مع دخول الحرب على قطاع غزة شهرها الخامس، ورغم ما ألحقته من دمار رهيب، وقرابة 30 ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى، وتحويل غزة إلى منطقة يصعب الحياة فيها، ما زالت النقاشات والخلافات قائمة بين قيادات التحالف الحكومي في إسرائيل السياسية والعسكرية، حول مصير ومسار الحرب. وقد تكون سمة الخلافات العلنية ووجهات النظر المتناقضة هي الأبرز في هذه الحرب، مقارنة بحروب سابقة.
ما زالت الحرب الحالية على غزة تحمل العديد من الأسئلة المفتوحة والتخبطات لدى صناع القرار الإسرائيلي، أهمها سؤال الاستمرار بالحرب وقضية الأسرى والمخطوفين.
فهل تتجه إسرائيل نحو استمرار الحرب المدمرة على قطاع غزة لإشباع رغبة الانتقام وترميم أدوات الردع المفقود، والمخاطرة باستمرار الخسائر البشرية -ولو تراجعت بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة-، وبمصير الأسرى والمخطوفين، وتآكل مكانة إسرائيل الدولية، وتوسيع الهوة والخلافات مع الإدارة الأميركية؟ أم تذهب إلى صفقة تبادل ووقف إطلاق نار لمدة طويلة، قد تؤدي إلى وقف الحرب دون الإعلان عن ذلك رسمياً.
نتنياهو لا يلغي بالمطلق إمكانية التوصل إلى صفقة، بل يرفع ثمنها بشكل كبير بغية إرضاء قواعد اليمين
تتأثر حالة التخبط وعدم الحسم، من ضمن أمور أخرى، بطبيعة وخصوصية الحرب على غزة وتركيبة التحالف الحكومي في إسرائيل، وكذلك من المنظومة السياسية الحالية.
فالحرب الحالية على غزة ليست تقليدية بين جيوش يمكن أن تنتهي بانتصار عسكري واضح، يؤدي الى وضع سياسي ودبلوماسي مختلف عما كان عليه الحال قبل بداية الحرب. في حالة الحرب على غزة هناك صعوبة أصلاً بتعريف ما هو الانتصار.
إسرائيل لم تحقق أهدافها من الحرب
إسرائيل حددت الأهداف الرسمية للحرب بالقضاء على قدرات حركة حماس العسكرية والإدارية في غزة، وإلغاء أي تهديد أمني مستقبلي من القطاع على إسرائيل، لكنها لم تحقق لغاية الآن هذه الأهداف.
لنفترض جدلاً أن إسرائيل حققت جزءاً من هذه الأهداف، فهل يعني ذلك انتصاراً؟ وهل عودتها إلى السيطرة الشاملة على قطاع غزة انتصار أم ورطة وهزيمة لمشروعها السياسي منذ أوسلو؟
وهل صمود واستمرار المقاومة في غزة، ولو بوتيرة وجرعات أقل، تعني عدم انتصار إسرائيل؟ وهل الانتقال بعد الحرب إلى مسار سياسي ودبلوماسي لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يعني فشل إسرائيل وفشل مقاربة اليمين المتطرف الجديد تجاه القضية الفلسطينية؟ وهل المعايير العسكرية ستحدد الانتصار أو الفشل، أم ستكون المعايير السياسية؟ هذه الأسئلة مطروحة على طاولة قادة التحالف الحكومي في إسرائيل وتؤثر على مجرى الحرب وخيارات إسرائيل.
حالة التخبط وإشكالية حسم الموقف تتأثر أيضاً بطبيعة المنظومة السياسية الإسرائيلية، والحاجة إلى تشكيل حكومة تحالف من عدة أحزاب، تحمل، كما في الوضع الراهن، مشاريع وأيديولوجية سياسية متناقضة.
هذه التناقضات تُنتج عدم القدرة على الحسم أو حتى إصدار موقف واضح للحكومة في قضايا جوهرية، كما برز في الأيام الأخيرة حول اقتراح صفقة التبادل الجديدة بين "حماس" وإسرائيل. بحيث نجد أن مُركبات الحكومة تصدر مواقف متناقضة، بل وأحياناً أعضاء في الحزب نفسه يعبرون عن مواقف غير موحدة، كما حصل داخل "الليكود"، الأمر الذي يزيد الضبابية وعدم اليقين حول مصير الصفقة المقترحة.
مواقف متناقضة داخل التحالف الحكومي في إسرائيل
تصريحات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تشي بأن إسرائيل تبتعد عن صفقة تبادل أسرى ووقف إطلاق نار جديد مع "حماس"، بحيث يتشدد نتنياهو في موقفه، ويوضح أنه لن يقبل بوقف الحرب أو تحرير عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين في غزة.
كما أضاف نتنياهو، في الأيام الأخيرة، أن الحرب لن تنتهي قبل القضاء على قيادات "حماس". نتنياهو لا يلغي بالمطلق إمكانية التوصل إلى صفقة، بل يرفع ثمنها بشكل كبير بغية إرضاء قواعد اليمين، وربما ليرسل رسالة للوسطاء بأن شروط الصفقة لن تكون وفق إيقاع "حماس".
وزير الأمن يوآف غالانت ما زال يتمسك في مقاربته أن الضغط العسكري هو ما يضمن تحرير الأسرى والمخطوفين، وكفيل بالتأثير على "حماس" وقياداتها، للتوصل إلى اتفاق تبادل مقبول لإسرائيل دون وقف الحرب.
غالانت لم يغير موقفه منذ بداية الحملة البرية في قطاع غزة، على الرغم من أن الواقع في الميدان لا يعزز ادعاءه لغاية الآن. من هنا تأتي زيادة الضغط العسكري في الأيام الأخيرة في خانيونس والتلميح بفتح جبهة رفح، ما يُصعب على أرض الواقع إمكانية التوصل إلى صفقة تبادل.
إفشال صفقة التبادل يحمل ثمناً سياسياً قد يكون بالغاً للحكومة الإسرائيلية وللوحدة الداخلية
يبذل اليمين المتطرف الجديد، عبر بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، مجهوداً خاصاً لإفشال أي صفقة تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، حيث يعتبران ذلك فشلاً للعملية العسكرية والحرب على غزة، وسيلحق ضرراً بالغاً بمصير ومكانة إسرائيل. هؤلاء يريدان استمرار الحرب، ولو بثمن خسارة كافة الأسرى والرهائن، ويطالبان بعودة الاستيطان إلى غزة وسيطرة إسرائيل على كافة الأراضي الفلسطينية.
أما حزب "المعسكر الرسمي"، بقيادة بني غانتس وغادي أيزنكوت، فإنه يميل إلى دعم التوصل لصفقة تبادل لإطلاق كافة الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين في غزة، ولو كان ثمن ذلك إيقاف الحرب وإطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
إلا أن غانتس لم يُحول هذا الموقف إلى شرط معلن لبقائه في التحالف الحكومي في إسرائيل لغاية الآن. وعلى ما يبدو سينتظر بعض الوقت لتتضح صورة المفاوضات أكثر، ولتتضح حالة الجبهة الشمالية.
في المقابل، يلمح الجيش، من دون أن يعلن ذلك بموقف صريح وعلني، إلى أنه لا يعارض الوصول إلى اتفاق تبادل أسرى، ولو كان الثمن وقفاً مؤقتاً وطويلاً لإطلاق النار، وأنه مستعد للعودة للقتال حتى لو بعد ثلاثة أو أربعة أشهر.
أزمة استراتيجية للحكومة الإسرائيلية
رد حركة حماس، الذي لم يرفض الإطار المقترح لصفقة التبادل، وطالب بتعديلها لتكون مدخلاً لوقف الحرب وإنهاء العدوان وتحرير الأسرى الفلسطينيين ووقف الحصار على غزة، سيزيد التعقيدات على اتخاذ القرار في الحكومة الإسرائيلية، التي كانت ترغب ربما أن يكون رد الحركة سلبياً، ليسهل على الحكومة تحميل "حماس" المسؤولية عن إفشال الصفقة والتهرب من إسقاطاتها.
في الوضع الراهن، وبعد رد "حماس"، سيكون من الصعوبة بمكان أن تستمر الحكومة الإسرائيلية في المناورة والمراوغة، ولا تستطيع إفشال صفقة تبادل ما زالت في مرحلة التبلور وبناء الإطار.
إفشال صفقة لم تتبلور بعد يمكن أن يؤدي إلى خروج غانتس وأيزنكوت من الحكومة، وعملياً بدء حركات احتجاج جماهيرية جدية قد تهدد تماسك الحكومة، وتزيد التصدعات الداخلية.
ويمكن لهذا الأمر أن يؤدي إلى توسيع الخلاف مع الإدارة الأميركية واتخاذ مواقف وخطوات عقابية، ولو رمزية، تجاه الحكومة الإسرائيلية. كما أن عائلات الأسرى والمخطوفين ستزيد احتجاجها ضد نتنياهو والحكومة، وهو ما سيعقد أكثر الحالة السياسية الداخلية.
بهذا المعنى إفشال صفقة التبادل يحمل ثمناً سياسياً قد يكون بالغاً للحكومة وللوحدة الداخلية. كما يمكن أن يؤدي رفض الصفقة في هذه المرحلة إلى تعطيل أي وساطة أميركية فرنسية على جبهة الشمال مع لبنان و"حزب الله"، ويقرب توسيع الجبهة هناك.
في المعطيات الحالية ستحاول الحكومة الاستمرار بالحرب على غزة قدر الإمكان، وإعاقة التوصل إلى اتفاق تبادل، دون أن تعلن أنها ترفض صفقة تبادل، وستحاول تحقيق إنجازات استراتيجية في الميدان، كما لمح لهذا، في الأيام الأخيرة، غالانت ويسرب الجيش حول مجريات المعارك في خانيونس.
إلا أن هذا التحايل والمناورات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وستضطر الحكومة، خصوصاً نتنياهو، لاتخاذ قرار وإنهاء التخبط والتهرب من الحسم.
أي قرار ستتخذه الحكومة يمكن أن يكون بداية نهاية التحالف الحكومي في إسرائيل. على نتنياهو أن يختار، إما الذهاب نحو صفقة واستمرار التحالف المؤقت والمشروط مع غانتس وأيزنكوت وخسارة اليمين المتطرف، أو التمسك بتحالف اليمين المتطرف مع بن غفير وسموتريتش، والذهاب إلى صدام مع المجتمع الإسرائيلي والإدارة الأميركية.