شكلت جلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي، يومي الخميس والجمعة الماضيين، حدثاً تاريخياً بالنسبة للفلسطينيين والعرب وداعمي القضية الفلسطينيّة حول العالم، وأيضاً بالنسبة لإسرائيل التي تمثل أمام المحكمة لأول مرة بتهمة الإبادة الجماعية، وذلك بفضل الدعوى التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا للمحكمة.
وتُمثل الخطوة التي قامت بها جنوب أفريقيا بالنسبة للكثيرين امتحاناً للعالم ومؤسساته الدولية لوقف حرب الإبادة المستمرة في غزة، ولمدى إمكانية الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية على أرض الواقع عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
صخب على مدخل محكمة العدل الدولية
مدخل "قصر السلام"، وهو اسم مبنى محكمة العدل الدولية الذي يضم محكمة التحكيم الدائمة وأكاديمية لاهاي للقانون الدولي ومكتبة قصر السلام الشاملة، كان صاخباً يومي الخميس والجمعة الماضيين، رغم حالة الهدوء التي تحيط بالأحياء المحيطة بالمحكمة والمدينة عموماً.
عكست الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا للمحكمة وثيقة قانونية تاريخية عالية المهنية
ورغم البرد القارس ودرجة الحرارة التي وصلت إلى 6 تحت الصفر، احتشد المئات منذ الصباح الباكر عند المدخل للتظاهر، وسط حضور مكثف للشرطة الهولندية وخيالتها، والتي خصصت اليوم الأول للتظاهرة المؤيدة لإسرائيل بالقرب من المدخل، واليوم الثاني لمؤيدي محاكمة إسرائيل.
الملاحظة الأولى: طاقم دولة جنوب أفريقيا
عكست الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا للمحكمة وثيقة قانونية تاريخية عالية المهنية، اعتمدت على بحث معمق مرفق بأدلة عديدة، بحسب شهادة عدد من خبراء القانون والأشخاص الذين حضروا الجلسة. وانعكس ذلك أيضاً في أداء الطاقم القانوني خلال جلسة المرافعة يوم الخميس الماضي، حيث ركزت مداخلاته على قضايا قانونية، مستخدمين لغة القانون بعيداً عن محاولات التأثير العاطفي أو الخطابات السياسية.
ارتداء طاقم جنوب أفريقيا وشاحاً بألوان العلم الجنوب أفريقي يدل على اعتزاز وثقة بالخطوة التي أقدمت عليها الحكومة. في اليوم الثاني، وخلال جلسة الرد الإسرائيلي، لوحظ ارتداء عدد من طاقم جنوب أفريقيا للكوفيات الفلسطينية للتأكيد رمزياً على موقف جنوب أفريقيا في دعم القضية الفلسطينية إلى جانب الدعم القانوني.
خارج المحكمة، شرح وزير العدل الجنوب أفريقي رونالد لامولا، خلال مؤتمر صحافي الجمعة الماضي، لماذا أقدمت جنوب أفريقيا على هذه الخطوة بعيداً عن ترديد شعارات رنانة. وقال لامولا، رداً على سؤال لـ"العربي الجديد"، عن ماضي جنوب أفريقيا خلال حكم نظام الفصل العنصري وكون إسرائيل كانت آخر دولة تدعم النظام حينها قبل انهياره، إن خطوة جنوب أفريقيا لم تأت للانتقام من إسرائيل أو الإسرائيليين، بل لأنها تقف عند مبادئها ضد الفصل العنصري في أي مكان في العالم، كونها جرائم ضد البشرية وستعمل على منعها في أي مكان، مؤكداً أن وجودهم هنا هو لحماية الشعب الفلسطيني في غزة وليس انتقاماً من أحد.
وقالت مصادر مُطلعة، على اتّصال بطاقم جنوب أفريقيا، لـ"العربي الجديد"، إن الطاقم يشعر بارتياح بعد انتهاء جلسات المحكمة، ويتوقع أن تقبل محكمة العدل الدولية جزءاً كبيراً من طلباته التسعة الخاصة بالإجراءات الاحترازية، مثل أمر إسرائيل بوقف الحرب والسماح بعودة المهجرين إلى منازلهم في غزة ووقف استهداف المدنيين على الأقل.
الملاحظة الثانية: الحضور الإسرائيلي
لم تنجح إسرائيل في خلق حضور جاذب للانتباه لها في محكمة العدل الدولية أو خارجها. في الداخل، اكتفى الطاقم الإسرائيلي بالاستماع لمرافعة جنوب أفريقيا في اليوم الأول، والرد في اليوم الثاني. لم يقم الطاقم الإسرائيلي بتنظيم مؤتمر صحافي كما فعلت جنوب أفريقيا بعد جلستي الخميس والجمعة، بحيث نظّمت الأخيرة في كل يوم مؤتمراً داخل المحكمة وخارجها. ارتأى الطاقم الإسرائيلي على الأغلب أن المؤتمر الصحافي لن يكون في صالحه في مثل هذه الظروف.
عدد المؤيدين لإسرائيل أمام مقر محكمة العدل الدولية قليلة جداً ولم يتجاوز خلال اليومين العشرات. شركات دعاية هولندية عديدة رفضت وضع إعلانات فيها صور الأسرى الإسرائيليين ضمن حملة دعاية للحكومة الإسرائيلية.
لعب بعض الصحافيين خلال مؤتمرات نظمتها جنوب أفريقيا دور محامي الدفاع عن إسرائيل
حاولت إسرائيل تركيز الانتباه على قضية الأسرى في غزة، وخصصت من خلال طواقم الدعاية لها، خلال اليوم الثاني من المحكمة، مائدة وكراسي فارغة عليها صور الأسرى، فيما حضر بعض الممثلين عن عائلاتهم. لكن البعض تساءل لماذا يرفض بعض أهالي الأسرى الإسرائيليين مطلب وقف الحرب، وهو ما تطالب به جنوب أفريقيا؟ ألا يعني استمرار الحرب على غزة خطر مقتل أبنائهم؟
الملاحظة الثالثة: التمثيل الفلسطيني والعربي
لا يمكن إغفال غياب شخصيات فلسطينية وعربية سياسية وازنة عن المحكمة، إذ اقتصر الحضور الفلسطيني على عدد قليل جداً من السفراء ومساعدي الوزراء.
أما عربياً، فلعل الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي كان الشخصية العربية الوحيدة البارزة التي حضرت إلى المحكمة، مع الإشارة إلى حضور عدد من الشخصيات السياسية الأوروبية، مثل نواب من أيرلندا وإسبانيا، وزعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة" اليساري جان لوك ميلانشون، والزعيم السابق لحزب العمال البريطاني جيريمي كوربن، ونواب من البرلمان التركي، وممثلين عن حركات ومؤسسات حقوقية عديدة.
الملاحظة الرابعة: المتظاهرون في الخارج
شارك قرابة ألف متظاهر في كل يوم دعماً لمسعى جنوب أفريقيا في محاكمة إسرائيل في لاهاي. توافد المتظاهرون من عدة مدن في هولندا وأوروبا دعماً للشعب الفلسطيني، آملين بأن تحقق لهم محكمة العدل الدولية ما لم تحققه مؤسسات المجتمع الدولي على مدار عقود، وهو القليل من العدالة. التحدث مع عدد من الناشطين الفلسطينيين أمام المحكمة يشي بشيء من التفاؤل الحذر.
جلب إسرائيل للمحكمة، وقبل صدور القرار النهائي بحد ذاته مهم بالنسبة لهم. منهم من جاء من مدن أوروبية بحثاً عن أمل في وقف الحرب ومحاكمة إسرائيل، لكن دون وضع آمال كثيرة.
ورأى نشطاء لأجل فلسطين في أوروبا أن صدور قرار يدين إسرائيل أمر يساهم في نشاطهم ونضالهم بعد ملاحقات وتضييق أو اتهام بمعاداة السامية، خصوصاً في دولة مثل ألمانيا. كان التوقع بحضور أعداد أكبر للتظاهر من أجل غزة خارج المحكمة، لتكون بالآلاف. البعض يعزو سبب ذلك للطقس شديد البرودة، وإضراب سائقي القطارات في ألمانيا الذي صعب من حضور مجموعات عديدة خططت للمشاركة. لكن هناك من تساءل عن الحضور القليل من هولندا نفسها.
الملاحظة الخامسة: تغطية وسائل الإعلام
حظيت جلسات محكمة العدل الدولية بتغطية كبيرة من وسائل الإعلام العالمية، وامتلأت الغرف المخصصة للصحافة داخل المحكمة بالصحافيين من عشرات وكالات الأنباء والفضائيات والصحف والمواقع. وتبين لاحقاً أن بعض الفضائيات العالمية المنحازة للرواية الإسرائيلية، لم تبث اليوم الأول من المحكمة أثناء مرافعة جنوب أفريقيا، وبثت اليوم الثاني الذي خصص للرد الإسرائيلي، أو أن بعض وسائل الإعلام لم تعط المحكمة الكثير من التغطية كما هو متوقع.
لعب بعض الصحافيين خلال المؤتمرات الصحافية التي نظمتها جنوب أفريقيا بعد الجلسات، دور محامي الدفاع عن إسرائيل من خلال الأسئلة. أحد الأسئلة كان: "هل أنتم مع تحرير المختطفين الإسرائيليين؟"، أو "هل تدينون أعمال حماس الإرهابيّة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟".
أما الصحافيون الإسرائيليون، فكانوا في أسئلتهم كمن يريد وضع دولة جنوب أفريقيا في خانة التحالف مع حركة حماس. وبدا واضحاً، لمن شاهدهم داخل المحكمة، كم كانوا غير معتادين على تغطية أخبار عن محاكمة إسرائيل، وإنها للحظة تاريخية أن تشاهدهم يتواجدون في مكان يجبَرون فيه على الاستماع لساعات لجرائم إسرائيل في غزة، ويشاهدون من يتهم حكومتهم بالإبادة الجماعية، في الوقت الذي فتح فيه الإعلام الإسرائيلي، الذي يعملون فيه، منصاته للأصوات التي تؤيد الإبادة في غزة.