في 7 مايو/أيار 2008، أدّى دميتري مدفيديف، نائب رئيس الوزراء السابق حينها، والذي فاز بانتخابات الرئاسة الروسية التي أجريت في مارس/آذار 2008، اليمين الدستورية رئيساً لروسيا، خلفاً لسلفه (الذي أصبح رئيس الوزراء في عهده وخلفه في الرئاسة أيضاً في ما بعد)، فلاديمير بوتين. ودشّن مدفيديف، البالغ من العمر حينها 42 عاماً فقط، مع توليه الرئاسة قبل 15 عاماً، صفحة جديدة من تاريخ روسيا ما بعد السوفييتية، جمعت بين الانفتاح والليبرالية من جهة، والتمهيد من جهة أخرى لعودة بوتين إلى الرئاسة لفترة غير محددة في الواقع، وتعزيز الأخير قبضته على مفاصل الحياة السياسية داخلياً في روسيا، والتوسع العسكري الروسي خارجياً.
سنوات مدفيديف... ليبرالية لم تحجبها حرب جورجيا
دشّنت رئاسة مدفيديف صفحة من تاريخ روسيا ما بعد السوفييتية، جمعت بين الليبرالية والتمهيد لعودة بوتين
وشهد عهد مدفيديف، أيضاً، عزوف روسيا عن الدعم الصريح للعقيد الليبي (الراحل) معمر القذافي، إثر اندلاع انتفاضات الربيع العربي في 2011، ووصل الأمر حتى إلى استقباله رئيساً في مقر قناة "دوجد" (مطر) الروسية ذات التوجهات الليبرالية المعارضة (2011).
لكن في موازاة توجهاته الليبرالية، شهدت فترة حكم مدفيديف (حتى 2012)، حرباً مفتوحة بين روسيا وجورجيا في إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالي، وذلك بعد أشهر قليلة من تسلّمه منصب الرئاسة، في أغسطس/آب 2008، في أول عملية عسكرية نفذتها روسيا ما بعد السوفييتية خارج أراضيها. كما شهدت ولايته الرئاسية تمريراً لتعديلات دستورية كان من شأنها زيادة فترة الولاية الرئاسية من أربع إلى ست سنوات، ما مهّد الطريق أمام بوتين للعودة إلى الرئاسة لمدة 12 عاماً إضافية (حتى 2024)، قبل أن يجرى "تصفير" عدد ولايات الأخير بموجب تعديل دستوري آخر في عام 2020.
وعلى الرغم من الانتقادات لدوره في إفساح المجال أمام بوتين لاستثمار الثغرة الدستورية القاضية بمنع شغل منصب الرئاسة لأكثر من ولايتين "متتاليتين"، إلا أن مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية، فلاديسلاف إنوزيمتسيف، أشاد بما تميزت به سنوات حكم مدفيديف من الانفتاح، معرباً في حديث لـ"العربي الجديد"، في الوقت نفسه، عن دهشته من التحول في شخصية الرئيس الروسي السابق مع بدء الحرب في أوكرانيا، التي تحول مدفيديف إثرها إلى أحد أبرز وجوه عسكرة الخطاب السياسي الروسي.
وقال إنوزيمتسيف إنه لا يستبعد أن هناك من يرون في مدفيديف شخصاً ضيّق الأفق وغير كفؤ، وأن هذه الصفات، إن كانت كذلك، كانت سبباً رئيسياً لوصوله إلى الكرملين في عام 2008. لكن لا بد من الإشارة، بحسب رأيه، إلى أن مدفيديف تولى الرئاسة بأجندة جديدة تماماً، مقرّاً بأن قوة عظمى في مجال الطاقة غير قادرة على المنافسة في العالم الحديث، وداعياً إلى التحديث الفوري للاقتصاد الروسي. ووفقاً لإنوزيمتسيف، فإنه يجب الالتفات إلى السياسة الخارجية التي اعتُمدت في عهده، والتي نصّت للمرة الأولى في تاريخ روسيا على أولوية المساهمة في التنمية الاقتصادية للبلاد.
وذكّر إنوزيمتسيف بأنه بعد الحرب في جورجيا، تمكّن مدفيديف من الحد من التداعيات السلبية لهذه الحرب على بلاده في أسرع وقت ممكن، والارتقاء بمستوى العلاقات مع أوروبا، وإجراء عملية "إعادة الإطلاق" للعلاقات مع الولايات المتحدة.
ولفت مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية إلى طريقة تعامل مدفيديف مع الأزمة الليبية، مضيفاً أن "سنوات مدفيديف في الحكم شكّلت سنوات الحقيقة في السياسة الخارجية، إذ كانت تجرى تسمية الديمقراطيات بالديمقراطيات والديكتاتوريات بالديكتاتوريات". ورأى أنه "لو كانت الانتفاضة في ليبيا قد اندلعت بعد بضع سنوات من 2011، لكان جنودنا توجهوا للقتال في سرت (وسط ليبيا) أو مصراتة (غرب)، وليس في تدمر وحلب السوريتين فقط. إلا أن موقف الرئيس أدى إلى عزوف روسيا عن التدخل في نزاع خارجي لا يمت إليها بصلة".
دعا مدفيديف إلى التحديث الفوري للاقتصاد الروسي وأعاد إطلاق العلاقات مع الولايات المتحدة
ومن اللافت أن سياسة الكرملين، بين رئاسة مدفيديف وبين عهد بوتين العائد في ما بعد إلى الرئاسة، شهدت تحولاً نوعياً بين التخلي عن القذافي والوقوف دبلوماسياً وسياسياً، وحتى عسكرياً، مع نظام بشار الأسد في سورية ودعمه بشتى الطرق.
ترسيخ حكم بوتين
في مؤتمر لحزب "روسيا الموحدة" الحاكم انعقد في خريف عام 2011، دعا مدفيديف إلى دعم ترشيح بوتين الذي كان يشغل حينها منصبي رئيس الحزب ورئيس الوزراء، لرئاسة روسيا مجدداً، حاسماً بذلك الجدل حول ما إذا كان بوتين سيعود إلى الكرملين أم لا.
وشكّلت تلك اللحظة نقطة مفصلية في تاريخ روسيا نحو تعزيز نظام حكم الفرد والتوسع العسكري في سورية وأوكرانيا، وسط عودة أجواء "الحرب الباردة" لتخيم على العلاقات بين موسكو والغرب، وصولاً إلى تحول مدفيديف نفسه من سياسي ذي توجهات ليبرالية في الأساس، إلى أحد صقور الإستبلشمنت الروسي والتلويح المتكرر بعصا السلاح النووي بعد بدء الحرب الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022.
رئيس حكومة غير شعبية
بعد تنصيب بوتين رئيساً في مايو 2012، شغل مدفيديف منصب رئيس الوزراء في حكومة لم تحظ بشعبية كبيرة على ضوء الأزمات العاصفة بالاقتصاد الروسي منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014 (تاريخ ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم) بالتزامن مع تهاوي أسعار النفط العالمية، وصولاً إلى الإصلاح الذي أقرّ في البلاد خلال رئاسته الحكومة، وقضى بالرفع التدريجي لسنّ التقاعد (2018).
في بداية عام 2020، عيّن بوتين رئيس الهيئة الفيدرالية للضرائب، التكنوقراط ميخائيل ميشوستين، رئيساً للحكومة خلفاً لحكومة مدفيديف، الذي انتقل بدوره إلى شغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي بعد استحداث هذا المنصب.
لوّح مدفيديف مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا بالسلاح النووي
لكن مع بدء الحرب الروسية المباشرة على أوكرانيا بعد عامين، عاد مدفيديف إلى مقدمة المشهد السياسي الروسي، ولكن من بوابة مغايرة، عن طريق بثّه منشورات مثيرة للجدل عبر قناته على تطبيق "تليغرام"، لّوح فيها تارة بإمكانية إعادة تفعيل عقوبة الإعدام، وهدّد فيها تارة أخرى باستخدام روسيا السلاح النووي أو حتى قصف مقر البوندستاغ (البرلمان) الألماني. وبات مدفيديف، بمنشوراته وتصريحاته المثيرة للضجة، ينافس حتى النائب الشعبوي الراحل، رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، فلاديمير جيرينوفسكي، الذي توفي في إبريل/نيسان 2022.
بحث عن مشروعية
ومع ذلك، جزم أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، بأن تلويح مدفيديف بالسلاح النووي لا يعني أن روسيا ستلجأ إلى استخدام هذا السلاح تلقائياً، مُرجعاً تحول مواقف الرئيس الروسي السابق إلى بحثه عن مكانة جديدة داخل النخبة السياسية الروسية.
وقال كوكتيش، في تعليق لـ"العربي الجديد"، إن "منشورات مدفيديف لا تعني أن هناك خطر استخدام السلاح النووي، خصوصاً أن مدفيديف يشدد دوماً على اللجوء إلى هذا السلاح (إن حصل) كفعلٍ جوابي فقط، لا السبق بشنّ هجوم بواسطته".
وحول فهمه أسباب تحول توجهات مدفيديف، رأى كوكتيش أن الأخير "يبحث لنفسه عن مكانة ومشروعية سياسية جديدة، بعدما بات ينظر إلى الأجندة الليبرالية على أنها معادية للدولة".
وفي حديث مع التلفزيون الفرنسي نهاية الصيف الماضي، عزا مدفيديف نفسه تحوله إلى تغير مشاعره على ضوء النهج المناهض لروسيا الذي يتبعه "الشركاء"، معرباً عن قناعته بضرورة إجراء "العملية العسكرية" في أوكرانيا لـ"حماية منطقة دونباس ونزع سلاح القوات المسلحة الأوكرانية".
يُذكر أن مدفيديف، البالغ من العمر اليوم 57 عاماً، قطع مسيرة مهنية وسياسية حافلة، تراوحت بين تدرسيه في كلية القانون بجامعة لينينغراد (سانت بطرسبورغ حالياً) والعمل مستشاراً قانونياً في رئاسة بلدية العاصمة الشمالية الروسية، قبل انتقاله إلى موسكو في نهاية تسعينيات القرن الماضي، حيث شغل مناصب رفيعة في ديوان الرئاسة الروسية والحكومة وعملاق الغاز الروسي "غازبروم".
وفي نهاية 2007، أيّد بوتين ترشيح مدفيديف مرشحاً موحداً عن مجموعة من الأحزاب، بما فيها "روسيا الموحدة"، لخوض الانتخابات الرئاسية التي جرت في مارس 2008، وأسفرت عن فوز الشاب الليبرالي من الجولة الأولى للانتخابات، ثم تنصيبه، في مثل هذا التاريخ اليوم، قبل 15 عاماً.