عند وصوله إلى القاهرة عام 1798، أجرى نابليون بونابرت، الذي كان يبحث عن حلفاء ضد البريطانيين والعثمانيين في الشرق، اتصالات مع شريف مكة غالب بن مساعد. وقد استمر بعد أن أصبح إمبراطوراً في 1804 في متابعة أمور شبه الجزيرة العربية عن قرب، لكن لم يكن لديه الوقت لتحريك بيادق الإمبراطورية. في سنة 1798، أعطت حكومة المديرين (le Directoire) تعليمة إلى نابليون بونابرت، الذاهب إلى مصر، بالعمل على "ضمان الملكية الحرة والحصرية للبحر الأحمر للجمهورية"1. يستجيب اختيار مصر لعملية نضج بطيئة لعلاقات فرنسا بالإسلام، وليس فقط بهدف تفكيك القبضة البريطانية على الهند.
بونابرت، الذي كان مفتوناً بالشرق، قرأ الكثير عنه قبل الشروع في رحلته التأسيسية. تركز اهتمامه في مرحلة أولى بشبه الجزيرة العربية على حوض البحر الأحمر، الذي يشكل امتداداً لمصر. وهذا أمر مفهوم حيث لم تكن مصر بالنسبة له هدفاً في حد ذاته بقدر ما كانت تمثل وسيلة لخدمة رؤية استراتيجية أوسع.
تحدي السيطرة العثمانية
كان على دراية عندما قام، بعد شهر من دخوله القاهرة في 25 أغسطس/آب 1798، بتوجيه الأولى من سلسلة الرسائل إلى شريف مكة، غالب بن مساعد. كان بونابرت ينظر إلى شريف مكة على أنه حليف محتمل ضد البريطانيين، وأيضاً ضد العثمانيين، الذين كانت لهم علاقات صعبة معه، وأن ذلك من شأنه تشجيع شريف مكة على الانقلاب على سلطانه، كما عبر عنه بونابرت بعبارات سيكون لها رواج فيما بعد بكثير: "لماذا تخضع الأمة العربية للأتراك؟ […] أريد استعادة جزيرة العرب"2.
لم يقتصر تعطش الإمبراطور لمعرفة الحلفاء المحتملين ضد البريطانيين على المجال السياسي
بغض النظر عن الشعور بميل عربي جعله يعتبر عيسى وموسى نبيين عربيين، كان بونابرت قد أدرك جيداً الوظيفة السياسية والروحية لشريف مكة، لأنه "رأى في الإسلام مجموعة سياسية يمكن حشدها"3. كان يتحدى بذلك الهيمنة العثمانية في البحر الأحمر، حيث كان الباب العالي يسيطر على شاطئيه من الشمال إلى الجنوب. تحالف البريطانيون، الذين كانوا يتحكمون في الهند، مع الإمبراطورية العثمانية لحماية مداخله. وقد أعلن السلطان العثماني سليم الثالث الحرب على فرنسا في سبتمبر/أيلول 1798، في الوقت ذاته الذي استلم الشريف غالب الرسالة الأولى من بونابرت. أجابه الشريف مقدماً نفسه "كصديق" بونابرت، والذي لم يكن كذلك، إذ سيرسل فيما بعد فرقة لمحاربته في صعيد مصر، متخذاً بالتالي موقفاً إلى جانب العثمانيين. ولكنه حاول في مرحلة أولى تجنب اختيار صف بينما كان يتعرض لضغوط من البريطانيين. وقد كان لهؤلاء مقيم في جدة طويل الباع مما كان يسمح له باعتراض رسائل بونابرت. مثل أغلب معاصريه في المنطقة، كان شريف مكة ينظر إلى مرسلها على أنه غازٍ له تصورات غير مفهومة، خصوصاً في ما يتعلق بالإسلام وادعائه بتحرير شعوب الشرق من الهيمنة التركية، ولكن كان من مصلحته مراعاته.
طريق الهند
كان هناك ما يمكن التفاهم عليه. بالفعل تظهر مراسلات بونابرت بأنه كان يفهم جيداً الأهمية السياسية والدينية للحجاز، وأيضاً أهمية تجارته الخارجية، وبشكل عام مكونات اقتصاد حوض البحر الأحمر. إذاً كان يستهدف حاكماً محدداً. فهو لا يرى في شريف مكة سوى عنصر مساعد في خدمة مشروعه، الذي كان آنذاك يرتكز على مصر، والذي سرعان ما قام بتوسيعه. بعد عودته إلى فرنسا، أظهر اهتمامه بالتطورات التي حصلت داخل شبه الجزيرة العربية، وبأنه كان يستكشف بصفة موازية الطريق البري نحو الهند. وبالفعل حدد الانتصار البريطاني في البنغال سنة 1757 طريق الهند على أنها المحاور الجيوسياسية الجديدة التي ستهيمن خلال القرنين التاليين في تاريخ العالم القديم [...]. وابتداء من 1770 بدأ المرور عبر السويس يشكل اهتماماً للفرنسيين والبريطانيين4.
كانت نظرة بونابرت تتجاوز الحجاز، حيث كان غالب بن مساعد يحاول صد اندفاع الدولة السعودية الأولى. لجأ شريف مكة، الذي كان فاراً من تقدم هذه الأخيرة، إلى جدة، حيث صد الهجوم السعودي قبل أن يسترجع عاصمته ابتداء من يوليو/تموز 1803 بفضل الدعم العثماني. وكان المستشرق لويس ألكسندر أوليفيي دي كورانسيز (1770 ـ 1832)، الذي شارك في حملة بونابرت إلى مصر قبل أن يصبح دبلوماسياً متمركزاً في حلب وبغداد من 1802 إلى 1810، قد ذكر هو أيضاً في كتابه "تاريخ الوهابيين من النشأة إلى نهاية 1909" (دار كرابارلد 1810)، فشل الدولة السعودية الأولى في الاستيلاء على جدة عام 1803، ثم على عكس ذلك نجاحها في ذلك في 1806.
أرسل نابليون العديد من المخبرين إلى شبه الجزيرة العربية
خطة تحالف فاشلة مع الوهابيين
في سنة 1803، كلف بونابرت كورانسيز، الذي كان يعرفه جيداً، بمهمة دبلوماسية لدى رئيس الدولة السعودية، سعود بن عبد العزيز، والتي ربما كانت ستغير مسار التاريخ العربي لولا فشلها في اللحظة الأخيرة. تتجاهل الكتب الكثيرة المخصصة لنابليون هذه الحلقة الصغيرة من ملحمة الإمبراطور، ولكنها تظهر تنوع دبلوماسيته واستمرار اهتمامه بالشرق بعد وقت طويل من حملة مصر. عندما ظهر وضع الشريف غالب بن مساعد بائساً في جدة المحاصرة من طرف جيش آل سعود، أظهر نابليون استعداده لتغيير موقفه حفاظاً على دعم في البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية. قام كورانسيز، الذي كان بمقر وظيفته في حلب، بإعلام وزيره تاليران بالوضع في الحجاز، وقد قام هذا الأخير، الذي كان يعرف اهتمام بونابرت بأمور الشرق، بإبلاغه المعلومة.
قام القنصل الأول، الذي كان وقتها في باريس، بإنضاج مشروع الإمبراطورية. طلب من تاليران، في رسالة مؤرخة في 28 سبتمبر 1803، "توجيه خطاب إلى القسطنطينية مع رسالة بالشيفرة إلى عميلنا بحلب، لإعلامه بأنه فيما إذا تم تأكيد الاستيلاء على مكة وجدة، أن يتخذ الوسائل لمراسلة قائد الوهابيين. وأن يكتب له في الأول ببساطة أن القنصل بونابرت يرغب في معرفة ما إذا كان بإمكان الفرنسيين الإبحار في البحر الأحمر، أو ستتم حمايتهم من طرفه إن كانوا في البلدان التي سيحتلها؛ وفي حالة ما إذا جاؤوا إلى سورية ومصر سيكونون على يقين من أنهم لن يتعرضوا للنهب، وأنه سيتم اعتبارهم أصدقاء"5.
من دون أن يجعل بونابرت من الوهابيين القادة المحتملين لنهضة سياسية عربية كان يدعو إليها، وأكثر من ذلك من دون التخطيط لحملة ما نحو شبه الجزيرة العربية بحرية كانت أو برية، نرى أن حلمه الشرقي الشهير دفعه بالفعل إلى التفكير في إنشاء إمبراطورية الشرق. غير أن خطته لم تتحقق مثلما فشل استيلاء الوهابيين على جدة. أرسل كورانسيز جوابه إلى وزيره في 9 يناير/كانون الثاني 1804: "الرسالة التي أذنتم لي بكتابتها إلى الوهابيين كان لا ينبغي، وفقاً لأوامركم أيها الوزير المواطن، أن تسلم لهم إلا عندما يتأكد الاستيلاء على مكة وجدة، لذا يتعين عليّ إرجاء تنفيذ هذا الأمر وسأنتظر تعليمات جديدة من لدنكم".
توقفت خطط التحالف الفرنسي-الوهابي عند هذا الحد، ولكنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق. صحيح أن بونابرت كان انتهازياً وكان ينظر بعين الرضا إلى التوسع الوهابي، الذي لم يكن معروفاً بفرنسا، على أنه تمرد ضد العثمانيين يتوافق مع تصوراته حول انتفاضة شعوب الشرق ضد الاستبداد، والتي حصلت بعد أن انفصل عن تحالفه مع الإمبراطورية العثمانية في يوليو 1807. وفضلاً عن ذلك يتوافق مخططه مع تلاعبه بالإسلام، والذي يجعل منه من السباقين في الاستعمال السياسي لهذا الدين. ولكن هذا التقارب لم يكن يبدو محتملاً لأن الكتابات الأوروبية عن الوهابية، والتي كان مطلعاً عليها، كانت تقدمها كنوع من الربوبية المسلحة الخاصة بثقافة الصحراء وليس ذلك الإصلاح السياسي الديني المخيف الذي سيصير عليه فيما بعد.
تظهر مراسلات بونابرت أنه كان يفهم جيداً الأهمية السياسية والدينية للحجاز، وأيضاً أهمية تجارته الخارجية
من ناحية أخرى لا يمكن التنبؤ مسبقاً برد فعل ابن سعود على رسالة من نابليون لم يتسلمها قط، ولكنه كان لديه نفس الإحساس بالعداء تجاه العثمانيين، ولربما كان قد رد على اقتراحاته. لم يقتصر تعطش الإمبراطور لمعرفة هؤلاء الحلفاء المحتملين ضد البريطانيين على المجال السياسي. والدليل على ذلك أول كتاب فرنسي حول الوهابيين الذي ألفه الكتالوني علي باي العباسي، الذي أرسله نابليون في مهمة إلى شبه الجزيرة العربية في 1806. وقد نشر قصته6 في سنة 1814.
الطموحات الشرقية للإمبراطور
بعد أن أصبح إمبراطوراً في ديسمبر/كانون الأول 1804، لم يتوقف نابليون عند هذا الحد، وفكر في "حملة شرقية جديدة تشهد جيشاً فرنسياً يسير نحو الهند باتفاق مع العثمانيين والفرس7". غير أن حرب إسبانيا، التي انطلقت في العام 1808 والطابع الطوباوي لتحالف فارسي-عثماني، وضعت حداً للمشروع، إن لم يكن لاهتمامه بالمنطقة برمته. تابع الإمبراطور باهتمام تثبيت سلطة محمد علي بالقاهرة من 1805 إلى 1811، ثم تدخله في شبه الجزيرة العربية ابتداء من أغسطس 1811. والدليل على ذلك إرساله في 1812 العقيد فينسنت إيف بوتان (1772 ـ 1815) إلى مصر وسورية في مهمة استخباراتية، والتي واصل في إطارها حتى الحجاز مغتنماً حملة الجيش المصري 8 ـ 9، حيث لقي حتفه لاحقاً.
ولكن سيكون الكاتب الكبير ورجل الدولة ألفونس دي لامارتين، الذي أشاع حلقة أخرى من اهتمام الإمبراطور بالتطورات في شبه الجزيرة العربية في ملحق كتابه، سفر إلى الشرق ( Voyage en Orient) الذي نشر في 1835: مغامرة تيودور لاسكاريس دي فانتيمي وترجمانه الحلبي المسيحي فتح الله الصايغ. وفقاً لسرد هذا الأخير، الذي نشر لامارتين ترجمة له بالفرنسية، قام الرجلان بمهمة استخباراتية لفائدة الإمبراطور وسط الجزيرة العربية حتى عاصمة الدولة السعودية الأولى، الدرعية. وتزامنت رحلتهما بين 1811 و1812، أو ربما إلى 1814، مع ذروتها. لكن غياب تعليمة مكتوبة من نابليون أضفى ظلالاً من الشك على حقيقة هذه المهمة الرسمية، ويبطل بالتالي الأطروحة المستمدة من لامارتين، والتي نقلها الصايغ، بخصوص إرسال عميل مكلف بدراسة دعم فرنسي محتمل لثورة الوهابيين ضد العثمانيين. غير أن الرحلة، وهي حقيقية، كانت تندرج دون شك في سياق الطموحات الشرقية لنابليون، وتوفر دليلاً آخر عن الاهتمام الذي كان يوليه الفرنسيون له آنذاك، والذي أجهض بعد سقوط نابليون في يونيو/حزيران 1815.
أرسل نابليون العديد من المخبرين إلى شبه الجزيرة العربية، وحاول خلق تحالفات مع اثنين من أهم قادتها المحليين: شريف مكة ثم رئيس أول دولة سعودية. على الرغم من عدم اقترابه من الحجاز قام نابليون بإدراجه بصفة غير مباشرة في "اللعبة الكبرى" الأوروبية التي كانت مركزة على الإمبراطورية العثمانية، وكانت نتيجتها توسيع التوازن الأوروبي من البحر الأبيض المتوسط إلى حدود الهند البريطانية. وقد رسم هكذا ما سيصبح بعد قرن من ذلك الشرق الأوسط. تشير الحملة المصرية إذن إلى بروز دولة عربية لم تكن سعودية بعد في الوعي السياسي الفرنسي.
يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar
1ـ تم ذكره في كتاب هنري لابروس، قصص البحر الأحمر والمحيط الهندي-
Henri Labrousse, Récits de la mer Rouge et de l’Océan indien, Paris, Économica, 1993, p. 81.
2ـ تم ذكره في كتاب هنري لورانس: "نابليون، أوروبا والعالم العربي".
- Henry Laurens, « Napoléon, l’Europe et le monde arabe », in L’Orient dans tous ses états. Orientales IV, Paris, CNRS Éditions, 2017 ; p. 57.
3ـ المرجع نفسه، ص 54. الإسلام بمعنى المجتمع المسلم.
4 ـ هنري لورانس، أوروبا والإسلام، سبق ذكره، ص 281.
5 ـ مراسلات نابليون الأول، باريس،
Correspondance de Napoléon Ier, Paris, Imprimerie impériale, 1862 ; tome 9, p. 5
6 ـ علي باي العباسي، سفر علي باي العباسي في أفريقيا وآسيا خلال سنوات 1803، 1804، 1805، 1806، 1807.
Ali Bey el Abbassi (Domingo Badia y Leyblich), Voyages d’Ali-Bey el Abbassi en Afrique et en Asie : pendant les années 1803, 1804, 1805, 1806 et 1807, Paris, imprimerie de P. Didot l’aîné, 1814.
7 ـ هنري لورانس مذكور سابقاً، ص 290.
8 ـ9 ـ جان مارشيوني، بوتين، "لورانس نابليون. جاسوس في الجزائر والشرق".
Jean Marchioni, Boutin, le « Lawrence » de Napoléon. Espion à Alger et en Orient, pionnier de l’Algérie française, éditions Jacques Gandini, 2007