حوار تونس: فرصة أخرى يتم إجهاضها

05 ابريل 2021
رد سعيّد قانون المحكمة الدستورية المعدل إلى البرلمان (شاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -

بعدما سيطرت أجواء من التفاؤل النسبي خلال الأيام الماضية، على الساحة التونسية المتوترة، بشأن إمكانية عقد الحوار الوطني، خصوصاً أن المشاورات السياسية بشأنه تمكنت من تحقيق نقاط تفاهم عدة، أعاد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مشاورات الحوار المنتظر إلى المربع الأول. وفاجأ سعيد ليل السبت - الأحد، البرلمان، برسالة مطولة رفض فيها تعديلات أقرها البرلمان في 25 مارس/آذار الماضي، لتقليص عدد الأصوات المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، من 145 صوتاً إلى 131. وكان البرلمان فشل على مدى السنوات الأخيرة في كل محاولات انتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين من أربعة أعضاء ينتخبهم، بسبب تفتت الكتل البرلمانية وخلافاتها والعجز عن تجميع الأغلبية الكبيرة. ولكي يدخل القانون المعدل حيز التنفيذ، يحتاج إلى مصادقة رئيس الجمهورية. وذكر بيان صادر عن الرئاسة التونسية، مساء السبت، أن سعيّد رد قانون المحكمة المعدل إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي، من أجل إعادة التصويت عليه في قراءة ثانية. وعزا سعيّد موقفه إلى خروقات دستورية شابته، داعياً إلى احترام كل المقتضيات الدستورية من دون تأويلات غير علمية وغير بريئة، على حد وصفه.

وإذا كان موقف سعيّد غير مفاجئ، إلا أنّ صيغة الرسالة وتوقيتها ومبرراتها، جاءت لتجهض مساعي تقريب وجهات النظر التي كان يقودها بشكل خاص "الاتحاد العام التونسي للشغل"، والهادفة إلى الحد من حالة التوتر بين الرئاسات الثلاث؛ الجمهورية والبرلمان والحكومة. مع العلم أنّ منسوب التفاؤل كان قد ارتفع بعد مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي، سأل فيها سعيّد عن صحة الغنوشي، بعد شائعات عن إصابته بوعكة صحية. ويتساءل مراقبون في تونس بعد هذه التطورات، عن كيفية تجاوز الأزمة، في ظلّ المعطيات الجديدة، وما إذا كان هناك وسطاء بإمكانهم بحث أرضية مشتركة تقرّب وجهات النظر، خصوصاً أن وضع البلاد لم يعد يحتمل مزيداً من الانتظار والتعطيل.

من المرجح أن يؤدي الوضع الجديد لتأجيل عملية الحوار

وكان الأمين العام المساعد لـ"اتحاد الشغل"، سامي الطاهري، أكد أول من أمس السبت، لوكالة الأنباء التونسية "وجود مساع للاتحاد، تهدف إلى رفع الحواجز أمام إطلاق الحوار الوطني بين الرئاسات الثلاث". وذكر الطاهري أنّ الأمين العام للمنظمة النقابية، نور الدين الطبوبي، "أجرى لقاءات واتصالات بالرئاسات الثلاث، في مساع ترمي إلى إذابة الجليد بينها"، معرباً عن أمل الاتحاد "في أن توفق جهوده إلى جمع الرئاسات والجلوس إلى طاولة الحوار".
وكانت معلومات حصلت عليها "العربي الجديد"، أفادت برغبة المنظمة النقابية، في بدء أولى خطوات الحوار، خلال الأسبوع الحالي، وإطلاقه قبل دخول شهر رمضان (13 إبريل/نيسان الحالي). وقد طرحت بعض الدوائر كذلك، فكرة لقاء أولي بين حركة "النهضة" والكتلة الديمقراطية المكونة من "حركة الشعب" وحزب "التيار الديمقراطي"، ثمّ تلتحق بها بقية الأحزاب، ولكن تم استبعاد الفكرة.
مع العلم أن تفاصيل المبادرة الأصلية التي كان "اتحاد الشغل" اقترحها، ووجهها مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى سعيّد، تتضمن إرساء هيئة حكماء تضم عدداً من الشخصيات الوطنية المستقلة من الاختصاصات كافة، تتولى مهام الإشراف على حوار وطني يقود إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية من أجل إنقاذ البلاد. ودعا الاتحاد في مبادرته، إلى أن تخضع الهيئة المذكورة، إلى إشراف رئاسة الجمهورية، بشرط ألا يترشح أعضاؤها إلى المناصب السياسية.

في السياق، قالت مصادر حزبية لـ"العربي الجديد"، إنه تم التداول في كواليس المشاورات بشأن الشخصية الأولى المقترحة لتكون ضمن الهيئة، وهو رئيس البرلمان السابق محمد الناصر، الذي تولى رئاسة الجمهورية بعد وفاة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، وذلك لقرب الناصر من "اتحاد الشغل"، ولكونه شخصية توافقية، قادت في السابق مفاوضات شاقة، قبل الثورة وبعدها، وهو حالياً بعيد عن أي انتماءات أو نشاطات حزبية. بالإضافة إلى أنّ سعيّد، أبدى حفاوة في استقباله قبل أيام، بمناسبة صدور كتابه "جمهوريتان، تونس واحدة"، وأشاد بخصاله، واصفاً إياه بأنه "من أصحاب العزائم الصادقة التي يمكن البناء معها".
ولكن على الرغم من هذا التوافق حول هذه الشخصية، فقد أثار الكتاب الموجّه من سعيّد لمجلس النواب بخصوص المحكمة الدستورية، ردود فعل عدة مستاءة، بسبب إشارته إلى وجود محاولة انقلاب من طرف نواب من حركة "النهضة" وحزب "تحيا تونس" الذي يرأسه رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، وهو ما ضرب هذه الوساطة الممكنة التي كان يمكن أن تلعب دوراً مهماً في هذه الظروف الصعبة. ومن المرجح أن يؤدي الوضع الجديد إلى تأجيل عملية الحوار برمتها إلى وقت لاحق، وربما يجهضها تماماً في صيغتها الحالية.

أثار الكتاب الموجّه من سعيّد لمجلس النواب بخصوص المحكمة الدستورية، ردود فعل عدة مستاءة

وفي هذا الإطار، اعتبر المحلل السياسي التونسي، قاسم الغربي، أنه "بقراءة المواقف والرسالة التي بعثها سعيّد، يمكن القول إنّ الحوار الوطني انتهى"، مشيراً إلى أنه "تم إجهاض الحوار قبل أن يبدأ، أي بالشكل الذي يكون سعيّد مشرفاً عليه تحديداً". وذكّر بأنّ "اتحاد الشغل" كان "لوّح سابقاً بإمكانية القفز فوق مشاركة رئاسة الجمهورية، وتنظيم الحوار الوطني بمعيّة منظمات أخرى كما حصل في عام 2013، بسبب قناعة راسخة لدى المنظمة النقابية بضرورة إجراء الحوار بشكل عاجل، لسوء الأحوال الاقتصادية، وتأزم الوضع الاجتماعي، وإمكانية انفجار الأمور".
ولاحظ الغربي أنّ قبول سعيّد بمبادرة "اتحاد الشغل" كان "لتفادي الحرج مع المنظمة النقابية"، مبيناً أنه "بحسب بعض الآراء، فإنّ الاتحاد كان سيعلن انفصاله عن سعيّد في حال رفضه للمبادرة التي قدمها، وربما يكون الرئيس التونسي قد استبق هذا الأمر بإعلان قبول الحوار من دون أن تكون لديه رغبة في ذلك، ما يعني أنه قبله شكلياً، ولكن عملياً كان يرفضه، خصوصاً بالشكل المقدم به، والذي يقضي بجمع كل الأطراف السياسية". وبحسب الغربي، فإنّ موقف سعيّد، يبيّن أنه "لا يريد إرساء المحكمة الدستورية".
ورأى المتحدث نفسه أنّ "الكرة حالياً في ملعب مجلس نواب الشعب، إذ لا يزال بالإمكان إرساء المحكمة الدستورية إن كانت هناك رغبة وصدق في ذلك من قبل النواب"، مشيراً إلى أنه "في حال انتخاب 3 أعضاء والتصويت عليهم في جلسة مقرر عقدها قي 8 إبريل/نيسان الحالي، فعندها ينتقل الضغط من البرلمان، بوصفه معطلاً للمحكمة، إلى رئيس الجمهورية".

ويلتقي الأمين العام لـ"حركة الشعب"، زهير المغزاوي، مع قراءة "اتحاد الشغل"، بضرورة الذهاب إلى الحوار. وقال في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "لمس لدى العديد من الأحزاب رغبة حقيقية في ذلك، وإرادة في تذليل الصعوبات. فليس هناك خيار سوى الجلوس على طاولة حوار تبحث مخارج للأزمة الحالية". ولكن المغزاوي لا يستطيع الجزم بشأن قرب انعقاد الحوار أو تأجيله، مقراً بـ"وجود صعوبات فعلية، ولكن هناك مساع للاتحاد خلال هذه الفترة لتجاوز هذه الصعوبات".
وحول الموقف من مشاركة بعض الأحزاب في الحوار المفترض، أكد المغزاوي أن ليس لحركته "فيتو" على أي حزب أو طرف سياسي، وحركته "مستعدة للمشاركة في حوار شامل".
في هذه الأثناء، أوضح الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، ما يعنيه أن يردّ رئيس الجمهورية مشروع تعديل قانون المحكمة الدستورية إلى البرلمان. وكتب في منشور عبر صفحته بموقع فيسبوك: "من الناحية الدستورية، يبقى ذلك حقاً مطلقاً يكفله الدستور لرئيس الجمهورية لرد أي مشروع قانون إلى مجلس نواب الشعب لقراءة ثانية. لكن ذلك يعني سياسياً رفضه لاستكمال بناء الهيئات الدستورية وتحويل حالة الفراغ إلى أمر واقع، يحاول تطويعه لفائدته في صراعه السياسي الذي يبدو أنه تحول إلى أولوية الأولويات لديه، ولو كان ذلك على حساب استقرار البلاد وتقدمها في مسار الانتقال الديمقراطي. ومما يعزز هذه الخشية، هو أنه من خلال هذا الرد، فإن رئيس الجمهورية يأمل في بقاء قانون المحكمة الدستورية على حاله، وهو يعلم أن مجلس نواب الشعب الحالي (والذي سبقه أيضاً)، فشل في توفير نصاب الـ145 نائباً إلا لمرشحة وحيدة (روضة الورسيغني)".

وقائع عدة تثبت أن سعيّد يريد الاستفراد بتأويل الدستور

بدوره، اعتبر القاضي السابق، أحمد صواب، في تصريح لإذاعة "إكسبرس أف أم" الخاصة، أمس، أنّ "العديد من الوقائع والأفعال والأقوال، تثبت أنّ الرئيس يريد الاستفراد بتأويل الدستور، حتى يكون قاضياً دستورياً، ويحكم بالفساد على من يريد من دون أدلة". وتابع صواب أن سعيّد "قام باقتناص سلطات رئيس الحكومة وافتكاكها في ما يتعلق بتركيبة حكومته، كما أنه يرى نفسه فوق البرلمان وله حق النقض تجاه السلطة التشريعية، خصوصاً في مسألة رفض أداء اليمين بالنسبة للوزراء المصادق عليهم من البرلمان". وقال صواب إنّ رئيس الدولة من الناحية الدستورية "يقوم بتأويل غريب للدستور، كما أنه يريد الحكم بمفرده من الجانب السياسي". وعما إذا كان رئيس الجمهورية يتخوف من إمكانية عزله في حال إرساء المحكمة الدستورية، اعتبر صواب أنّ "خطابات سعيّد أمام الجيش والأمن، وكذلك أمام الجماهير تثبت أن النفس المؤامراتية لديه تجعله يرفض ويشكك في كل شخص أو سلطة يمكن أن تكون مضادة له".
وعلى الرغم من هذه التوترات المستجدة، لا يبدو أن مشروع الحوار أجهض تماماً، لأنّ الجميع باستثناء الرئيس ربما، مجبر على الذهاب في هذا الاتجاه. فـ"اتحاد الشغل" مجبر لأن مصداقيته وأهميته التاريخية في الميزان، والظرف الاجتماعي الدقيق جداً يحتم عليه ذلك. أما الائتلاف الحاكم؛ "النهضة" و"قلب تونس" بالخصوص، فمحاصر ولا يستطيع إحراز أي تقدم يذكر في البرلمان، بالإضافة إلى التوتر الدائم، وتكرار محاولات سحب الثقة من الغنوشي، وشلل المؤسسة التشريعية. في حين أن المعارضة المسؤولة، تخشى تحمل تبعات التعطيل على الأزمة الاقتصادية والصحية الخانقة، ولا ترى في حل البرلمان إنقاذاً ممكناً لها، وستدفع ثمن ذلك عاجلاً أم آجلاً. بينما رئيس الحكومة هشام المشيشي، محاصر ومقيّد على الرغم من محاولاته لكسر هذا الحصار أخيراً من خلال مشاورات واتفاقات مع "اتحاد الشغل" ورجال الأعمال. ولذلك، فالكل أمام الخوف من غضب يتصاعد في الشارع، وقد يعصف بالجميع، وليس هناك من حل، إلا بإجراء الحوار سريعاً، وبعث رسائل تطمئن التونسيين.

تقارير عربية
التحديثات الحية
المساهمون