تطرح الاحتجاجات الشعبية في تونس أسئلة كثيرة على الطبقة السياسية، على الرغم من أنها ليست جديدة وإنما هي حدث متكرر، بالأسلوب والعنف نفسيهما. وبين من يحاول ركوب هذه الموجة وتبنّيها بشكل مفضوح، ولا سيما من قبل بعض الأحزاب في محاولة لتحقيق ما عجزت عنه خلال الانتخابات، وبين ناكر لها ومعتبر أنها مجرد حالة غضب ستختفي بسرعة، أو هي احتجاجات مارقين أو قصّر مغرر بهم، تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هناك قطيعة فعلية بين الشارع والأحزاب، ولماذا فشلت هذه الأخيرة في وضع خطاب سياسي يقنع الشارع التونسي؟ ولماذا فشلت في تأطير هذا الشارع؟ كما تبرز تساؤلات حول ما إذا كانت المجموعات المحتجة هامشية تماماً من خارج المشهد السياسي ومن خارج المنظومة التي انتخبت الأحزاب، وحول من تمثل تحديداً وما هي قدرتها على تغيير المشهد السياسي؟ وهل يمثل تعامل المنظومة السياسية، أحزاباً ومؤسسات، مع الاحتجاجات، نوعاً من الهروب إلى الأمام ونكران الواقع؟ ويبقى السؤال الأخطر، هل يشكل هذا التعامل السياسي من ناحية، وتطور الاحتجاجات من ناحية أخرى، تهديداً للتجربة الديمقراطية؟
النائب والرئيس السابق لـ"الكتلة الوطنية" حاتم المليكي، أوضح في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "القطيعة بين الطبقة السياسية والشارع يمكن تفسيرها بكون الأحزاب التونسية ليست أحزاباً تعمل وفق المنطق الحديث، أي على تواصل مع المجتمع، إذ إنها تتعامل مع المواطنين كأصوات انتخابية فقط"، مضيفاً أنه "منذ العام 2011 الأحزاب تلجأ للمواطنين في الانتخابات، ولكن لا امتداد شعبياً لها".
القوماني: النتائج السلبية، الاقتصادية والاجتماعية، كرست التباعد
وتابع أنّ "أغلب الأحزاب في تونس مبنية على الإيديولوجيات القديمة التي تجاوزها الزمن. صراعات الثمانينيات متواصلة في ظلّ غياب البرامج الحقيقية، وحق المواطن في العمل والكرامة وفي الصحة والتربية، وبناء دولة حديثة تقوم على حياد الإدارة، وأغلب الأحزاب الحالية تفكر في تموقعها وتحمل إيديولوجيات لا علاقة لها بالديمقراطية وبالشباب". وأضاف: "بالتالي، فالقطيعة هيكلية وواضحة، وتونس تستحق اليوم أن يكون لديها مشروع سياسي حديث يستجيب لتطلعات المجتمع، وللعصر الذي تنتمي إليه، وغياب هذا المشروع يمثل تهديداً جدياً للبلاد".
من جهته، رأى النائب عن حركة "النهضة" محمد القوماني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "التباعد بين الطبقة السياسية والشارع سببه أنّ الأولى انشغلت بالكامل في القضايا الديمقراطية من حريات وحقوق إنسان وكتابة الدستور وضمان المسار الديمقراطي، وهي قضايا تهم الشعب، ولكن تخصّ بالدرجة الأولى الناشطين والفاعلين السياسيين وضحايا الاستبداد". وبيّن أنّ "أغلب الفئات الشعبية كانت مهتمة بالقضايا الاجتماعية المتمثلة في تحسين ظروفها، والقدرة الشرائية، فتأخرت النخبة عن الاهتمام بالمسائل الاجتماعية، وحصلت الفجوة بين مسار سياسي ومسار اجتماعي واقتصادي".
وتابع القوماني أنّ "الأحزاب قبل الثورة كانت محاصرة من قبل النظام، وبالتالي غير قريبة من المجتمع، ولما أتيحت لها الفرصة بعد الثورة للبروز والتنظيم، واجهت انتقادات وشائعات كثيرة من قبيل أن السياسيين يبحثون عن مصالحهم ولا يخدمون الشعب، فتعمقت الهوة"، معتبراً أنّ "أغلب هذه الشائعات مغلوطة لأن أغلب السياسيين بعد الثورة يريدون خدمة تونس كل من وجهة نظره، وأغلبهم لديهم قناعات وقضايا يؤمنون بها". وأشار القوماني إلى أنّ "النتائج السلبية، الاقتصادية والاجتماعية، كرست التباعد، وحتى حجج السياسيين أصبحت ضعيفة لإقناع الناس، وكأن الثورة لم تضف لهم الجديد أو تحقق الأفضل الذي ينشدونه"، لافتاً إلى أنّ "الأولوية للطبقة الحاكمة كانت الاستقرار والأمن، ولكن عامة الشعب تريد نتائج سريعة وهذا لا يتحقق". وأوضح أنّ "المشكل الحقيقي للتونسيين قبل الثورة وبعدها، هو العزوف عن الانخراط في الانتخابات وفي الأحزاب، والمشاركة في العملية السياسية، فالمواطن يكتفي بالنقد السلبي الذي لا يؤدي لأي إضافة".
واعتبر القوماني أنّ هناك "عمليات ممنهجة لترذيل العمل السياسي والحزبي، خصوصاً بعد فوز حركة النهضة، فالبعض يريد ديمقراطية على المقاس، وتغيير النتائج الفعلية بأخرى، فيتم العمل على إضعاف العمل الحزبي، والأغرب أنّ سياسيين بأنفسهم من رئيس جمهورية ووزراء ينتقدون السياسيين وكأنهم من منظومة خارج المسار السياسي".
الحناشي: تعامل المنظومة السياسية مع الاحتجاجات فيه هروب للأمام
أما المحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي، فرأى في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "تعامل المنظومة السياسية مع الاحتجاجات فيه هروب للأمام، إذ تبدو الطبقة السياسية غير مبالية بما يحصل، وكأنها غير معنية، في الوقت الذي عليها ألا تكتفي بالبيانات وأن تنزل إلى الشارع وتتحاور مع الناس". ولفت إلى أنّ تونس "تعتمد النظام البرلماني، وبالتالي النواب هم الذين يمثلون الشارع، ولكن ما يحصل دليل على فشل النخبة السياسية منذ 2011"، مشيراً إلى أنّ "التحركات هي تعبيرات أو إضرابات، ولكن من شأنها زعزعة الاستقرار، خصوصاً أن لهجتها شديدة، وخطاباتها حادة تجاه النخبة السياسية التي عجزت عن معالجة المشاكل وحتى معالجة مشاكلها، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في ضبط الشارع".
وأضاف الحناشي أنّ المشكلة هي أنّ "الشعب فقد الثقة في الأحزاب التي تبدو عاجزة، والتي كانت برامجها ووعودها الانتخابية ذات سقف عالٍ، لكنها لم تحقق منها شيئاً، فهي توهم الناس بالبرامج، ولكن على الرغم من مرور العديد من الحكومات، لم يتحقق شيء". وقال إنّ "هذا لا يعني عدم وجود صعوبات، ولكنه لا يعني في المقابل عدم معالجة المشاكل والتعاطي مع الواقع".
وأوضح المحلل السياسي نفسه أنّ التحركات الحالية "غير مؤطرة، ولا تقودها منظمات ولا أحزاب، ما يكشف عن خطر حقيقي، إذ قد تحرق الأخضر واليابس وتهدد المسار الانتقالي لأنها ضدّ المنظومة ككل"، مضيفاً أنّ الفئات المحتجة "تتشكل بأغلبها من أطفال وشباب في الـ20 من العمر، وبالتالي هم يحملون عبء تراكمات اجتماعية لعائلاتهم وآبائهم الذين يواجهون الظروف المعيشية الصعبة والبطالة والهشاشة والفقر". وأكد أنّ التوزيع الجغرافي للاحتجاجات "يكشف أنّ الأحياء في أغلبها فقيرة ومهمشة، وربما ضاعفت جائحة كورونا من أعباء هذه الطبقات".
من جهته، قال المختص في علم الاجتماع رضا عبد المولاه، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ الاحتجاجات "عادة تجد الأرضية المناسبة في المناطق الفقيرة والمهمشة والمقصية، والفئات التي تقود الاحتجاجات اليوم خرجت من هذه المناطق، وهو ما يبيّن أنّ هناك مشكلات اجتماعية حقيقية ووضعاً مقلقاً". لكنه في الوقت نفسه لفت إلى أنّ "التحركات ليلية، والفئات التي تقوم بها لم تعلن عن نفسها وعن مطالبها، وكان من الممكن أن تتحرك علانية في ظلّ الحريات المتاحة ولكي يسهل الإنصات إليها وبلورة مطالبها في قالب منظم، كي يتمكن الساسة من معالجتها، ولكنها تتحرك ليلاً وفي التوقيت نفسه، ما يطرح نقاط استفهام عدة حولها. كما أنّ هناك فئات إجرامية تخرب، وهو ما يبدو من خلال عمليات الحرق والإضرار بالممتلكات، وبالتالي لا تبرير لمثل هذه الأعمال". ولفت إلى أنّ "المعالجة الأمنية لا يمكن أن تحل مشكلة البطالة، فهذا دور السياسي والطبقة الحاكمة".
الشباب الغاضب أثبت أنه في قطيعة مع منظومة الانتخابات منذ سنوات
ولكن الأرقام لا تكذب، فالشباب الغاضب أثبت أنه في قطيعة مع منظومة الانتخابات منذ سنوات، أي مع منظومة الأحزاب والآلية الديمقراطية التي تقود إلى الحكم، وتساهم في صنع القرار الاجتماعي والسياسي، وهو بالتالي مغيّب عن صناعة القرار المحلي والجهوي، وغير خاضع في الوقت نفسه للخطاب الحزبي والرسمي. وتؤشر الأرقام إلى حالة العزوف العام التي سادت الانتخابات المحلية التي جرت في مايو/ أيار 2018، إذ لم تتعد نسبة المشاركة العامة 30 في المائة، فيما لم تتجاوز مشاركة الشباب ممن تراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً نسبة 5 في المائة. وفي انتخابات الرئاسة التي جرت عام 2014، بلغت نسبة المشاركة 65 في المائة، لكنّ نسبة مشاركة الشباب بلغت 14 في المائة فقط.
وذكرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بخصوص الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في 2019، أن نسبة الشباب الذي شارك في عملية التصويت من الفئة التي تبلغ أقل من 25 سنة، لم تتجاوز 11.6 بالمائة، في الوقت الذي قُدّر عدد الناخبين في الفئة العمرية نفسها بـ440538 ناخباً.
وأظهر المسح الوطني حول الشباب لعام 2018/ 2019، والذي أجراه "المرصد التونسي للشباب"، أنّ نسبة مشاركة الشباب في الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني بلغت فقط 6.4 بالمائة. كما أظهر المسح أن 11.5 بالمائة فقط من الشباب المستطلعة آراؤهم يهتمون بالشأن السياسي، بينما 88 بالمائة غير مهتمين أو غير مهتمين بالمرة. وحول رأي الشباب في برامج الأحزاب السياسية، عبّرت نسبة عالية منهم، شملت 3 من كل 4 مستجوبين، عن عدم رضاها أو عدم رضاها الكلي على هذه البرامج، فيما عبّرت نسبة 3.5 بالمائة فقط عن موقف إيجابي تجاه الأحزاب. فما الذي لا تفهمه الأحزاب في هذه الأرقام ودلالاتها؟ وكيف يمكن أن تؤثر أو تؤطر هذه المجموعات الكبيرة التي لا تؤمن بها أصلاً؟