حول أهمية المقاومة المسلحة

29 سبتمبر 2024
فدائي فلسطيني اثناء تصدي المقاومة لقوات الاحتلال وسط مخيم جنين (ناصر اشتية/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تحول الآراء حول المقاومة الفلسطينية: شهدت الآراء تحولاً من الإشادة إلى المطالبة بوقف المقاومة المسلحة بسبب تدهور الأوضاع بعد العدوان الإسرائيلي على غزة وتصعيد الاحتلال في الضفة الغربية.

- التاريخ الاستعماري وتأثيره على فلسطين: فلسطين تعاني من استعمار استيطاني استبدالي منذ 76 عامًا، مما أدى إلى تهجير السكان الأصليين وتوسيع النشاط الاستيطاني، وفشل مشاريع التسوية في تحسين أوضاع الفلسطينيين.

- أهمية النضال المتكامل: النضال الفلسطيني يحتاج إلى تكامل بين الشقين السلمي والمسلح ودعم شعبي عالمي، حيث تلعب حملات المقاطعة والنضال السياسي والقانوني والإعلامي دورًا مهمًا في مواجهة الاحتلال.

تبدلت في الآونة الأخيرة العديد من الأصوات والآراء بشأن المقاومة الفلسطينية المسلحة، من الإشادة بها سابقا إلى المطالبة بوقفها حاليا، لهذه التبدلات أسبابها أو مبرراتها، منها حالة اليأس مما وصلت إليه الأوضاع بعد قرابة عام كامل من عدوان الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومن تصعيد لعدوان الاحتلال في الضفة الغربية، التي تشهد نسفا للبنى التحتية، وتدميرا للمنازل والممتلكات، واستهدافا قاتلا لا يميز بين المقاومين والمدنيين العزل، إذ يبدو أن الاحتلال يصعد بالضفة الغربية تدريجيا عن عمد، ربما بغرض الوصول إلى حالة تشابه ممارساته الإرهابية في قطاع غزة اليوم.

لكل من حالتي اليأس الشديد والتفاؤل المفرط جذر المشكلة ذاتها، المكونة من ركيزتين هما غياب التحليل المنطقي للأحداث، وبالتالي غياب القدرة على رسم مسارات وتصورات عدة محتملة لتطور الأحداث، والمقارنة في ما بينها لاستشراف سيرورة الأحداث المستقبلية. والأخرى التقلب السريع، فما اليأس الشديد، والتفاؤل المفرط سوى مشاعر تتسلط على المنطق السليم لتمنح رؤية واحدة لمن تتملكه هذه المشاعر، والمشاعر، كما نعلم جميعا، متقلبة دائما، لذا يؤدي تقلب المشاعر، من التفاؤل المفرط إلى اليأس الشديد، إلى تبني مواقف متناقضة، ليس المقصود بالتناقض هنا التناقض بين الرأي القديم والجديد، إنما التناقض في متن الرأي ذاته، ما يجعله رأيا لا يعتد به، ومع الأسف فإن العديد من أصحاب هذا التقلب يشهد لهم عادةً بسداد الرأي والتحليل السليم.

هنا لا بد من الإشارة إلى عدم تطرق المقالة الحالية لأصحاب الرأي المعادي/ المتهجم على المقاومة الفلسطينية المسلحة عموماً، لصالح تركيزها على من كان يشيد بالمقاومة المسلحة، ويمجد المقاومين أفراداً وجماعة حتى أيام خلت، ثم فقد الأمل بالنصر السريع، ليتحول الأمل إلى تشاؤم لا يرى سوى سعي الاحتلال للقضاء على الشعب الفلسطيني، عبر إبادة جماعية بشرية وحضرية هدفها النهائي التطهير العرقي الكامل للشعب الفلسطيني، ما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية التي عمادها وجوهرها الشعب الفلسطيني ووجوده الحضاري والثقافي.

يعتَبِر القانون الدولي قطاع غزة أراضي فلسطينية محتلة إسرائيليا، رغم انسحاب الأخير منه منذ عام 2005

تاريخيا؛ وقعت فلسطين منذ أكثر من ستة وسبعين عاما تحت أبشع أنماط الاستعمار الإمبريالي الأوروبي، نمط اختبرته هذه القوى الإمبريالية في ما يسمى اليوم بـ"أميركا وأستراليا" على الأقل. استعمار استيطاني استبدالي لا يعرف حدوداً، جاهز دائماً للتوسع في أراض جديدة عبر قتل سكانها وطردهم، معتمداً على مبرر المجال الحيوي، وهو مبدأ سنه المستعمرون الأوائل، وتبناه الآباء المؤسسون لما يسمى اليوم "الولايات المتحدة الأميركية"، وفي مقدمتهم رئيسها الأول "جورج واشنطن". في هذه الحالات؛ لم يستفد السكان الأصليون شيئا من استسلامهم وخضوعهم، بل سهل استسلامهم من عملية إبادتهم الجسدية والثقافية وسرعها، كما تشهد على ذلك مذبحة الركبة الجريحة في 29 ديسمبر/كانون الأول عام 1890، بعد أن سلم مقاتلو قبيلة "لاكوتا" أسلحتهم، في محاولة منهم لتجنب إبادتهم أو تهجيرهم من المكان الذي هجروا إليه سابقا، لكن لم يفِدهم الاستسلام سوى في تسهيل إبادتهم على يد قوات الولايات المتحدة النظامية.

في السياق ذاته، لن نجد تفسيرا لعدم اهتمام أحد، ربما الغالبية لم تعلم بالأمر، بتوغل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحتل جزءا من الأراضي السورية (الجولان السوري المحتل) منذ يونيو/حزيران 1967، إلى داخل الأراضي السورية، ليقتطع أراضي سورية جديدة على طول خط الهدنة، وبعمق 200 متر. الأغرب من ذلك، أن هذا الاعتداء ليس الأول، بل سبقه قبل نحو عامين توغل في بعض الأراضي السورية، وصل لقرابة كيلومترين. لم تحتجْ قوات الاحتلال لتبرير هذا الاعتداء لعدم اعتراض أحد عليه. هنا لا بد من التمعن أيضا بأن النظام السوري لم يمنح الاحتلال الإسرائيلي أية "مسوغات" لاعتدائه هذا، وفقا لمنطق بعضهم الذي يربط عدوان الإبادة الجماعية بالمقاومة الفلسطينية المسلحة المشروعة، فالمسوغ الحقيقي للاحتلال هنا هو ثقته المطلقة بسهولة قضم أراض جديدة، ومن دون أي خسائر تذكر.

فلسطينيا؛ علينا أن نتساءل: ماذا استفادت منظمة التحرير الفلسطينية من لعن نفسها، واعترافها بالاحتلال الإسرائيلي؟ مقابل السماح لها بالصعود رفقة الوفود العربية إلى قطار "التسوية" فقط، إذ توسع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية نتيجة نهج أوسلو، ليصل عدد المستوطنين اليوم إلى حوالي 800 ألف مستوطن يدعمون جيش الاحتلال، الذي يدعم جرائمهم بحق الفلسطينيين بالمقابل، وفي ظل تنسيق أمني مع السلطة الوطنية الفلسطينية.

لم يحصل الفلسطينيون من كل مشاريع التسوية سوى على زيادة التنكيل بهم وقمعهم وإفقارهم وقتلهم، ما جعل حياتهم بائسة أكثر من ذي قبل، ما مهد الطريق أمام تهجيرهم، الحاصل فعلا، بهدف استمرار الاحتلال بالتوسع الاستيطاني، والسيطرة على أراض جديدة. في هذا السياق؛ يمكن إلقاء نظرة سريعة على خريطة الضفة الغربية، لنلاحظ كيف عزلت المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها، نتيجة البؤر الاستيطانية وجدار الفصل العنصري. هل أعطت المقاومة الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية "المسوغات" لجيش الاحتلال الإسرائيلي ليشن حملة في الضفة الغربية ضد مقاومين لم تتجاوز عملياتهم حدود الدفاع عن مخيماتهم وبلداتهم ضد هجمات جيش الاحتلال ومليشيات المستوطنين؟!

يعتَبِر القانون الدولي قطاع غزة أراضي فلسطينية محتلة إسرائيليا، رغم انسحاب الأخير منه منذ عام 2005، وذلك بسبب استمرار السيطرة الإسرائيلية المُطلَقة على منافذ القطاع كلها، البرية والبحرية والجوية، إضافة إلى سيطرته الكاملة على شبكات الاتصال، وأجزاء مهمة من البنية التحتية، أهمها المياه النظيفة والوقود، إذ تضمّنت الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة حصاراً طويل الأمد، عمليات عسكرية دورية، وقيوداً شديدة على الحركة والاقتصاد، ما أدّى إلى معاناة كبيرة للسكّان، وصفتها منظمات حقوقية عديدة مرات عدة بأنها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، لأنها تتطابق، منذ ما قبل السابع من أكتوبر، مع البنود الثلاثة الأولى من المادة الثانية لاتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها".

إن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ومحاصرته لم يكن إلا احتلالاً بتكاليف أقل، ما مكن الاحتلال من التحكم بحياة الفلسطينيين، وممارسة عمليات إبادة وقتل جماعي متكررة في دورات زمنية تتراوح بين عامين إلى أربعة أعوامٍ، ومن دون أية "مسوغات".

حاليا، لم يتوقع أكثر المحللين الواقعيين تفاؤلاً أن يصمد الشعب الفلسطيني، والمقاومة في غزة حتى الآن، صحيح أنهم يَدفعون ثمن هذا الصمود من لحمهم وحياتهم، إلا أنهم يُدفّعون الاحتلال أثماناً باهظة أيضا، بشرية واقتصادية ودولية (لا يتسع المجال هنا لذكر كل الإنجازات المحققة).

وقعت فلسطين منذ أكثر من ستة وسبعين عاما تحت أبشع أنماط الاستعمار الإمبريالي الأوروبي

حال النضال الفلسطيني كحال نضال كل حركات التحرر، إذ يحتاج كل من شقيه السلمي والمسلح لبعضهما البعض، كما يحتاجان إلى حوامل وحواضن شعبية عالمية، قادرة على الاستمرار في التظاهر والإضراب حول العالم، والضغط على حكوماتها شريكة الاحتلال في جرائمه، أو الصامت عنها. فضلا عن حملات المقاطعة ذات الأثر المزعزع على المدى الطويل، خصوصا إن استمرت وتجذرت. كما لا يمكن التغاضي عن أهمية أشكال النضال الأخرى، السياسية والقانونية والإعلامية وغيرها.

سيدفعنا تسرب اليأس إلى قلوبنا حكماً إلى التقاعس عن دعم النضال الفلسطيني، وزعزعة حوامله، وهو خذلان لشعب يتعرض لإبادة جماعية، تحت ظل احتلال مستمر منذ عام 1917؛ إذ لا يمكن فصل الاحتلال الإنكليزي عن سياق الاحتلال الإسرائيلي ذاته.

يقال "العين لا تقاوم المخرز"، لكنه قول يتناسى أن العين لا تقرر من ذاتها مجابهة المخرز، ومن دون سبب يذكر، إنما حين ينكل بالجسم، ويكبل، ويتجه المخرز إلى العين مباشرة، لا يكون أمام العين أي خيار آخر إلا أن تقاوم المخرز، عبر تصلبها وصمودها، حينها يمكن أن تكسر العين المخرز، وهذا حال العديد من حركات التحرر حول العالم، التي استطاعت أن تكسر قوة احتلالها، وتحطم مخرزه بانتصارها. ولنا في الجزائر وأيرلندا وفيتنام وغيرهم خير مثال على ذلك، وكلنا أمل أن تصبح فلسطين مثالاً آخر لذلك نتغنى به رفقة كل المناضلين من أجل الحرية والتحرر والعدالة والمساواة.

المساهمون