خرافة السلام الاقتصادي... تعزيز للاستيطان والتبعية وتصفية للقضية الفلسطينية

26 يونيو 2022
الخطوط المغربية أعلنت في مارس الماضي عن مسار مباشر بين الدار البيضاء وتل أبيب (Getty)
+ الخط -

تعتبر مقولة السلام الاقتصادي؛ التي تُروّج من قبل الدوائر السياسية والأكاديمية المرتبطة بالمصالح الصهيونية، إحدى أكثر المقولات خطورة، نظراً لما تحمله من أهداف تتعلق بتفكيك البنية الاجتماعية الفلسطينية، وتصفية القضية الفلسطينية، وحق العودة، عبر أدوات القوة الاقتصادية الناعمة، ولما تتضمنه من تعزيز سياسات التوسع الإسرائيلية، لهضم ما جرى ابتلاعه مسبقاً من الأراضي والثروات الفلسطينية البشرية والمادية. كما يشكل استخدام مقولة السلام عبر الاقتصاد والتنمية ركناً أساسياً من أركان الخطاب الإسرائيلي الراهن، والموجه بشكل أساسي لحفظ ماء وجه المطبّعين ومشرّعي التطبيع من الحكّام العرب، خاصة أن المبادرات الدولية الأخيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مثل صفقة القرن، والمشاريع التي تُطرح مراراً وتكراراً عن تأسيس مملكة فلسطين الهاشمية وغيرها، تعتمد في جوهرها على تعزيز الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية من بوابة التغلغل الاقتصادي، وبحجج واهية تتعلق بشكل أساسي بإمكانية تحقيق الرفاه للشعب الفلسطيني عبر تعزيز التعاون الاقتصادي مع الجانب الصهيوني.

ترتكز هذه المقولة في جانبها الأيديولوجي على الرؤى الليبرالية الجديدة، التي تنطلق من أن التكامل الاقتصادي يكون دائما لمصلحة الطرف الأضعف، لأنه يسهم في نقل المعلومات والتكنولوجيا من الاقتصاد الأقوى، وسيوفر بالتالي للطرف الأضعف في المعادلة فرصاً كبيرة للتنمية، ورفع معدلات التوظيف، وتطوير إمكانات القوى العاملة، ما يسهم في ترسيخ الأسس الاقتصادية لبناء السلام. هذه النظرة الاقتصادوية الاختزالية لأبعاد الصراعات وعلاقات القوة والهيمنة، تخفي خلفها ما يمكن تسميته مع المفكر الأميركي ديفيد هارفي بالإمبريالية الجديدة، التي تعتمد في جوهرها على آليات النهب والتراكم، عبر نزع ملكية الشعوب الأصلية لممتلكاتها وثرواتها، وتحويلها لعمالة رخيصة لصالح الرأسمال المتوحش. ضمن رؤية هارفي هذه؛ فإن ما يحتاجه الكيان الصهيوني ليس سلاماً بل استسلام كامل من بوابة الاقتصاد، يمهد لتحويل أصحاب الأرض الأصليين إلى عمال ووكلاء وسماسرة محرومين من استثمارهم المستقبلي لثرواتهم الوطنية. تبرز الأهداف الخفية لمقولة السلام الاقتصادي في تصفية أي إمكانية لتحقيق حتى ما يمكن تسميته بحل الدولتين، ونشوء دولة فلسطينية مستقلة على ما تبقى من جغرافية فلسطين المحتلة.

يبرز ذلك بوضوح عبر واقع التبعية والربط الاستعماري للاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني، أمثلة ذلك كثيرة جداً؛ لعل أبرزها أن مناطق السلطة الفلسطينية وقطاع غزة ممنوعة من جميع أشكال الاستقلال الاقتصادي، فالسلطة الفلسطينية لا تملك أي إمكانية لإصدار عملتها الخاصة، وهي ملزمة بالتعامل بالشيقل الإسرائيلي. كما أنه ليست للصادرات الفلسطينية موانئ أو مطارات مستقلة، ويجد الفلسطينيون أنفسهم ملزمين بحكم قوى الاحتلال على استخدام المطارات والمعابر التابعة للكيان، والمدارة من قبله.

التبعية الاقتصادية تتوضح بحقائق أن 55% من الواردات الفلسطينية تأتي من اقتصاد الكيان الصهيوني، في حين أن أكثر من 80% من صادرتها تتوجه لأسواق الكيان. إضافة لذلك، فإن الكيان الصهيوني وعبر مقولة السلام الاقتصادي، يسعى إلى الحفاظ على البنية الريعية الخدمية التابعة للاقتصاد الفلسطيني، إذ إن 22% من إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني يأتي من خدمات التجارة، في حين لا يزيد الاقتصاد الحقيقي الصناعي والزراعي عن 10% لكل منهما. هذا يخدم المصالح الصهيونية لضمان بيع منتجاتها ضمن السوق الفلسطينية من دون منافسة، وفي الوقت نفسه استغلالها العمالة الفلسطينية المنتجة الرخيصة.

وعليه، فإن تحقيق السلام من بوابة الاقتصاد بين طرفين، أحدهم تابع ومسلوب الحقوق وآخر متوسع واستيطاني ويملك الهيمنة، ما هو إلا تزييف أيديولوجي لضمان التفوق الصهيوني. واقع الاحتلال الإسرائيلي يبين بوضوح أننا لا نتحدث عن اقتصادين مستقلين بين دولتين، يمكن أن يسهم تعاونها الاقتصادي في تحقيق الاعتماد المتبادل، وبالتالي تحقيق التقارب على مستوى السياسات الأمنية والاستراتيجية والاجتماعية، فالاقتصاد الفلسطيني ليس إلا ساحة خلفية لرأسمال الإسرائيلي وحاجاته للتوسع، وخزان لليد العاملة الرخيصة، التي يمكن استغلالها بفعل قوانين الاحتلال، إذ تشكل العمالة الفلسطينية قرابة 14.1% من القوة العاملة داخل مناطق الكيان، ولا شك في أن هؤلاء يجرى استغلالهم للحفاظ على الحدود الدنيا للأجور، من دون حصولهم على أي حقوق وضمان صحي واجتماعي. ولو سلمنا جدلاً بأن سلطات الاحتلال تهدف حقاً لتحقيق السلام عبر التعاون الاقتصادي المتكافئ والعادل، لكانت أولى الخطوات لتحقيق ذلك هو انهاء الاحتلال، والاعتراف بحق العودة، وحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة.

في السياق ذاته، تمكن الإشارة إلى أن مقولات التعاون وتحقيق السلام عبر التنمية الاقتصادية أصبح لها حضور كبير في النظريات الأمنية المعاصرة، التي تسمى بنظريات الأمن البشري. تعتمد هذه المقاربات الأمنية على أبعاد الاقتصاد وأدوات القوة الناعمة لضمان الأمن، في مقابل اعتماد النظريات والسياسات الأمنية التقليدية على التفوق العسكري كوسيلة وحيدة لضمان الأمن القومي. بعد عقود من محاولة الكيان الصهيوني ضمان أمنه القومي باستخدام القوة العسكرية، فإنه لم ينجح حتى الآن في القضاء على المقاومة الفلسطينية، سواء في مناطق الضفة الغربية أو قطاع غزة. وعليه، فإن مقولة السلام الاقتصادي تحمل أبعاداً أمنية، وتهدف لتحقيق التغلغل الناعم والخفي في النسيج المجتمعي الذي يحمي المقاومة ويؤسس لوجودها، إذ إن القوة العسكرية الصهيونية كانت وستبقى عاجزة عن القضاء على المقاومة، طالما أن حركات المقاومة تملك حاضناً اجتماعياً واقتصادياً ضمن بنية مجتمعها.

إذا نظرنا للبعد الاستراتيجي الإقليمي من وراء مقولة السلام الاقتصادي، يمكن أن نرى بأن اتفاقيات التطبيع التي وقعتها بعض الدول العربية، مثل الإمارات، مع الكيان الصهيوني، ترتكز بشكل أساسي على رغبة رأس المال الإسرائيلي في التوسع في السوق العربية، وخاصة أسواق الخليج العربي، لا سيما أن التفوق الإسرائيلي في مجال التكنولوجيا واقتصاد المعرفة سيضمن لها معدلات ربح عالية جداً، وسيساهم في تحول الأراضي والموانئ الصهيونية إلى محطة من محطات تصدير الغاز والنفط الخليجي إلى أوروبا. مثل هذا التوسع الإسرائيلي في سوق الخليج العربي، يتطلب أن تطرح إسرائيل أمام العرب مبادرات من قبيل السلام الاقتصادي لحل القضية الفلسطينية، ليس من أجل تحقيق السلام بالطبع، ولكن من أجل إحراج الفلسطينيين ووضعهم في خانة الرافضين للازدهار والرفاه، والمعيقين لتعزيز التعاون وتبادل الخبرات والتنمية في الإقليم، ما سيجعل الكيان الصهيوني في وضع يمكنه من تصفية كل القوى الفلسطينية الرافضة مثل هذه المشاريع بكل الوسائل الممكنة، من دون أن يكون هناك أي رد فعل دولي أو عربي رسمي على ذلك.

موقف
التحديثات الحية

إن السلام الاقتصادي ليس سوى خرافة، أو بشكل أدق شعار إيديولوجي لأهداف استيطانية وتوسعية صهيونية. وإن انطلت أو شكلت ذريعة لبعض النظم العربية للتخلي عن القضية الفلسطينية، فإنها لن تنطلي على الشعب الفلسطيني المقاوم. حقائق التاريخ وتطورات الصراع منذ عقود، تثبت بالوقائع بأن عمل الفلسطينيين ضمن الشركات الإسرائيلية، بشروط مجحفة وقائمة على الاستغلال الطبقي، لم يؤد إلى تصفية القضية، وتخلي هؤلاء العاملين عن انتمائهم التاريخي لفلسطين. فإن كانت ظروف الأمر الواقع، التي يفرضها الاحتلال، تحكم على الفلسطينيين التعامل الاقتصادي مع الكيان الصهيوني، فإن الشعب الفلسطيني كان وما زال واعياً في الوقت ذاته للمخططات التي تستهدف وجوده التاريخي على أرض فلسطين.