أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان، اليوم الخميس، أنه طلب إيقاف ضباط من الشرطة "عن العمل كإجراء احترازي"، وذلك بعد مشاهد صادمة بثتها وسائل إعلام فرنسية لتفكيك الشرطة وقفة احتجاجية في ساحة الجمهورية مطلع هذا الأسبوع، شارك فيها نواب للتضامن مع مهاجرين ولاجئين وجدوا أنفسهم في العراء من دون مأوى.
ليلة الاثنين تلك، وصفتها وسائل إعلام عديدة بـ"ليلة العار"، وشهدت عنفاً مفرطاً قامت به عناصر الشرطة ضد اللاجئين والمشاركين في الوقفة، وتتخذ منذ ذلك الحين مساراً سياسياً بعدما طاول عنف الشرطة صحافيين ونواباً في البرلمان ومسؤولين محليين، من بينهم نائبة عمدة باريس ليا فيلوش، التي منعها عناصر الشرطة من الوصول إلى مبنى البلدية للوقوف على مجريات ما يحدث.
ويبدو أن ليلة الاثنين أصبحت بمثابة نقطة تحول في النقاش المندلع منذ أشهر حول عنف الشرطة وسلوك الحكومة الفرنسية في إدارتها للبلاد خلال الأزمة الصحية نتيجة جائحة كورونا؛ فمع نجاح وزير الداخلية وحزب الرئيس إيمانويل ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" بتمرير قرارات كان الهدف منها تحجيم مشهد الاحتجاج وتفكيكه، الذي هيمنت عليه جماعة "السترات الصفراء" قبل الحجر الصحي الأول في مارس/ آذار الماضي، مستغلاً حالة الطوارئ الصحية، انفلتت الأمور أكثر مع ظهور حركات احتجاجية جديدة خارج الثنائية المثيرة للجدل: "السترات الصفراء" والحكومة، مثل نقابات الصحافة والجمعيات الحقوقية.
ليلة الاثنين تلك، وصفتها وسائل إعلام عديدة بـ"ليلة العار"، وشهدت عنفاً مفرطاً قامت به عناصر الشرطة ضد اللاجئين والمشاركين في الوقفة
ويضاف إلى ذلك اتحاد مثير وغير مسبوق لوسائل إعلام من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، طالبت الناس بالنزول إلى الشوارع والاحتجاج على "تقييد الحريات" الذي تمارسه حكومة جان كاستكس، بقيادة جيرالد درمانان. وما أكثر دلالة على حجم الأزمة من أن تقوم قناة "سي نيوز"، المنصة المفضلة لرموز اليمين المتطرف، بالتوقيع مع "لوموند" و"ليبراسيون" على دعوة الفرنسيين إلى النزول والتظاهر؟
ومن المقرر أن تنظم تظاهرة مركزية في العاصمة باريس، السبت المقبل، تحت عنوان "مسير الحريات"، بالإضافة إلى عشرات المدن الأخرى، للمطالبة باستقالة وزير الداخلية وسحب التشريعات والقوانين التي وضعها أمام النواب لنقاشها في البرلمان، ولا سيما قانون "الأمن الشامل" الذي فجّر هذه الأزمة، ووضع الحكومة كلها في ورطة، إذ ينص على حظر تصوير صور عمليات الشرطة وبثها ومعاقبة المنتهكين بالسجن لمدة عام ودفع غرامة 45 ألف يورو.
في الواقع، يأتي كل ذلك وسط صمت مطبق من الإليزيه، إذ لم يسمع عن الرئيس إيمانويل ماكرون أي كلمة في هذا الصدد، ما يوحي بحجم الأزمة التي سبّبها نتيجة الصلاحيات التي أعطاها لوزير الداخلية، وكأن الأخير حلّ مكانه في اتخاذ القرارات المثيرة للجدل، إلى حد وصف صحيفة "ليبراسيون" ما يحصل بأنه "تحطيم للجمهورية" في افتتاحيتها يوم الثلاثاء الماضي.
جيرالد درمانان، منذ دخوله قصر الحكومة في ماتينيون، حصل على استقلالية لم يحصل عليها أي وزير في تاريخ فرنسا، وذلك شكّل مفاجأة حتى في صفوف الأغلبية التابعة للرئيس، فهو أصبح شخصاً لا يجرؤ أحد على أن يقول لا في حضوره، لكنه على هذا المسرح ليس بطل استراتيجية ماكرون الوحيد، بل ينضم إليه زميله في الحكومة وزير التربية الوطنية جان ميشال بلانكير، والأخير تصفه ألين سالفي في "ميديا بارت" بأنه وزير الإليزيه المدلل، الذي يواجه الآن فضيحة تورطه بإنشاء منظمة للمدارس الثانوية تدعم قراراته السياسية في الحكومة، ونالت تمويلاً بعشرات آلاف اليوروهات تدور حوله شبهات كثيرة، ويُسمَع همس كبير عن مطالبات بالتضحية به لتقديم استقالته قبل أن تكبر الفضيحة.
إلى جانب بلانكير، جاء اختيار درمانان في حكومة جان كاستكس في إطار استراتيجية سعى إليها ماكرون وهو يقف على بعد سنتين من انتخابات رئاسية يقدّر كثيرون أنها ستكون أصعب بكثير من تلك التي أوصلته إلى قصر الإليزيه، فأصبح الوزيران محوري هذه الاستراتيجية القائمة على المجازفة وعدم الاستسلام للضغوط، بعكس الحكومة السابقة تحت لواء إدوارد فيليب، إذ كان بلانكير أكثر انضباطاً بفضل سياسة فيليب في التعامل مع القضايا الحساسة داخل المجتمع الفرنسي، كما كان وزير الداخلية كريستوف كاستانير أكثر تواضعاً وخبرة في التعامل مع واجباته وصلاحياته والتوازنات كوزير للداخلية، لكن في النهاية بالنسبة إلى ماكرون كانت الأمور أشبه بسوق وبضائع، فلم يحصل كاستانير على تقييم جيد لما يعرضه. أما إدوارد فيليب، ففضّل الابتعاد عن "سوق الإليزيه"، بعدما أثار غيرة ماكرون بتفوقه عليه في استطلاعات رأي شكّلت نقطة الافتراق بين استراتيجية الرئيس ورئيس وزرائه.
اليوم، يستعيد آلاف الفرنسيين خطاب ماكرون عام 2017 مع فوزه بالانتخابات ووعده بـ"الإنسانية والمثالية"، وأنه قبل نهاية عام 2017 لن يسمح بأن ينام شخص في الشارع، لكن منذ أسابيع، ويوم السبت المقبل، سيشاهد الرئيس أكثر من أي وقت مضى، آلاف الفرنسيين في الشوارع يصرخون في وجهه ويطالبون وزير داخليته بالاستقالة، وهذه المرة لن يكون هؤلاء من "السترات الصفراء" فقط، بل أيضاً من نقابات الصحافة وجمعيات حقوقية ووسائل إعلام تحوز ثقة كبيرة داخل المجتمع الفرنسي.