اختفت، خلال الأيام الماضية، صور وأخبار قادة الصين في وسائل الإعلام الرسمية في البلاد، إيذاناً ببدء الخلوة السرية لقادة الحزب الشيوعي في منتج "بي داي خه" في مقاطعة خوبي، شرقي العاصمة بكين. وعلى الرغم من تزامن الخلوة مع فترة الإجازة السنوية المعتادة، فإنها تُعتبر الاجتماع الأهم بالنسبة لصنّاع القرار، لدراسة ومناقشة أهم الملفات والقضايا المتعلقة بالحزب والدولة، والتي عادة ما يتم الإعلان عن نتائجها في جلسات البرلمان السنوية التي تُعقد في مارس/آذار من كل عام. ويأتي اجتماع هذا العام، المستمر في الفترة الحالية، في ظل تحديات داخلية وخارجية كبيرة. فعلى مستوى الحزب، هناك تساؤلات عن مستقبل الرئيس شي جينبينغ بعد انتهاء ولايته الثانية العام المقبل، هل سيختار المجتمعون رئيساً جديداً أم سيمدد له لفترة ثالثة؟ أيضاً هناك تحديات لها علاقة باستراتيجية الصين في مكافحة وباء كورونا، إذ علت أصوات تطالب بتغيير الاستراتيجية الصفرية، بعد ظهور مناطق موبوءة جديدة في الصين وتزايد حالات الإصابة، على الرغم من الإجراءات الحكومية الصارمة.
بدأ ماو تقليداً بعقد اجتماعات سنوية في منتجع بي داي خه
وعلى مستوى السياسة الخارجية، هناك تهديدات لها علاقة بالصراع مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى النزاعات الحدودية، إلى جانب ملفي تايوان وهونغ كونغ، وكذلك الضغط الدولي بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ. في أواخر يوليو/تموز 1954، توجّه الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، إلى منتج سياحي يبعد حوالي 280 كيلومتراً عن العاصمة بكين، وذلك لقضاء أول إجازة له، بعد أن كان قد أرسى دعائم الجمهورية الشعبية عام 1949.
كان ماو شغوفاً بالسباحة، وقد كان المنتجع الساحلي ملاذاً له للهروب من حرارة الصيف وأعباء السياسة، وسرعان ما تحوّل إلى بيت للضيافة استقبل فيه العديد من قادة الاتحاد السوفييتي آنذاك، الذين زاروا الصين من أجل مساعدتها على النهوض واللحاق بقطار التنمية. على الرغم من أن الهدف من التردد على المنتجع سنوياً هو الحصول على وقت للاسترخاء بعيداً عن روتين العمل والضغوط اليومية، فإن مشاكل السياسة لاحقت ماو حتى خلال فترة إجازته.
ومع مرور الوقت، تحوّل المكان إلى غرفة اجتماعات سرية بين قادة الحزب، تمخضت عنها الكثير من القرارات الهامة في تاريخ البلاد. بعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976، قررت اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي، أن تصبح "بي داي خه" مقصداً سياحياً خاصاً بالنخب السياسية لقضاء فترة الإجازة الصيفية ومناقشة الملفات والقضايا الملحّة، قبل أن يتطور الأمر ليصبح تقليداً سنوياً يجتمع فيه القادة للتحضير لاجتماعات البرلمان التي تعقد في شهر مارس/آذار من كل عام، ولاحقاً أدى المنتجع الصيفي دوراً كبيراً في تشكيل ورسم ملامح السياسة الصينية الداخلية والخارجية.
وفي مطلع أغسطس/آب 1958، كان ماو يدرس في منتجع "بي داي خه" خطة لاستعادة جزيرة تايوان التي كان القوميون الصينيون قد تحصنوا فيها بعد هزيمتهم على يد الشيوعيين عام 1949. لم تمض أيام حتى صدرت الأوامر للجيش الصيني، في الثالث والعشرين من ذلك الشهر، بقصف جزيرة كن من بأكثر من 40 ألف قذيفة مدفعية، في حادثة عُرفت باسم أزمة مضيق تايوان الثانية.
وشهد العام نفسه إقرار المكتب السياسي للحزب، الخطة الخمسية الثانية للأمة الصينية (1958-1962)، والمعروفة باسم "القفزة الكبرى إلى الأمام"، والتي أدت لاحقاً إلى كارثة إنسانية تسببت في وفاة نحو 30 مليون شخص. ولعل القرار الأبرز، إطلاق ماو تسي تونغ شرارة "الثورة الثقافية" (صراع على السلطة داخل الحزب) التي اندلعت في منتصف ستينيات القرن الماضي واستمرت عشر سنوات، وقد تسببت أيضاً في حالة من العنف والفوضى في البلاد لم تنته إلا بموت ماو.
في عام 1983 أطلق الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ، من منتجع "بي داي خه"، حملته الشهيرة لمكافحة الجريمة، وذلك بعد انهيار النظام الاجتماعي والأمن العام في البلاد في أعقاب "الثورة الثقافية". وربما أحدث القرارات المثيرة للجدل والتي اتُخذت أيضاً في دهاليز منتجع "بي داي خه"، قبل أن تتم المصادقة عليها في مؤتمر الحزب الوطني، إلغاء البند الذي يحدد ولاية الرئيس في الدستور بفترتين فقط، وهو الأمر الذي أعطى الرئيس الحالي سلطة مطلقة في إحكام قبضته على الحزب والدولة.
وحول أبرز الملفات المطروحة للنقاش خلال الاجتماعات الحالية والنتائج المتوقعة، قال أستاذ الدراسات السياسية في معهد قوانغ دونغ، لين تشين، إن اجتماع هذا العام قد يكون الأهم في تاريخ الحزب الحديث، لأنه سيحدد شكل القيادة خلال الفترة المقبلة، وذلك بعد إلغاء البند الخاص بتحديد ولاية الرئيس. وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه على الرغم من تجنّب وسائل الإعلام الرسمية الإشارة إلى الاجتماعات نظراً لسريتها، فإن هناك حالة من الترقب، لمعرفة كيف سيتجاوز الحزب هذه العقبة التي تعتبر سابقة في تاريخه. وأشار لين تشين، إلى أن ملف أزمة القيادة قد يطغى على ملفات أخرى ليست أقل أهمية، وهي بطبيعة الحال تشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي الصيني، مثل استراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين والتي تهدف إلى احتواء نفوذ الصين. وكذلك مسألة استعادة جزيرة تايوان في ظل التهديد الأميركي بالمنطقة، وصفقات الأسلحة الأخيرة بين تايبيه وواشنطن، بهدف تعزيز قدرات تايوان الدفاعية.
من جهته، قلل عميد كلية الدراسات التاريخية السابق في جامعة سوتشو، غوانغ يوان، في حديث مع "العربي الجديد"، من أهمية الاجتماعات الجارية بين قادة الحزب في منتجع "بي داي خه"، معتبراً أن الرئيس الحالي ليس لديه منافسون، بعد تمكنه من تصفية خصومه في إطار حملته على الفساد وإحكام قبضته على مقاليد الحكم.
اتُخذت قرارات عدة في الاجتماعات وأبرزها "الثورة الثقافية"
وقال إنه ليس من المتوقع أن يتم طرح أسماء بديلة، خصوصاً أن أعضاء اللجنة الدائمة السبعة (أعلى سلطة في الدولة) جميعهم موالون للرئيس شي، وليس من بينهم من لديه طموح في خلافته، على الأقل خلال المدى القصير. وأوضح أن هناك فروقات كبيرة بين الوضع الراهن والحال الذي كان عليه القادة السابقون، لافتاً إلى أن قيادة شي الحازمة لا تجعله بحاجة إلى غرف مغلقة لإقناع بقية الأعضاء أو التأثير عليهم بشأن قرارات سياسية، وبموجب ذلك يتحول المنتجع إلى فصل من التلقين وتدوين الأفكار والقواعد الخاصة به، باعتبار أنه اللاعب والرابح الوحيد.
وأشار غوانغ يوان، إلى أن قادة الحزب السابقين كانوا بحاجة لأجواء ودية بعيداً عن الاجتماعات الرسمية، من أجل تداول الأفكار ومحاولة استمالة الخصوم والتأثير على المنافسين، وهو أمر يعطي المنتجع معناه الحقيقي، ويجعله مكاناً للاستجمام والاسترخاء بالنسبة لرئيس البلاد لقضاء إجازة صيفية قصيرة. يذكر أنه تم إغلاق منتجع "بي داي خه"، لمدة عشرة أعوام أثناء "الثورة الثقافية" (1966-1976) بسبب حالة الفوضى والفلتان الأمني، قبل أن يعاد افتتاحه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي في عهد الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ. وفي عام 2003 أغلق المنتجع مرة أخرى، فلم تكن قيادة الرئيس هو جينتاو، تولي أهمية كبيرة له، ولكن في عهد الرئيس الحالي شي جينبينغ، تم استئناف طقوس الحزب الشيوعي، باستثناء العام الماضي، حيث أغلق المنتجع بسبب كورونا.