياساتها وممارساتها الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية.
جرت تغطية العدوان على غزة كما حصل في المرات السابقة، ليس فقط بدون مساءلة ولا محاسبة بل أيضاً "بتفهم" لـ"عملية إسرائيل العسكرية"
كل هذا حمل اللوبي الإسرائيلي في واشنطن للقيام بحملة تأييد وتمويل عارمة لدعم ترشيح المناوئين لهؤلاء المعترضين. وقد نجح في بعض الولايات في إبعاد رموز هذا التيار خلال انتخابات الغربلة الحزبية التي جرت هذا الصيف، تمهيدا لخوض الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم بمرشحين لا غبار على تأييدهم التام لإسرائيل.
بذلك يطمح اللوبي لتوظيف فوزهم لو تحقق، كدرس لقطع الطريق على وصول مرشحين خارجين على الطاعة وإخراس أصوات الباقين منهم الذين لن يقوى اللوبي على إسقاطهم في الانتخابات. وقد استفاد اللوبي الذي يلعب دور الناطور الإسرائيلي في الكونغرس، من الأجواء الأميركية الراهنة المشحونة بالرفض "للآخر" والتي دفع بها "اليمين الأبيض" ضد "العدو" الداخلي ويشمل يسار الوسط الديمقراطي والأقليات.
في ظل هذه المناخات، صار من السهل أو من الأسهل تأليب بعض الرأي العام الانتخابي المحافظ وغيره ضد المرشحين المتعاطفين مع جهات وقضايا خارجية عادلة مثل القضية الفلسطينية. مع ذلك، وبرغم نجاح اللوبي في إزاحة مرشحين من ذوي الرصيد والكفاءة العاليين بسبب تأييدهم للقضية الفلسطينية، إلا أنه غير قادر على رد عقارب الساعة إلى الوراء.
رغم ذلك، صار من المتعذر إسكات الخطاب المعترض في الكونغرس على التمادي الإسرائيلي، رغم صغر حجمه نسبياً. لكنه ما زال في خانة الصوت البعيد جداً عن التحول إلى فعل، ويراهن أصحابه على مراكمة اعتراضاته على السياسة الإسرائيلية. لكن لا وهم حول قدرته في المدى المنظور ولا ربما الأبعد، على ترجمة مواقفه إلى سياسات.
وفي ظل هذا الواقع ومعطياته، جرت تغطية العدوان على غزة كما حصل في المرات السابقة، ليس فقط بدون مساءلة ولا محاسبة بل أيضاً "بتفهم" لـ"عملية إسرائيل العسكرية". البيت الأبيض اكتفى بالترحيب بوقف إطلاق النار، والإعلام أشار إليه بصورة هامشية.