لأسباب عدة يطول ذكرها، فشلت دولة ما بعد الاستقلال في السودان في تحقيق أدنى تطلعات الوحدة والسلام والحرية والعيش الكريم، فوصلت الدولة إلى ما وصلت إليه الآن، من تشرذم وفرقة واضطرابات أمنية ونزاعات قبلية وانهيار اقتصادي وخلافه. واحد من أهم الأسباب، هو غياب حكم القانون وسيادته، والتجاهل والتباطؤ في عمليات تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، والترسيخ لممارسة الإفلات من العقاب، في جرائم كانت الدولة جزءاً منها، أو صمتت وتسترت عليها، ما ترك المجال واسعاً لتكرار الجرائم، في حدود جغرافيات وأزمان مختلفة.
نتيجة ذلك، تراكم مزيد من المظالم والحنق تجاه الدولة، التي بخلت على كل الضحايا، في الشرق والغرب والجنوب والشمال والوسط، ولو بعبارات اعتذار نبيلة، مقرونة باعتراف صريح يكشف الحقيقة ويمنح وعداً صادقاً ومؤسساً بعدم التكرار، كما حدث في بلدان أخرى، واجهت نفس الجرائم وبذات الكيفية ولذات السبب، أو الأسباب.
أمس الإثنين، دخل حوار بين العسكر والمدنيين مرحلة مناقشات تفصيلية في 5 قضايا رئيسية، هي تفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير، واستكمال السلام، وملف شرق السودان، والعدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، وذلك بغرض الوصول إلى توصيات تُدرج، كما يقول المتحاورون، ضمن اتفاق نهائي يطوي صفحة الأزمة السياسية في البلاد.
إن قضية العدالة والعدالة الانتقالية، يجب أن تكون في المقدمة، وأن تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام، ومخاطبتها بتوصيات جذرية لا تقف عند حدود إنصاف الضحايا وتقديم متورطين إلى القضاء. يجب أن تذهب أبعد من ذلك، بالتأسيس لمؤسسات عدلية بعيداً عن المؤسسات الحالية، التي أثبتت خلال العقود الماضية تواطؤها مع الظلم والاحتقار والانتهاكات الجسيمة لكل حقوق الإنسان، ولم تكتمل فيها الاستقلالية عن مؤسسات الدولة الأخرى رغم النصوص الدستورية والقانونية. كذلك عمدت النظم السياسية لاختراقها وتسييسها، خاصة في حقبة النظام البائد، الذي اختطف كل المؤسسات وجيّرها لصالحه منذ انقلابه العسكري في 1989.
حين نقول إن ملف العدالة والعدالة الانتقالية له أولوية نعني ما نعني، فلو حدث اختراق فيه فهو نجاح تلقائي في الموضوعات الأخرى. فمثلاً لن يكون هناك سلام حقيقي ومقنع إلا إذا تحققت العدالة.
والإصلاح العسكري والأمني مرتبط مباشرة بالعدالة. وتفكيك نظام "30 يونيو" يعني تفكيك مؤسسات الظلم التي بناها النظام. وكثير ممن يعارضون أو يتشككون أو يترددون في تأييد عملية الحوار الحالية بين العسكر والمدنيين، واحد من أهم دوافعهم هو أن الحوار، وما ينتج منه، يُعبد الطريق للانقلابيين للخروج الآمن، ويؤسس لفصل جديد من فصول الإفلات من العقاب. وإذا حدث ذلك فعلا فسيكون مصير أي اتفاق نهائي إلى مزبلة التاريخ، ولن يساوي ثمن حبر كُتب به.