أعادت الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس اللبناني ميشال عون، اليوم الخميس، تكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، وذلك للمرة الرابعة في مسيرته السياسية، بعد نهار طويل انتهى من دون أن يحمل أي مفاجآت، لتبدأ بعده معركة التأليف وصراع الحقائب الوزارية.
وهذه المرحلة يتوقع أن تطول، وتمتدّ معها فترة تصريف الأعمال لحين انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، إلّا في حال حصول تسوية بين الأحزاب التقليدية، ترضي بالدرجة الأولى فريق عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، المُتمسّك بشكلٍ أساسيٍّ بوزارتي الطاقة والخارجية، كحال رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يرفض التخلي عن وزارة المال.
تأكيد لقوة السلطة السياسية
وفي اختبارٍ جديدٍ، تؤكد السلطة السياسية في رابع استحقاق بعد الانتخابات النيابية قوتها وصعوبة خرق صفوفها وانتشال مواقع القرار منها، ولا سيما في ظلّ تشتت القوى المعارضة والتغييرية، سواء على صعيد رئاسة مجلس النواب ونيابتها أو اللجان النيابية، واليوم الحكومة، وذلك رغم ما أوحت به نتائج الانتخابات بخسارة مدوية لحزب الله وحلفائه بالدرجة الأولى.
وكُلِّف ميقاتي للمرة الثالثة في 26 يوليو/ تموز 2021، وتمكن من تشكيل حكومته التي ضمّت 23 وزيراً في 10 سبتمبر/أيلول الماضي نتيجة التوافق السياسي وتوزيع الحقائب الوزارية على الأحزاب التقليدية، لا سيما منها "الدسمة"، كالطاقة والخارجية والدفاع والاقتصاد والأشغال العامة والعدل، التي آلت بالدرجة الأولى إلى الثلاثي "التيار الوطني الحر" -"حركة أمل" -"حزب الله"، بينما تمسّك ميقاتي بنائبه سعادة الشامي، ووزير الداخلية بسام مولوي بشكل أساسي.
وعقدت حكومة ميقاتي، التي نالت ثقة 85 نائباً، الجلسة الأولى لها في 13 سبتمبر الماضي، وأقرّت بيانها الوزاري في 16 سبتمبر، وقررت رفع شعار "معاً للإنقاذ"، ومن أولى القرارات التي اتخذتها تكليف وزير المال استقراض مبلغ 100 مليون دولار من مصرف لبنان لزوم مؤسسة كهرباء لبنان لتأمين زيادة عدد ساعات التغذية، الأمر الذي لم "ينعم" به لبنان، وشكلت لجنة التفاوض مع صندوق النقد الدولي برئاسة نائب ميقاتي وعضوية وزيري المال والاقتصاد، وخبيرين يمثلان رئاسة الجمهورية.
كما سلكت الحكومة طريق رفع الدعم عن المحروقات والقسم الأكبر من الأدوية، قبل أن تعقد جلسة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وتدخل بعدها فترة تعطيل دامت حوالي 3 أشهر نتيجة تهديد وزراء حزب الله وحركة أمل بالاستقالة في حال عدم كف يد المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، الذي ادعى على النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر في القضية، قبل أن تتفاقم أزمة الحكومة نتيجة تصريح وزير الإعلام حينها جورج قرداحي (محسوب على تيار المردة بزعامة سليمان فرنجية حليف حزب الله) حيال الحرب في اليمن واصفاً إياها بـ"العبثية"، ما قابله قيود "تجارية" سارع إلى فرضها عدد من الدول الخليجية على رأسها السعودية، وسحب للسفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية في 27 أكتوبر.
وقدّم قرداحي في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي استقالته بعدما تمسّك لنحو 38 يوماً بقراره البقاء في منصبه، بدعمٍ من حزب الله وحركة أمل وتيار المردة، الذين عبّروا عن رفضهم الرضوخ للضغوط السعودية.
وقد ربطت خطوة وزير الإعلام سابقاً بتمنٍّ من ميقاتي، وتأكيد أن هناك ضمانات فرنسية بالتدخل على خطّ الأزمة وحلّها، علماً أن العلاقات الدبلوماسية عادت واستؤنفت في شهر إبريل/نيسان الماضي، قبيل الانتخابات النيابية، وقد ترافقت مع لقاءات مكثفة من جانب السفير السعودي لدى لبنان وليد بخاري مع القوى السياسية اللبنانية، مع الإشارة إلى أنه تم تعيين وزير بديل عن قرداحي، وهو زياد المكاري في مارس/آذار الماضي، بعدما تراجع فرنجية عن قرار عدم التسمية.
ومن أسباب "العودة" التي جرى التذرع بها الخطوات الأمنية التي قامت بها وزارة الداخلية اللبنانية على صعيد مواجهة عمليات تهريب المخدرات، بالدرجة الأولى، إلى المملكة التي تتهم حزب الله بتصدير هذه الآفة إلى أراضيها، كما التصدي لنشاطات ومؤتمرات تقوم بها أطراف معارضة للسعودية.
وقرّر حزب الله وحركة أمل الإفراج عن الحكومة في يناير/كانون الثاني الماضي، فكانت أن استأنفت جلساتها في الـ24 منه، وشهدت إقرار مشروع قانون موازنة العام 2021، الذي لاقى اعتراض البرلمان في خطوة وضعت في إطار الاستثمار الشعبي الانتخابي قبيل الانتخابات النيابية التي جرت في 15 مايو/أيار، باعتبار أن النواب والوزراء ينتمون إلى نادي الأحزاب التقليدية نفسها، في حين استؤنفت العلاقات الدبلوماسية في إبريل/نيسان الماضي.
ويتهم الثنائي بالاستمرار بعرقلة التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت، سواء بالدعاوى القضائية التي يلجؤون إليها والمناورات "الاحتيالية" المعتمدة من جانبهما، أو من خلال رفض وزير المال التوقيع على مرسوم تعيين قضاة محاكم التمييز، ما يبقي التعطيل مستمراً منذ أشهرٍ طويلة.
عجز عن لجم الانهيار
وفي وقت تمكنت حكومة ميقاتي، كما وعدت، بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد رغم الشوائب التي طاولتها، ودخلت بعدها مرحلة تصريف الأعمال، فقد عجزت عن لجم الانهيار الذي استمرّ بوتيرته السريعة، خصوصاً على صعيد المسار التصاعدي الذي شهده سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وقد تخطى للمرة الأولى في تاريخ البلاد عتبة 37 ألف ليرة.
ويأتي ذلك إلى جانب تفاقم أزمة الرغيف والطحين، عبر "تحليق" أسعار المحروقات ووصولها على مستوى البنزين والمازوت إلى خط 700 ألف ليرة، الأمر الذي كانت له انعكاساته على قطاعات عدّة، أبرزها المولدات الخاصة التي استغل أصحابها انقطاع تيار كهرباء لبنان بشكل كامل لرفع ساعات التقنين، وفي الوقت نفسه زيادة التعرفة التي تجاوزت مليون ليرة للخمسة أمبير، عدا عن الانعكاسات على مستوى أسعار الخبز والمواد الغذائية والنقل العام، بينما تحاول حكومة ميقاتي تنفس الصعداء من خلال السائحين اللبنانيين والعرب والأجانب في موسم الصيف مع إقبال لافت إلى لبنان، ما من شأنه إدخال الدولار إلى البلاد في هذه الفترة.
وعجزت حكومة ميقاتي، رغم اختيارها فراس أبيض وزير صحة "مستقل" اكتسب "شهرته" في خلال فترة كورونا، عن إيجاد حلّ لأزمة الدواء لا بل تفاقمت، خصوصاً على صعيد أدوية السرطان والأمراض المستعصية التي لا تزال مفقودة، بينما تعرّض الوزير لجملة انتقادات وهجوم لكيفية تعاطيه مع هذه الكارثة الصحية، التي تترافق أيضاً مع فوضى على صعيد الفواتير الاستشفائية وتهريب الأدوية وبيعها في السوق السوداء.
وأعلنت حكومة ميقاتي قبل استقالتها رفع تعرفة الاتصالات، كما أقرّت خطة التعافي أو ما سميت باستراتيجية النهوض في القطاع المالي مع تسجيل وزراء الأشغال العامة علي حمية، والعمل مصطفى بيرم، والزراعة عباس الحاج حسن، والثقافة محمد المرتضى، أي المحسوبين على حزب الله وحركة أمل، اعتراضهم وسط تحفظ وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي، المحسوب على الحزب التقدمي الاشتراكي.
وسارت حكومة ميقاتي ونائبه سعادة الشامي بالدرجة الأولى بخطط مالية وضعت في سياق حماية المصارف وتبرئتها قضائياً وحاكم البنك المركزي رياض سلامة والإضرار بالمودعين، علماً أن المصارف انتفضت في عهد هذه الحكومة وأضربت اعتراضاً على القرارات القضائية الصادرة بحقها، عدا عن أنها تمرّدت على الخطط الحكومية في إطار الصراع بين المسؤولين والمصارف، لناحية تحمّل مسؤولية الخسائر والانهيار المالي.
سارت حكومة ميقاتي ونائبه سعادة الشامي بالدرجة الأولى بخطط مالية وضعت في سياق حماية المصارف وتبرئتها قضائياً
كما تعرضت لهجوم إزاء مشروع قانون الكابيتال كونترول، الذي تقدم نائب ميقاتي سعادة الشامي بأكثر من صيغة منه، اعتبرت تمريرة لحماية سلامة ومنظومة المصارف، عدا عن احتوائها على مخالفات قانونية ودستورية فاضحة، وهو ما دفع ميقاتي للتلويح بالاستقالة والطلب من مجلس النواب طرح الثقة بالحكومة، لكنه واجه الرفض السريع من الرئيس نبيه بري.
وفي إبريل الماضي، توصل الوفد اللبناني المكلف من قبل مجلس الوزراء التفاوض مع بعثة صندوق النقد الدولي إلى اتفاق مبدئي على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت اسم "التسهيل الائتماني الممدد" مدته أربع سنوات، مع طلب الحصول على 2.1 مليون وحدة حقوق سحب خاصة، أي ما يعادل حوالي 3 مليارات دولار أميركي، علماً أن هذه الخطوة قابلتها مخاوف شعبية من شروط دولية قاسية قد تفرض على لبنان تتطلب إجراءات لن يدفع ثمنها إلا الشعب اللبناني والطبقات المتوسطة والفقيرة.
وكان لافتاً تصريح ميقاتي قبيل الاستشارات عالي النبرة في ملف اللجوء السوري (تصرّ السلطات اللبنانية على توصيفهم بالنازحين)، إذ دعا المجتمع الدولي إلى التعاون مع لبنان لإعادة اللاجئين إلى بلدهم، وإلا فسيكون للبنان موقف ليس مستحباً على دول الغرب، وهو العمل على إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية من خلال تطبيق القوانين اللبنانية بحزم.
ولم يكن الانسجام كبيراً بين وزراء حكومة ميقاتي، بحيث كانت تشهد الجلسات الكثير من السجالات والمواجهات الكلامية، وآخرها بروز صراع ميقاتي ووزير الطاقة وليد فياض المحسوب على تيار باسيل، في حين برز في مرحلة تصريف الأعمال التي دخلت بها حكومة ميقاتي ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً، وسط حديث عن تسوية تقوم بها السلطة السياسية تتخلى فيها عن مساحة كبيرة من ثروتها النفطية والمائية لصالح العدو، مقابل البت بملفات كثيرة للولايات المتحدة الأميركية القرار فيها، أبرزها الكهرباء والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، في حين ربطت التسوية أيضاً برفع العقوبات الأميركية عن صهر الرئيس عون النائب جبران باسيل.