تتعدّد الأسباب التي تقف خلف النزاعات المتجددة في إقليم دارفور غربي السودان، بين الفراغ الأمني وانسحاب بعثة "يوناميد"، وفشل السلطات في نزع السلاح المتفلت وتطبيق اتفاقيات السلام الموقّعة، غير أن النتيجة تبقى واحدة، مئات الضحايا على أيدي القبائل في الإقليم. الانفجار الجديد الذي بدأت شرارته يوم الجمعة الماضي، وشمل ولايتي غرب دارفور وجنوب دارفور، وصلت حصيلة القتلى فيه إلى 179 قتيلاً على الأقل وعشرات الجرحى، وسط توقعات بارتفاع هذه الحصيلة، وتخوف من انفجار جديد في الإقليم، يتشابه مع قصص الموت والدمار التي شهدها دارفور قبل سنوات.
بدأت الأحداث الجمعة الماضية في مدينة الجنينة، مركز ولاية غرب دارفور، المتاخمة للحدود مع دولة تشاد، بخلاف بين مواطنين اثنين من قبيلتين مختلفتين، انتهت بمقتل أحدهما، طبقاً للرواية الرسمية التي نشرتها السلطات الحكومية. وبمجرد إعلان الوفاة من مستشفى المدينة، دشنت مجموعات من قبيلة القتيل حملة انتقام قائمة على الهوية، لتصل الحملة إلى معسكر "كرنديق" الذي يؤوي آلاف الفارين منذ سنوات من جحيم الحرب الأهلية، التي اشتعلت في الإقليم منذ عام 2003. وفشلت محاولات والي الولاية، محمد عبد الله الدومة، المحسوب على قوى "الحرية والتغيير" الحاكمة، استدعاء القوات النظامية للتدخل، حتى وصلت الحصيلة إلى 159 من الضحايا، يومي السبت والأحد الماضيين، مع هدوء نسبي أول من أمس الإثنين، فيما توقعت مصادر طبية مثل لجنة أطباء الولاية العثور على المزيد من القتلى خلال الأيام المقبلة نتيجة صعوبة الوصول إلى مناطق أخرى خارج المدينة امتدت إليها نيران المواجهة. حدث كل ذلك في ظل شلل تام أصاب المنطقة وفشل الأطقم الطبية في القيام بمهمتها في إنقاذ حياة الجرحى والمصابين، وفي ظل موجات فرار كبير من معسكرات النزوح، واللجوء إلى داخل المدينة، وسط نقص في الغذاء والمياه والدواء، ما دفع لجنة الأطباء نفسها إلى مطالبة الحكومة المركزية بإعلان الولاية منطقة منكوبة تستدعي تسخير كل الإمكانات الوطنية، وطلب العون الدولي لإيقاف النزيف وإغاثة المشردين وتضميد الجراح.
بالتوازي مع أحداث ولاية غرب دارفور، انفجرت أحداث مماثلة في جنوب دارفور، كبرى ولايات دارفور الخمس، وشهدت قرية الطويل التي تبعد نحو 65 كيلومتراً من مدينة نيالا، مركز الولاية، هجوماً وصلت حصيلة قتلاه إلى 20 شخصاً. ونجح تحرك حكومة ولاية جنوب دارفور في محاصرة النزاع قبل استفحاله وانتقاله إلى مناطق أخرى مثلما حدث في غرب دارفور، وذلك بعد إرسال حكومة الولاية، على وجه السرعة، قوات عسكرية مشتركة تمكنت من السيطرة على الموقف. وجاء هجوم قرية الطويل في سياق نزاع قديم متجدد بين قبيلتي الرزيقات والفلاتة، آخر مظاهره وقعت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأودى بحياة 15 شخصاً، ولم تفلح كل محاولات الصلح بين القبيلتين في إخماده.
كل تلك الوقائع أثارت قلقاً داخلياً وخارجياً كبيراً، لا سيما أنها تأتي في وقت ينشغل فيه السودانيون بالتوتر الأمني على الحدود الشرقية مع الجارة إثيوبيا، حيث أعاد الجيش تمركزه على الحدود واستعاد مناطق احتلتها إثيوبيا لنحو ربع قرن. كذلك أثارت قلقاً من نوع آخر يتهدد تنفيذ اتفاقيات السلام التي وقّعتها الحكومة مع حركات متمردة في الإقليم، وقبل ذلك تزيد تلك الوقائع المخاوف الناتجة عن انسحاب قوات بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي "يوناميد" بقرار من مجلس الأمن الدولي بعد انتشارها في إقليم دارفور منذ عام 2007. كل ذلك دفع مجلس الأمن والدفاع السودانيين إلى إصدار أوامر بإرسال تعزيزات عسكرية عاجلة، لا سيما إلى غرب دارفور، وتشكيل لجنة تحقيق والتعهد بتقديم المتورطين في الأحداث للعدالة، بينما طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس السلطات السودانية ببذل كل الجهود لتهدئة الأوضاع وإنهاء القتال واستعادة القانون والنظام وضمان حماية المدنيين. وكذلك دعت الولايات المتحدة عبر سفارتها في الخرطوم، الحكومة السودانية إلى العمل مع البعثة الأممية المتكاملة "يونيتامس" لحماية المدنيين وتنفيذ اتفاقية السلام.
تأخير تنفيذ اتفاق السلام تسبّب في توجيه رسالة سلبية
وحول أسباب عودة العنف القبلي إلى دارفور، يقول نور الدائم طه، المتحدث الرسمي باسم "حركة تحرير السودان"، الموقّعة على اتفاق مع الحكومة الانتقالية، إن جملة أسباب تقف خلف ذلك، أهمها التركة الثقيلة للنظام القديم الذي سعى خلال ثلاثين عاماً من حكمه لإثارة الفتن بين القبائل وتفكيك النسيج الاجتماعي، والتركة تلك وبجراحاتها لا يمكن إزالتها بين ليلة وضحاها وتحتاج إلى وقت طويل وتغيير جذري سياسي ومجتمعي. ويضيف طه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تأخير تنفيذ اتفاق السلام الموقّع في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بين الحكومة وأطراف السلام في جوبا "وهو أمر تتحمّله كل الأطراف"، تسبّب في توجيه رسالة سلبية على الأرض، إذ لم يتم حتى الآن تشكيل قوة مشتركة من الجيش والشرطة والدعم السريع وحركات الكفاح المسلح، بواقع 20 ألف جندي، لحفظ السلام في دارفور وحماية المدنيين. ويشير إلى أن ذلك التأخير ترك فراغاً أمنياً زاد من وتيرة الاشتباكات القبلية في الأيام الماضية، معتبراً أن مجلس الأمن الدولي الذي اتخذ قرار إنهاء تفويضه لبعثة "يوناميد" استعجل في قراره، لا سيما في ظل التعقيدات الأمنية الحالية، كما أنه لم يمنح البعثة الأممية الجديدة "يونيتامس" تفويضاً عسكرياً لحماية المدنيين، مشيراً إلى أن المجتمع الدولي لم يستجب لكل النداءات الصادرة من النازحين وحركات الكفاح المسلح وأهل المصلحة بشأن الإبقاء على البعثة السابقة إلى حين وضع الترتيبات الأمنية البديلة.
وحول أسباب تأخر تشكيل القوة المشتركة بموجب اتفاق السلام، يوضح طه أن عدم تشكيل الآليات الخاصة بتنفيذ اتفاق السلام على المستوى القومي والولائي والمحلي، والتباطؤ في تشكيل مفوضية السلام، يقفان وراء عدم انتشار القوات المشتركة، مشيراً إلى أن كل أطراف السلام تسعى إلى علاج مشاكلها الداخلية والدخول في حوار شامل وديمقراطي لتجاوز كثير من العقبات والوصول إلى تفاهمات بشأن تشكيل الحكومة المركزية والمفوضيات المستقلة، وإنشاء سلطة إقليمية واحدة قوية، وذات كفاءة في دارفور، لتكوين المحصلة لصالح العملية الأمنية في الإقليم.
من جهته، يقول الخبير في شؤون إقليم دارفور، عبد الله آدم خاطر، إن ما حدث في الأيام الماضية ليس بجديد، إنما هو امتداد لأحداث طويلة وقعت في الإقليم نتيجة سياسات هدم التعايش القبلي التي انتهجها النظام البائد، لصالح الهيمنة المركزية من ناحية، وتوسيع قاعدة الحرب التقليدية ضد القبائل التي ساندت التمرد في السابق، من ناحية أخرى، وتحديداً قبائل المساليت والفور والزغاوة، مشيراً إلى أن الاستنكار الأكبر لما وقع في غرب وجنوب دارفور، ينبع من كون ذلك تم بعد إطاحة النظام القديم، ومجيء نظام جديد كانت التطلعات والآمال بعده عريضة وكبيرة.
ويوضح خاطر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تلك التطورات الأمنية لا تتحمّلها الحكومة الانتقالية إنما مجموعات تسعى للنهب والسلب والثراء السريع، إذ لا يأخذ النزاع طابعاً قبلياً محضاً، بل تتجلى فيه الأبعاد السياسية الموروثة، مؤكداً وجود إمكانية وفرصة لمحاصرتها من خلال إشاعة قيم التعايش القبلي والمجتمعي، وبناء الثقة، وتنفيذ اتفاق السلام، وهو أمر يحتاج إلى تكاتف بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء وحركات الكفاح المسلح التي أضحت جزءاً من الحكومة، إضافة إلى المجتمع المدني ومنظماته الفاعلة، وفق قوله. ولا يؤيد خاطر ما ذهب إليه طه بشأن استعجال المجتمع الدولي في إخراج بعثة "يوناميد"، مشيراً إلى أن تلك البعثة انتشرت في دارفور وفقاً لتقديرات خاصة بمصلحة السلام وحماية المدنيين، وخرجت الآن بتدبير خاص بمصلحة السلام الموقّع أخيراً في جوبا، مع التأسيس لبديل هو البعثة الأممية الجديدة، ومعها الآليات الوطنية الخاصة بحماية المدنيين، ومن بينها آلية القوات المشتركة التي من المفترض تشكيلها في الفترة المقبلة.
فشلت لجنة شكلتها الحكومة برئاسة حميدتي في نزع السلاح
أما الصحافي السوداني جعفر السبكي، المقيم في بروكسل، فيردّ تصاعد وتيرة الصراعات القبلية وازدياد ضحاياها إلى الانتشار الكثيف للسلاح في دارفور، سواء في أيدي المليشيات أو لدى المواطنين عامة، مستشهداً باستخدام طرفي النزاع في غرب دارفور السلاح في نزاعهما. ويرى في حديث لـ"العربي الجديد" أن ظاهرة التسليح الممنهج وبكل تبعاتها لن تتلاشى إلا بإرادة قوية وأفعال على الواقع، لنزع السلاح وإبقائه بيد القوات النظامية فقط، مبيناً أن الحلول الأخرى، مثل تكرار تشكيل لجان تحقيق والتعهد بتقديم المتورطين إلى المحاكمات، ستبقى مجرد مسكنات ليس إلا. ويلفت إلى أن الحكومة الحالية شكّلت لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد دقلو (حميدتي) للقيام بمهمة جمع ونزع السلاح، لكن اللجنة التي مضى عليها أكثر من عام لم تفعل أي شيء سوى الحديث لوسائل الإعلام، وفق قوله. ويحمّل المسؤولية كاملة للقصور في ضبط المليشيات التي ترتكب جرائم ضد المدنيين لكل من رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه حميدتي، قائلاً إن كلاً منهما يقود قوات ويتفرج على ما تقوم به المليشيات المدججة بالسلاح في حق المدنيين، مشدداً على ضرورة فرض هيبة الدولة وسيادة حكم القانون كشرط لتحقيق الأمن والاستقرار في دارفور وغيرها من مناطق النزاع على طول البلاد.