حوارات حول مخططات إسرائيل في الضفة 3| عن صعود تيار الصهيونية الدينية

10 سبتمبر 2024
الباحث الفلسطيني المختص في الدراسات اليهودية نبيه بشير (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تصاعد الأحداث في الضفة الغربية**: منذ حرب غزة في أكتوبر 2023، تصاعدت الأحداث في الضفة الغربية مع نقل صلاحيات قانونية من جيش الاحتلال إلى الإدارة المدنية، مما يشير إلى نية إسرائيل ضم أجزاء من المنطقة.

- **الصهيونية الدينية وتأثيرها**: حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة دعمت تيار الصهيونية الدينية، الذي يسعى لتحقيق "أمجاد مملكة إسرائيل" القديمة من خلال الاستيطان والسيطرة على الأراضي.

- **مستقبل الضفة الغربية**: نبيه بشير يرى أن الوضع يتجه نحو مزيد من التصعيد، مع دور كبير للصهيونية الدينية ودعم من التيار المحافظ الأميركي، مشيرًا إلى أزمة القيادة في المجتمع الفلسطيني والعربي.

تتسارع الأحداث بصورة لافتة في الضفة الغربية المحتلة، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وحتى قبلها بأشهر قليلة، في وقت يبدو فيه أن إسرائيل تخطط لضمّ أجزاء من المنطقة، ولو بصورة غير معلنة وغير رسمية، وهو ما يتضح جليًّا في مخططات وزير المالية الإسرائيلي والوزير الثاني في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، الذي عمل على نقل صلاحيات قانونية كبيرة من سلطة جيش الاحتلال إلى سلطة الإدارة المدنية العاملة تحت إمرته في الضفة الغربية. ومع موافقة الحكومة الإسرائيلية على سحب صلاحيات الإنفاذ من السلطة الفلسطينية في بعض المناطق المصنفة بحسب اتفاقية أوسلو بمناطق "ب" (في صحراء القدس)، يبدو أن الوضع الراهن، الذي تغير أصلًا تغيرًا كبيرًا بعد الحرب على غزة، قد يتجه إلى مزيد من التصعيد والاستيطان وسيطرة المستوطنين، وربما الضمّ.

في محاولة لتفسير تلك التحولات في السياسات الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، وفهم مكانتها الدينية في ما يخص إسرائيل، إضافة إلى التحولات في شكل السيطرة الأمنية عليها، نستضيف في هذا الملف باحثين مختصين في الشأن الإسرائيلي، لفهم كل تلك التحوّلات في ظل الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزّة.


مع تشكيل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لحكومته اليمينية المتطرّفة في ديسمبر/كانون الأول من عام 2022، بات تيار الصهيونية الدينية واحداً من أهم المواضيع التي تشغل الباحثين العاملين في حقول تتعلق بإسرائيل، خصوصاً في وقت دفع فيه هذا التيار إلى تصعيد الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة خلال مشاركته في الائتلاف الحكومي. لكن تصاعد تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل لم يكن وليد السنوات القليلة الماضية، وكان نتاج تحولات سياسية. لفهم نشوء هذا التيار وتطوره، وكذلك تسليط الضوء على الطريقة التي تفكر فيها إسرائيل تجاه الضفة الغربية دينياً، يستضيف "العربي الجديد" في هذا الحوار الباحث المختص في الدراسات اليهودية نبيه بشير. 

  • س: بعد أقلّ من ستة أشهر على احتلالها، بدأت الحكومة الإسرائيلية باعتماد لفظة "يهودا والسامرة" لوصف الضفة الغربية في بياناتها وخطاباتها الرسمية، في محاولة لخلق صلة بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل التوراتية، فما هي مكانة الضفة الغربية لإسرائيل في هذا السياق؟

ج: قبل الإجابة عن أسئلتك، أجد ضرورة إلى التنويه إلى مسألة منهجية ترتبط بحقيقة أنني من بين أولئك الذي يعتقدون أن تفاصيل تاريخ الفكرة وتطوّرها يعتبر جزءًا حيويًّا ومهمًّا لفهم واقعها في أيامنا. لهذا، اعتبر تاريخ تطوّر تيار الصهيونية الدينية مفتاحًا رئيسيًّا لفهم نشاطاته وأهدافه في عصرنا. ومن دون هذا التاريخ، سنجد أنفسنا نتخبّط يمينًا ويسارًا غير مدركين لواقع الحال ولا لأبعاده على جميع المستويات. 

"الضفة الغربية"، هو تعبير ظهر فلسطينيًّا وعربيًّا بعد النكبة وتحديدًا في الأشهر الأولى لسنة 1950، أما عبريًّا فقد ظهر في النقاش الصهيوني العام والأدبيات العبرية مع ظهور النقاش حول منح شرق نهر الأردن (الضفة الشرقية) لإقامة إمارة هناك عند استيلاء البريطانيين عليها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان المقصود في حينه بتعبير "الضفة الغربية" كامل فلسطين التاريخية بعد اقتطاع شرق الأردن منها. أما رسميًّا، فيبدو أن إسرائيل بدأت باستخدام تعبير "يهودا والسامرة" للتدليل على ما بات يعرف بـ"الضفة الغربية" بعد نكسة 1967، علمًا بأن هذا التعبير كان يستخدم سابقًا للتدليل على مملكتي إسرائيل في العصور القديمة، "مملكة يهوذا" (مملكة الجنوب) وعاصمتها القدس، وهي جنوب فلسطين من القدس ومحيطها جنوبًا حتى بداية صحراء النقب وما قبل الساحل، و"مملكة السامرة" وهي مملكة الشمال وعاصمتها نابلس وتشمل الجليل وبعض مدن الساحل الفلسطيني. 

وكما أنّ العصور والظروف تتبدّل، كذلك تتبدّل التعابير والمفردات وتأخذ معانيَ مختلفة في كلّ طور وآخر. ونحن حاليًّا في طور يرى فيه الصهاينة، ولا سيما أولئك المنتمون إلى الصهيونية الدينية وأحزاب اليمين، في منطقة "يهودا والسامرة" مهد اليهودية ولدنها ومنها انطلقت لاحقًا "مملكة إسرائيل"، قبل انقسامها إلى مملكتي الشمال والجنوب. ففيها عاش إبراهيم الخليل ونسله، وعلى ترابها نشأت ذريته من ولده إسحاق ومن بينهم مؤسّسو هذه المملكة وكهانها وأنبياؤها مرورًا بعصر داود وسليمان، وما بعد السبي البابلي، وانتهاءً بالدمار الكامل لأي وجود يهودي في فلسطين ومحيطها في أعقاب ما يطلق عليه يهوديًّا تعبير "التمرّد العظيم" (73 م).

نبيه بشير: "الضفة الغربية"، هو تعبير ظهر فلسطينيًّا وعربيًّا بعد النكبة وتحديدًا في الأشهر الأولى لسنة 1950، أما عبريًّا فقد ظهر في النقاش الصهيوني العام والأدبيات العبرية مع ظهور النقاش حول منح شرق نهر الأردن (الضفة الشرقية) لإقامة إمارة هناك عند استيلاء البريطانيين عليها في أعقاب الحرب العالمية الأولى

عند ذكر تعبير "يهودا والسامرة" في أيامنا، تستحضر ذهنية الصهيونية الدينية وغير الدينية جميع هذه التفاصيل وصور أنبيائها وفقهائها و"أبطالها" الأسطوريّين كداود، الذي تغلّب على جوليات الفلسطيني، وشمشون "الجبّار" الذي أنقذ بني إسرائيل من أيدي الفلسطينيّين، ويهودا المكابي الذي وقف في وجه الحكم البيزنطي. فيتحوّل التاريخ التوراتي في هذه الذهنية إلى فيلم سينمائي تعود فيه المشاهد على نفسها مرة تلو الأخرى، فيغدو هذا التاريخ منتعشًا في الحاضر. بعبارات أخرى، يتم تحيين التاريخ اليهودي القديم من خلال قراءة/مشاهدة صفحاته والتوقّف عند تفاصيله. وتنعكس من خلال هذا التحيين صورة إسرائيل القديمة في إسرائيل الحديثة والمطابقة بينهما، بعد إدخال عنصر جديد ينتج عن استخلاص العبر من التاريخ القديم وترميم شخصية اليهودي المعاصر وتصويب ما يمكن تصويبه. من هنا تغدو "الضفة الغربية" مهد اليهودية ومعدنها، ففيها وقعت أهم أحداث الكتاب المقدس/العهد القديم، وارتوى ترابها بدماء التضحيات اليهودية من أجل الحفاظ على استقلال اليهود وصيانة عزلتهم عن باقي الأمم. لهذا تنظر الصهيونية الدينية إلى مدن تل أبيب ويافا أنها أقل أهمية يهوديًّا من الخليل وبيت لحم والقدس ونابلس وأريحا، حيث إن غالبية أجزاء الساحل الفلسطيني لم تكن ولا في أي عصر خاضعة للنفوذ اليهودي في التاريخ القديم. ومن اللافت والمثير جدًّا أن أهم شخصيات في التاريخ الصهيوني التي فرضت هذه المطابقة وتحيين التاريخ اليهودي القديم في فلسطين هي شخصيات لم تنتمِ إلى التيارات الدينية، بل انتمت جميعها إلى تيارات صهيونية علمانية، ولا سيما دافيد بن غوريون وفلاديمير جابوتنسكي ومناحم بيغن، إضافة إلى أدباء الحركة العمالية (اليسارية) وشعرائها والحركة التصحيحية (اليمينية)، مثل يعقوب كوهن وأوري تسفي غرينبيرغ ونتان ألترمان وشموئيل يوسف عجنون. ولكن يكمن الفرق الجلي في أيامنا بين نظرة تيار الصهيونية الدينية وبين التيارات الصهيونية العلمانية في أن الأخيرين يفكرون من خلال التقدّم في تحقيق المخطط الصهيوني بمراحل بحيث تكون كل خطوة قاعدة متينة تنشأ عليها المرحلة التالية وعدم الإفصاح عن خطط نهائية؛ أما الأول، فإنه يرفض مثل هذا التكتيك ويعتبره امتهانًا لـ"كرامة" اليهود واليهودية ويتمسّك بضرورة التصريح جهرًا عن عدم تخلّيه عن أي شبر من الضفة الغربية بصفتها قلب "أرض إسرائيل" والحضور اليهودي وكبد اليهودية.  

  • س: لقد ربطت دراسات عديدة بين صعود تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل وبين تصاعد الاستيطان. بصفتك باحثاً في الدراسات اليهودية، ما رأيك في هذا الربط؟

ج: يعتبر هذا الربط وعرضه بهذه الصورة تبسيطًا وتسطيحًا لواقع الأمر. الاستيطان وزحفه وتمدّده شيئًا فشيئًا هو ثمرة تفكير وتخطيط استراتيجي صهيوني صدر عن التيار العمالي بصورة أساسية، ولا سيما قبل نكسة 67، وسعى إلى "تهويد البلد" من خلال فرض الحضور اليهودي المادي على الأرض وفرض الرموز (كاللافتات على جوانب الطرق والأسلاك الشائكة والجدران وحدود الأراضي) ومسميات المناطق والقرى والمدن. أما بعد النكسة، فقد سعى التيار العمالي إلى تحقيق هذا الاستيطان بخطًى مدروسة ومتروية ومن دون إثارة الضجة حولها لتفادي الضغوط الدولية. لهذا نلاحظ إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية من دون إعلان ذلك، وقد استخدمت لهفة عناصر من الصهيونية الدينية وأخرى تنتمي إلى حركة الكيبوتسات للمضي قدمًا في هذا النهج من أجل التملّص من المسؤولية على الساحة الدولية. فأولى محاولات الاستيطان في الضفة الغربية جرت على أيدي المعسكر العمالي تحديدًا بصورة مباشرة، وليس بضغط من الصهيونية الدينية كما يحلو لبعض الباحثين القول، بل استمرار لنهج اعتمده من قبل ونجح فيه. وجاءت الصهيونية الدينية بعد النكسة واعتبرت نفسها مكمّلة لهذا النهج، في أعقاب خضوع التيار العمالي الجزئي للضغوط الدولية، وبصورة خاصة بعد حرب تشرين (1973). وتردّد الصهيونية الدينية دومًا مقولة إنها تسلّمت الشعلة من التيار العمالي وإنها لم تأت بجديد صهيونيًّا، فهذا نهج وضعته ورسمت معالمه الصهيونية العمالية التي قادت الصهيونية منذ نشوئها وحتى الانقلاب السياسي في سنة 1977. ونلمس بالمجمل اختلافًا في معاني الاستيطان وأهميته في كلا المعسكرين، فبينما ينظر المعسكر العمالي إلى الاستيطان من خلال منظور جيوسياسي بصورة أساسية، تنظر الصهيونية الدينية إلى الاستيطان على أنه خطوات من أجل استعادة "أمجاد مملكة إسرائيل" القديمة وتحقيقًا لنبوءات ترد في العهد القديم. أما حزب الليكود والأحزاب القريبة منه، فيجمع بين هذين المنظورين، فيولي أهمية للعوامل الجيوسياسية بالطبع، ولكنه يولي أهمية كبيرة للدلالات الدينية واستعادة "الأمجاد" القديمة أيضًا.   

  • س: حذرت قبل سنوات من تصاعد تيار الصهيونية الدينية وانشغلت في هذا المجال، هل من الممكن أن توضح لنا ما هو تيار الصهيونية الدينية، وكيف بدأت دائرته تتسع داخل إسرائيل؟

ج: سبقت الصهيونية الدينية تاريخيًّا جميع التيارات الصهيونية الأخرى، وتأثرت بصورة رئيسة بعاملين طارئين، وهما: ظهور التيارات الإنجيلية المسيحية في بريطانيا وبعض البلاد الأوروبية الأخرى منذ مطلع القرن التاسع عشر وتعزيز نشاطاتها ونشر أدبياتها حول "الأرض المقدّسة وفضائلها"؛ أما العامل الثاني فيتلخّص في ثورة بعض الشعوب الأوروبية ضد السلطات الحاكمة والمطالبة بالاستقلال، ولا سيما مقاومة اليونانيّين وشعوب البلقان الأخرى، كالصرب والمجر، منذ مطلع القرن التاسع عشر ضد السلطات العثمانية وانتزاع حكمها الذاتي في ثلاثينيات القرن نفسه. في أعقاب ذلك راح بعض رجال اليهود، مثل تسفي هيرش كاليشر (بولندا، ت 1874) ويهودا القلعي (سراييفو، ت 1878)، في إعادة تأويل العديد من النصوص الدينية اليهودية لتستقيم مع إنشاء المستوطنات في فلسطين بوصفها إحدى الخطوات نحو تحقيق "الخلاص الإلهي". وتتمثّل الخطوات الممهدة لهذا "الخلاص الإلهي" في الاستيطان و"لم شمل" يهود العالم في فلسطين ("أرض إسرائيل")، وفلاحة أرض فلسطين من أجل إعادة إحيائها من جديد، وتوبة اليهود إلى ربّهم، واعتقدوا أنه في أعقاب ذلك سيرسل الرّب خلاصه من السماء. ولكن المثير في هذا أن خلاصًا على صورة بشرية (ويطلق عليه لقب "المسيح بن يوسف") سيسبق هذا الخلاص الإلهي من أجل تمهيد الطريق، ولهذا نرى أن العديد من رجال الدين اليهود اعتبروا كل ثري يهودي ساهم في إنشاء المستوطنات في فلسطين، مثل موسى مونتفيوري الإنجليزي (1885) الذي سعى لدى محمد علي باشا في سنة 1838 إلى شراء فلسطين وتوطين اليهود فيها، وإدموند دي روتشيلد (باريس، ت 1934) أكبر ممول للاستيطان الصهيوني منذ سنة 1882، وكل ناشط غير يهودي سعى إلى إقناع القوى العظمى البريطانية إلى احتلال فلسطين وإنشاء دولة يهودية فيها (مثل بلفور)، وكذلك مؤسّس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل، بصفته "المسيح بن يوسف".

ولكن كل هذا التاريخ الطويل للنشاط اليهودي والإنجيلي لإنشاء "مملكة إسرائيل" في فلسطين اختفى فجأة مع سطوع نجم هرتسل ونشره للرؤى وإقامته للمؤسّسات المختلفة وإعداده الخطط لإقامة هذه المملكة، وبقي محجوبًا بصورة كبيرة في الأدبيات الأكاديمية الصهيونية، وحتى الانقلاب السياسي في سنة 1977 حيث انتقلت سدّة الحكم في إسرائيل من الحركة العمالية إلى أيدي أحزاب اليمين برئاسة حزب حيروت (الليكود حاليًّا).

اللافت جدًّا في حالة الصهيونية الدينية أن أول تنظيم لها ظهر في سنة 1902، وأطلق عليه تعبير "همزراحي"، وبذل جلّ جهوده في التربية الدينية وتلبية احتياجات المتدينين في المستوطنات، وتجاهل بدرجة كبيرة "قدسية أرض إسرائيل"، لأنه رأى أن القدسية تكمن في اليهود أفرادًا وجماعة لا في الأرض التي اعتبرها مجرد وسيلة لتهيئة الأجواء لمجيء المسيح المخلص. وهذا ما يفسّر على سبيل المثال دعمه لمقترح طرحه هرتسل لإقامة الدولة اليهودية في أوغندا (1903). كذلك نلمس التوجّه العام البراغماتي الذي اعتمدته قيادة هذا التنظيم حتى فترة متأخرة نسبيًّا (حتى مطلع السبعينيات). وقد تعزّز هذا التوجّه أكثر فأكثر في ضوء استيلاء ما عرف لاحقًا باسم "التيار العمالي" (منذ مطلع العشرينيات) على مؤسّسات الحركة الصهيونية كلها، والذي عمل جاهدًا لقمع أي تيار أو تنظيم من شأنه تهديد مكانته هذه. 

ولكن علينا الانتباه أن هذا التوجّه العام للتنظيم دقيق ومناسب على صعيد قياداته والحلقة الضيقة لمتّخذي القرار فيه فقط، ويجب علينا ألّا نسقطه على جمهور هذا التنظيم. فلو عدنا إلى كلمات مؤتمرات التنظيم للمسنا توجّهات أخرى مخالفة تمامًا لهذا التوجّه الرسمي السائد، ولا سيما في أعقاب انتشار لاهوت الخلاص كما صاغه أحد أهم منظّر للصهيونية الدينية منذ مطلع الثلاثينيات، وهو الراب أبراهام كوك (1935 في القدس)، والذي اعتبر لاحقًا الأب المؤسّس لهذا التيار بخصائصه التي نعرفها في أيامنا. بعبارات أخرى، كانت هناك فجوة كبيرة تفصل بين التوجّه البراغماتي لقيادات تيار الصهيونية الدينية، حتى مطلع السبعينيات، وبين التوجّهات اللاهوتية الساعية إلى ممارسة ضغوط أكبر على المؤسّسات الصهيونية لفرض تصوّراتها عليها. وهذا بالفعل ما حدث، ونلمس ذلك جليًّا بعد الانقلاب السياسي (1977). فخلاصة الأمر أن تيار الصهيونية الدينية أدخل تغييرًا جوهريًّا على توجّهه العام والنظرة إلى أدواره، فبدل الوقوف على هامش السياسة الصهيونية والعمل من أجل تجنيد الموارد لتلبية الاحتياجات المادية والروحية لجمهوره، راح يعمل على الدخول إلى قلب المؤسّسات الصهيونية للتأثير عليها من الداخل، على أمل تغيير نهجها أولًا وتغيير معاني النشاطات التي تقوم بها. والتحليل نفسه يمكننا اعتماده في تفسير ظاهرة حركة "شاس" كذلك. ونلمس هذا التحوّل بصورة لافتة منذ نهاية الثمانينيات وبصورة أكبر في أجواء المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. 

نبيه بشير: تركت جملة أفكار وتصوّرات التيار المحافظ الأميركي واليمين الشعبوي آثارًا بالغة على الخطابات السياسية في إسرائيل

ولكن لن ننجح في فهم هذه السيرورة وتفاصيلها وشدّة تأثيرها على المجتمع والسياسة في إسرائيل من دون الأخذ بالحسبان عنصرين حاسمين لعبا دورًا مهمًّا في نجاح هذا التوجّه الجديد للصهيونية الدينية، ويتمثّل في انكشاف الإسرائيليّين على مناطق الضفة الغربية بصفتها مهد اليهودية في أعقاب احتلال 1967، ما أدى إلى تطعيم النشاطات الصهيونية السياسية بمعان دينية جديدة، وقد توقّف عند هذا الكثير من الباحثين؛ أما العنصر الثاني فيتمثّل في مسألة لم ينتبه إليها الباحثون وتتلخّص في أن صيغة الصهيونية التي شكّلها التيار العمالي التقليدي لم تعد كافية ولا ملائمة لتغذية الهوية اليهودية على صعيد الفرد والجماعة، ولا سيما أن نفوذ هذا التيار وسلطته قد أخذ بالانحسار منذ 1967 وبصورة أكبر منذ حرب تشرين (1973). فقد كانت هذه الهوية ملائمة وفعّالة لفترة الاستيطان (قبل 1948) رسمت معالمها ومضامينها لخدمة هدف بناء الدولة، ولكن انحصر تأثيرها وفاعليتها بعد إنشاء الدولة وإقامة مؤسّساتها. نتيجة لذلك، راح الإسرائيلي يبحث عن معانٍ ومضامين جديدة لهويته الفردية والجماعية منذ مطلع العقد السابع، وكانت اليهودية أكثر هذه العناصر أهمية وأسهلها له، ولكنها لم تكن الوحيدة. فإلى جانب ظاهرة "العودة" إلى اليهودية، شهد المجتمع الإسرائيلي كذلك في الفترة نفسها ميولًا إلى تبنّي عقائد ومفاهيم شرق آسيوية. وقد ترافقت هذه الظاهرة مع ظاهرة اجتاحت أوروبا وأميركا، وخلاصتها البحث عن مضامين جديدة تستبدل القيم وثقافة الحداثة والدولة القومية التي أضحت خانقة للجيل الجديد الذي تتهدّده حروب الإبادة والسلاح النووي، إضافة إلى انحسار دور الأفكار اليسارية والثورية. 

عرضت الصهيونية الدينية طروحاتها وتأويلاتها على هذه الشريحة الواسعة من الإسرائيليّين، فاستقطبت جزءًا منها، بينما استمر الجزء الآخر في البحث ببقية أرجاء العالم، وبشكل خاص في شرق آسيا، عن مضامين أخرى بديلة، وما زلنا نشهد حتى يومنا "حجيج" العديد من فئة الشباب الإسرائيلي إلى شرق آسيا على الرغم من انحسار هذه الظاهرة في الأعوام الأخيرة. هنالك عامل إضافي لم يبحث بصورة كافية في الأدبيات ألا وهو ظهور جيل جديد من اليهود الشرقيّين، لم يعد يقبل دونيته ويرفض الخضوع للخطاب الإسرائيلي الرسمي، الذي شكّله تاريخيًّا التيار العمالي، والذي يأبى إلّا أن يضع يهود البلاد العربية والإسلامية في خانة التخلّف. وبما أن هذا التيار العمالي يعتبر قلب اليساري الإسرائيلي، فقد اصطفَت أجزاءً كبيرة من اليهود الشرقيّين في المعسكر المناهض للتيار العمالي، والذي تمثّل في حزب حيروت الحليف الأهم للصهيونية الدينية، خاصة في ضوء النزعة الاحتوائية الملازمة على صعيد الخطاب السياسي. وبطبيعة الحال، استغل حيروت حين بلغ سدة الحكم الضائقة السكنية والوضع الاجتماعي الاقتصادي لليهود الشرقيّين ودفع بشرائح واسعة منهم إلى المستوطنات الجديدة التي تحوّلت السلطة عليها إلى أيدي الصهيونية الدينية. ومع نشوء حركة شاس في العام 1982، والتي تنافست مع حزب حيروت على أصوات اليهود الشرقيّين، اقتربت شرائح واسعة من اليهود الشرقيّين إلى نمط التدين الجديد الذي طرحته شاس، وتحوّل شيئًا فشيئًا إلى نمط أقرب إلى الصهيونية الدينية منه إلى اليهودية الأرثوذكسية (الحريدية)، الأمر الذي أفرز ظاهرة جديدة تتمثّل في التطرّف اليميني والبلطجة المطعّمة بنكهة دينية، وتتجسّد حاليًّا بصورة بالغة في شخص وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وفي شخصيات تنتمي إلى حزب الليكود، مثل دودي أمسلم وميري ريغيف وغاليت ديستل أطبريان.   

  • س: هل تعتقد أن ما يحدث في الضفة الغربية الآن، من تصاعد الاستيطان بقيادة سموتريتش مرورًا بنقل صلاحيات قانونية من الجيش إلى الإدارة المدنية، نهايةً بتصاعد التصريحات الإسرائيلية برفض منح الفلسطينيّين أي دولة، هو نتيجة حتمية لصعود تيار الصهيونية الدينية في الحلبة السياسية الإسرائيلية؟ أم أن الحرب الحالية على غزة لعبت دورًا في تعزيز هذه الممارسات؟

ج: سؤالك هذا على بساطته الظاهرية إلّا أن الإجابة عنه أمر بالغ التعقيد. بداية، لا يتحمّل التحليل الاجتماعي والتاريخي القول بالـ"حتميات"، ولكن يمكنه، بناءً على المواد الأولية المشاركة في تشكيل السيرورة والمسالك التي اتخذتها في تطوّرها التاريخي، أن يشير إلى المسار العام والمعالم المركزية في وجهة هذه السيرورة والكشف عن معانيها وتبعاتها. 

إذا استوعبنا كيف تطوّرت الصهيونية الدينية وتقلّباتها ووقفنا عند أهدافها المتغيرة في أطوار مختلفة، وفهمنا الأيديولوجيا التي ينتمي إليها بنيامين نتنياهو وأدركنا أهدافه السياسية، وانكشفنا على العناصر المشاركة في العقيدة العسكرية والأمنية-الإستراتيجية، يمكننا حينها أن نتلمّس الوجهة العامة التي تنحو صوبها السياسة الإسرائيلية الحالية. ولتحقيق هذا يتعين علينا بناء معاهد أبحاث متخصّصة تنكب على دراسة هذه المواضيع. وقبل الجزم في هذا الصدد، علينا الالتفات كذلك إلى أن هناك عناصر أخرى مستحدثة دخلت في العقود الأخيرة على المشهد السياسي في إسرائيل وأثّرت على السياسة الإسرائيلية بعامة، ومن بينها الصهيونية الدينية، وغذّت أيديولوجياتها وأفكارها، وأهمها التيار المحافظ الأميركي وتيار اليمين الشعبوي العالمي والمتجسّد حاليًّا في شخص دونالد ترامب. 

نبيه بشير: اللافت جدًّا في حالة الصهيونية الدينية أن أول تنظيم لها ظهر في سنة 1902 وأطلق عليه تعبير "همزراحي"، وبذل جل جهوده في التربية الدينية وتلبية احتياجات المتدينين في المستوطنات، وتجاهل بدرجة كبيرة "قدسية أرض إسرائيل"

تركت جملة أفكار وتصوّرات التيار المحافظ الأميركي واليمين الشعبوي آثارًا بالغة على الخطابات السياسية في إسرائيل، ولا سيما على خطاب اليمين التقليدي المتمثّل في حزب الليكود وعلى الصهيونية الدينية، ولعب نتنياهو الدور المركزي في هذا الصدد. ويجب علينا الاعتراف بأن هذا العنصر الجديد لم يدرس بما فيه الكفاية حتى يومنا لأن ترجمة خطاب التيار المحافظ الأميركي واليمين الشعبوي في السياق الإسرائيلي لم تتضح بعد سوى بما يتعلّق بالجانب الاقتصادي والمتمثّل في النيوليبرالية. بالرغم من ذلك، يمكننا القول إن بصمات هذين العنصرين المستحدثين واضحة في مجمل الأحزاب والقوائم المنتمية إلى اليمين الصهيوني، ويبقى السؤال حول تحديد المضامين والتأويلات الجديدة المتأثرة بصورة مباشرة منهما. ولكن يمكننا الجزم أن أشخاصاً كبتسلئيل سموتريتش وبن غفير ووزير الأمن يوآف غالانت ليسوا سوى واجهات سخيفة تقف خلفها كتائب مدجّجة من قيادات الاستيطان في الضفة الغربية، وعناصر نافذة في الجيش الإسرائيلي تنتمي سياسيًّا إلى الصهيونية الدينية، وقيادات في الحزب الجمهوري واللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، ومنظّرون محافظون يهود وغير يهود في الولايات المتحدة وبريطانيا، يستخدمهم كل طرف من هؤلاء لبلوغ أهدافه. أما بشأن الأهداف المشتركة التي تجمع بين جميع هذه العناصر معاً فهي مسألة شائكة لم تدرس بعد وغير واضحة.

لو قمنا بتحييد الصهيونية الدينية وصعود نجمها، هل كان يمكن أن يختلف المشهد؟ لست متأكدًا من أن هذا صحيح، إذ إن حزب الليكود الحالي بقيادة نتنياهو هو العنصر المركزي في السياسة الإسرائيلية في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو لا يختلف كثيرًا بما يتعلق بالقضية الفلسطينية من الصهيونية الدينية، ربما تختلف الديباجات والمبرّرات والحجج، ولكن جميع هذه أعراض لا تمس الجوهر بشيء. والجوهر هو أن قيادات حزب الليكود لا يمكنها أن توافق على دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. فمثل هذه الدولة تتصادم مع كل الأسس الفكرية والأيديولوجية التي تربّت عليها وصرّحت بها ليل نهار أمام جمهورها. والحقيقة أن الصورة لا تختلف بما يتعلق بشخصيات نافذة في حزب العمل المندثر، مثل الداهية شمعون بيرس، وكان يمكنها أن تتحمّل بالحد الأقصى كياناً فلسطينياً متواضعاً يفتقر إلى التطلعات الوطنية والسياسية وإلى الكرامة القومية، يهتم باحتياجاته اليومية وتقوم نخبه بالاستفادة من إبرام الصفقات التجارية مع سلطات الاحتلال وأجهزته الأمنية كما هو الحال في أيامنا.    

أما بخصوص حرب الإبادة الحالية على غزّة فهي مجرد "مناسبة" لتغذية الاستيطان وتكثيفه وتضييق الخناق أكثر فأكثر على أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية، ولكن حرب الإبادة الوحشية هذه ليست بالتأكيد سببًا لهذا. فلم يختلف الوضع كثيرًا في الماضي، ولكن ربما اختلفت نبرة التصريحات وأخذت طابعًا فظًّا أكثر، ولكن لم يختلف الأمر في الجوهر، على أقل تقدير، في العقدين الأخيرين. بعبارات أخرى، فالصهيونية الدينية ساهمت بلا شك في تعزيز هذا التوجّه وغذّته، ولكنها مجرد مركّب واحد من بين عدة مركّبات وعناصر مختلفة.   

  • س: أخيرًا، ما هو تصورك لمستقبل الوضع في الضفة الغربية في ظل كل هذه المعطيات

ج: تحديدًا لأني أدرس الصهيونية الدينية والديانة اليهودية وأتابع الخطابات السياسية والثقافية الإسرائيلية منذ سنين طويلة، أجد نفسي شديد التشاؤم، لا بسبب انعدام الأمل من إمكانية حدوث تحوّلات إيجابية مهمة في الجانب الإسرائيلي فحسب، بل بشكل رئيسي بسبب الأطراف العربية والقيادات الفلسطينية. ولا ننسى أن الطرف الإسرائيلي يعاني منذ عقود طويلة أزمة قيادة حادة، وأن المجتمع الفلسطيني في البلد والشتات ابتلي على طول تاريخه الحديث بقيادات افتقرت وما زالت حتى يومنا تفتقر إلى البصيرة والرؤى المستقبلية والتصوّرات التي يمكن أن تفضي إلى تشكيل مجتمع فلسطيني صحّي ومتحرّر من الطغيان وبراثن الفساد الداخلي والخارجي. ولو نظرت سريعًا إلى خصائص وفكر وسلوك القيادات العربية الحالية في البلاد العربية لأدركت سريعًا أننا أسرى لدى هذه الأنظمة، فما بالك بالوضع الفلسطيني المأزوم على كل المستويات!

لن أنهي بهذه النبرة التشاؤمية، لأنني أؤمن فعلًا بوجود أمل ما زال دفينًا في أفئدة الشعوب العربية، وبشكل خاص بين الجيل الشاب الذي نستشرف ونستمد منه الأمل.


نبذة عن نبيه بشير

باحث متخصص في الدراسات اليهودية، ودكتور محاضر في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت برام الله.

المساهمون