تضع وفاة كبير المفاوضين الفلسطينيين، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، صائب عريقات، السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس أمام تحدي اختيار خليفة لعريقات في هذين المنصبين المهمين، خصوصاً في ظل محورية أمانة سر المنظمة في مستقبل الصراع على السلطة، بالتوازي مع منصب لا يقل أهمية بالنسبة للقضية وهو كبير المفاوضين، ولو أن المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي معلقة وأقرب إلى الميتة منذ العام 2014. وتنبع أهمية منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بأنه يتعلق بمن سيخلف رئيس المنظمة، إن كان بشكل مؤقت في حال غيابه، أو بشكل دائم كما جرى الأمر عندما كان محمود عباس أميناً لسر المنظمة وأصبح رئيسها بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات. وتزداد أهمية هذا المنصب حالياً أنه يعني ضمنياً في حال تولاه عضو ينتمي لحركة "فتح" بأنه سيكون المرشح الأقوى لرئاسة منظمة التحرير، وربما السلطة، وبالتالي سيدخل رسمياً في معركة "خلافة عباس".
وبرحيل عريقات بقي عضوان قياديان من حركة "فتح" في منظمة التحرير، هما رئيس اللجنة محمود عباس، وعزام الأحمد الذي تم ترشيحه من الرئيس ليكون عضواً في اللجنة التنفيذية لأول مرة في مايو/أيار 2018. لكن من غير المتوقع أن تسمح صقور "فتح"، وأهمهم أمين سر اللجنة المركزية للحركة جبريل الرجوب ونائب رئيسها محمود العالول، لعزام الأحمد بالحصول على هذا المنصب الذي يقرّبه من رئاسة المنظمة. ولعل الرجوب الذي يقوم بجهود كبيرة أخيراً على صعيد إنهاء الانقسام بين حركته و"حماس" من أبرز المرشحين لأمانة سر المنظمة.
وبينما يحظى منصب أمانة سر منظمة التحرير بعدد من المتنافسين، إلا أن رئاسة دائرة شؤون المفاوضات لا تحظى بذات الكم من المرشحين. ويعود السبب إلى أن ملف المفاوضات ظل دائماً حكراً على الرئيس، أولاً عرفات، ومن بعده عباس، وصائب عريقات المقرب منهما، مع التنبيه إلى أن أسماء أخرى دخلت على خط المفاوضات الأمنية والمالية مع الاحتلال الإسرائيلي، أبرزها رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ورئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ.
برحيل صائب عريقات بقي عضوان قياديان من حركة "فتح" في منظمة التحرير، هما محمود عباس وعزام الأحمد
وتعود قلة المرشحين لمنصب رئيس دائرة شؤون المفاوضات إلى ندرة من تنطبق عليهم شروط هذا المنصب، وأهمها قربه وثقة عباس به، وإجادة اللغة الإنكليزية بطلاقة، وأن يرضى هذا القيادي الفلسطيني بأن يقترن اسمه علناً بلقاء قادة الاحتلال الذين تلطخت أيديهم بالدماء الفلسطينية وشاركوا أو أشرفوا على عمليات عسكرية ضد الفلسطينيين، والأهم أن أي مفاوض جديد سيرث مساراً من فشل المسار التفاوضي، من دون أي إنجازات سابقة من الممكن أن يُراكم عليها طيلة العقود الثلاثة الماضية.
وتطفو على السطح بعض الأسماء لملء منصب رئيس دائرة شؤون المفاوضات، أبرزها زياد أبو عمرو، ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ورئيس هيئة الشؤون المدنية عضو اللجنة المركزية لـ"فتح" حسين الشيخ، وعضو اللجنة المركزية لـ"فتح" رئيس الحكومة الحالية محمد اشتية، وعضو وفد المفاوضات منذ مدريد عام 1991 حنان عشراوي.
بالنسبة لأبو عمرو، فهو يملك نقاط قوة تجعله الأكثر حظاً في رئاسة دائرة المفاوضات على خطى عريقات، فهو مقرب من عباس، ويجيد اللغة الإنكليزية إذ يحمل شهادة دكتوراه من جامعة جورج تاون الأميركية، فضلاً عن أنه يحمل الجنسية الأميركية مثل عريقات. كما أنه عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهذا شرط أساسي لمن يريد أن يتولى أي دائرة في المنظمة مثل دائرة شؤون المفاوضات، إذ يشغل أبو عمرو منصب مسؤول دائرة العلاقات الدولية، وقام عباس بترشيحه لعضوية التنفيذية على أنه عضو مستقل.
وقالت مصادر لـ"العربي الجديد" إن "أبو عمرو لديه علاقة جيدة بالأميركيين". وعلى الرغم من عدم وجود أي تفاصيل حول ماهية علاقة أبو عمرو مع الأميركيين سواء على مستوى مسؤولين أو أعضاء في الكونغرس الأميركي، إلا أن مسؤولين في الصف الأول من السلطة الفلسطينية يؤكدون علاقة أبو عمرو الجيدة بواشنطن، وهو الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس الوزراء ومستشار الرئيس الفلسطيني. ولفتت المصادر إلى أن "أبو عمرو لا يقوم بعمل فعلي في منصبه نائباً لرئيس الوزراء، وتم تعيينه في هذا المنصب بشكل مستمر منذ عام 2013 وحتى اليوم، أي في آخر خمس حكومات فلسطينية، وذلك بناء على رغبة الرئيس أبو مازن". أما حول عمله مستشاراً لعباس، فكل ما رشح من معلومات حول مهماته كمستشار هو قيامه بتقديم ملخص يومي لأبرز الأحداث والتحليلات السياسية في الولايات المتحدة الأميركية للرئيس، فضلاً عن مشاركته في كل اجتماعات القيادة حتى قبل أن يرشحه عباس لمنصب عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 2018.
ومن المعروف أن أبو عمرو، المولود في قطاع غزة عام 1950، لا ينتمي إلى حركة "فتح" بل إنه خاض انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 بدعم من حركة "حماس"، وكان مرشح الأخيرة لرئاسة الحكومة الفلسطينية عام 2012 خلال جولات حوار المصالحة بين "فتح" و"حماس" وقدمته الأخيرة على أنه نائب مستقل في المجلس التشريعي. ولفتت مصادر متطابقة إلى أن اقتراب أبو عمرو من عباس بدأ عندما استقال من منصبه في حكومة الوحدة الوطنية بعد أحداث الانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس" عام 2007، قبل أن يقيلها أبو مازن، وتحوّل إلى ناقد لـ"حماس" التي اتهمته لاحقاً بالتحريض عليها.
وعلى غرار أبو عمرو الذي لا يحب عدسات الكاميرا أو التحدث للإعلاميين، يُعتبر رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج اسماً مطروحاً لتولي ملف المفاوضات مع الاحتلال. وعلى الرغم من ابتعاده عن المشهد الإعلامي والمشادات الكلامية التي تدور أحياناً بين القيادات الفلسطينية، إلا أن فرج يُعتبر الرجل الأقوى في الضفة الغربية في السنوات العشر الماضية وما زال، والأكثر قرباً من الرئيس الفلسطيني، وسبق أن شارك في اللقاءات المعروفة بالاستكشافية أو لقاءات "التقريب" التي تمت إبان محاولة وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري في عهد باراك أوباما استئناف المفاوضات عام 2014، وتم تكليفه من قبل عباس هو وعريقات لتسليم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رسالة عام 2012، حول شروط العودة للمفاوضات.
ويُحسب لفرج أنه يراعي مزاج الشارع الفلسطيني، وأكبر دليل على ذلك عندما تملص من تقديم العزاء بالرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس بذريعة حادث في ذات اليوم في سبتمبر/أيلول 2016. ويُعتبر فرج واحداً من ثلاثة أو أربعة أشخاص يشكلون الحلقة الضيقة لعباس ويراهم بشكل شبه يومي إلى جانب رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ، ومديرة مكتب الرئيس، انتصار أبو عمارة.
فرج تدرج في المناصب الأمنية على عكس أبو عمرو الأكاديمي، ولديه علاقات جيدة مع الأميركيين، ويجيد اللغة العبرية بحكم سنوات اعتقاله الست في سجون الاحتلال، والأمر ذاته لحسين الشيخ الذي يجيد العبرية بسبب اعتقاله لأكثر من عشر سنوات لدى الاحتلال. وفرج ليس عضواً في اللجنة المركزية لحركة "فتح" على عكس حسين الشيخ، لكن كليهما ليسا عضوين في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لكن هذا الأمر لا يُعتبر عائقاً على الإطلاق إذ يملك عباس اليد الطولى في هندسة أعضاء اللجنة التنفيذية واختيار من يريد، ولا يحتاج إلى أكثر من الدعوة إلى اجتماع طارئ للمجلس المركزي لاختيار عضو أو أكثر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
وسبق أن صرح عباس عند إعلانه أسماء أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد اجتماع المجلس الوطني في 4 مايو/أيار 2018: "هؤلاء 15 عضواً، واللجنة التنفيذية الحد الأقصى فيها 18 مقعداً"، مضيفاً "تبقى ثلاثة مقاعد لأننا لا نريد أن يبقى أحد خارج الوحدة الوطنية، لأننا لا نحب الإقصاء، وهناك تنظيمات الجبهة الشعبية، وحماس إن قبلت بالوحدة الوطنية، وإن قبلت بالالتزام بقرارات المنظمة، والجهاد الإسلامي والمبادرة والجبهة العربية الفلسطينية، هذه المقاعد لهؤلاء، وإن احتجنا لأكثر سنخترع المقاعد اللازمة لهم، أي للضرورة القصوى".
من جهته، يحظى الشيخ، الذي يترأس هيئة الشؤون المدنية منذ عام 2013 برتبة وزير، بفرصة لقيادة المفاوضات حسب أكثر من محلل سياسي. ويدرك الجميع أن جميع مفاتيح التنسيق المدني في الضفة الغربية مع الشيخ منذ سنوات، وهو يعمل بشكل يومي مع المسؤولين الإسرائيليين في كل ما يتعلق بالحياة اليومية للفلسطينيين من تنسيق مدني وتنسيق حركة عباس (إذن حركة) وإنشاء مدن صناعية، وما يتعلق بالكهرباء وعائدات الضرائب وغيرها، أي "مفاوضات يوم بيوم" وليست تلك المفاوضات المتعلقة بملفات الحل النهائي مثل السيادة والحدود واللاجئين والقدس. وليس سراً أن الشيخ من المستحيل استبعاده عن ملف التنسيق المدني مع الاحتلال، وهو من الحلقة المصغرة المحيطة بعباس، وعادة ما يكون رفيقه في جولاته خارج البلاد عربياً ودولياً، وتحديداً في الأعوام القليلة الماضية.
أما حنان عشراوي التي مثّلت منظمة التحرير في محادثات الشرق الأوسط في مدريد 1991، فمن غير المتوقع أن توافق على ترؤس دائرة شؤون المفاوضات بعد سنوات من تهميشها من قبل عباس، وإبعادها عن المطبخ السياسي.
توقعات بأن يبقي عباس المركزين الشاغرين في "ثلاجة الانتظار"
وبالنسبة لرئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية، وهو عضو في اللجنة المركزية لحركة "فتح" ومسؤول ماليتها، وشارك لفترة قصيرة مع عريقات في المفاوضات قبل أن يستقيل في سبتمبر/أيلول 2013، فيُعتبر أحد الأسماء القوية في "معركة خلافة" عباس. ومن غير المعروف إن كان اشتية، الذي يحمل شهادة دكتوراه من الجامعات البريطانية، قد يوافق على قيادة مفاوضات لم تنجح في أوقات أفضل فلسطينياً وعربياً ودولياً، وما إذا كانت قيادته للمفاوضات في حال تم ترشيحه لعضوية منظمة التحرير ستكون مختلفة بعد أن أصبح رئيس الحكومة.
المقربون من عباس والذين يعرفون عقليته السياسية التي تقوم على اللعب على التناقضات بين القيادات الفلسطينية وعدم تقوية أي من المتنافسين بشكل كبير حتى لا يصل إلى مربع خلافته، يميلون إلى القول إن عباس سيضع المركزين الشاغرين في "ثلاجة الانتظار" ليرى إن كان الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن سيعيد إحياء العملية السياسية، وبالتالي ستكون هناك حاجة لمفاوض فلسطيني. أما بالنسبة لمنصب أمين سر منظمة التحرير، ففي حال لم يفلح تجميد المنصب لوقت طويل، قد يختار عضواً مستقلاً من اللجنة التنفيذية أو فتحاوياً لا يشكل أي خطر عليه، ويُبقي رأس الرئيس الثمانيني بعيداً عن صداع رياح التنافس الفتحاوية الشديدة.