يصعب اعتماد مسطرةٍ موحدةٍ لقياس مدى التطّرف الديني أو العلماني، فالأمر يعتمد على من يقوم بالتصنيف، وعلى السياق الذي تجري فيه أعمال هذا التنظيم، وهل هي موجهةٌ ضدّ قوىً خارجيةً أو محليةً، أم أنّها جزءٌ من نضالٍ وطنيٍ ضدّ الاستعمار. كما يجدر التمييز بين "الفكر المتزمّت"، المعادي نظريًا لأفكار الغير ومعتقداتهم، وبين انتقال هذا الفكر إلى الميدان، بتبنّي العنف وتشجيعه.
في فلسطين يبدو الوضع مركبًا ومتداخلًا، فهو بسيطٌ نظرًا للصراع المفتوح ضدّ الاحتلال، منذ مطلع القرن العشرين، لذلك يمكن إدراج أيّ فعلٍ مقاومٍ للاحتلال جزءًا من النضال الوطني، بصرف النظر عن الخلفيات الأيديولوجية. كما يتعذر الفصل فصلًا حاسمًا بين التنظيمات الوطنية والدينية، لاستحالة فصل "الدين" عن سائر العوامل الثقافية والوطنية، كونه محفزًا للنضال التحرري.
اعتادت إسرائيل وماكينتها الدعائية وصف النضال الفلسطيني بالإرهاب، ودأبت خلال العقود الأخيرة على محاولة ربط النضال الفلسطيني بما تسميه الإرهاب الأصولي، لا فرق عندها بين فتح والجبهة الشعبية وحماس، ولا بين هذه التنظيمات وبين القاعدة وبوكو حرام، فإسرائيل تقدّم نفسها بوصفها قاعدةً للأمن والاستقرار في المنطقة، وحليفًا يُعتمد عليه في وجه التنظيمات المتطرّفة.
يشير كثيرٌ من الباحثين إلى ارتباط نشوء التنظيمات الدينية المتطرّفة بفشل تجارب الدول الوطنية العربية في التنمية، وإنجاز الاستقلال الفعلي
الضفّة الغربية هي الجزء الأكبر من الأراضي المحتلة عام 1967 (94% مقابل 6% لقطاع غزّة)، وهي محط أطماع الاحتلال في التوسع والاستيطان، ومفتوحةٌ لشتى التأثيرات الخارجية، بسبب سياسة الجسور المفتوحة، وتأثيرات وسائل الإعلام والاتصال. ومع أنّ حركة الشعب الفلسطيني الوطنية هي نفسها في الضفّة وقطاع غزّة كما الشتات، مع تبايناتٍ نسبيةٍ في الأحجام، إلّا أنّ الضفّة لم تشهد أيّ وجودٍ منظّمٍ للتيّارات الدينية المتطرّفة على شاكلة تنظيمات السلفية الجهادية، كما عرفت في بلدان المشرق العربي والإسلامي. في حين عرف قطاع غزّة وجودًا محدودًا لهذا التيّار، ممثلًا بمجموعة جند أنصار الله، بزعامة الشيخ عبد اللطيف موسى، الذي قتل مع نحو عشرين من أنصاره، على أيدي القوى الأمنية التابعة لحركة حماس، عقب إعلان الشيخ المذكور إمارةً إسلاميةً في مدينة رفح، في الواقعة المعروفة بحادثة مسجد ابن تيمية، حماس وصفت قائد هذه الجماعة بأنّه عانى من "انزلاقٍ فكريٍ"، دفعه إلى إعلان العصيان المسلّح، ومحاولة أخذ القانون باليد، في حين أنّ معارضي حماس اتهموها بارتكاب مجزرةٍ في رفح.
ساهم التواصل الجغرافي والسكاني بين قطاع غزّة وسيناء، وانتشار التهريب عبر الحدود، في نشوء صلاتٍ تنظيميةٍ بين بعض الأنوية السلفية الجهادية في القطاع، وبين تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، وظلّت هذه الصلات محل شكوك وتوجس الأجهزة الأمنية المصرية، كما خضعت لمتابعةٍ مكثفةٍ من أجهزة حماس.
لم ينتقل تأثير الانتشار المحدود للتنظيمات الدينية المتطرّفة في غزّة إلى الضفّة الغربية. ولا سجلت وقائع انتشار السلفية الجهادية العاملة في بلدان المشرق العربي إلى الضفّة، مع أنّ أبرز منظري هذا التيّار، أمثال عبد الله عزام، وأبو محمد المقدسي، ينحدرون من الضفّة، لكن تأثير هذا التيّار ظلّ محدودًا، ربّما بسبب وفرة التنظيمات العاملة في الضفّة، التي تتشكل من مختلف ألوان الطيف السياسي، بمرجعياتٍ دينيةٍ ووطنيةٍ وقوميةٍ يساريةٍ ماركسيةٍ وليبراليةٍ. هذا الزحام في انتشار التنظيمات رافقته حدةٌ ملحوظةٌ في الصراع ضدّ الاحتلال، وبالتالي فإنّ أيّ تنظيمٍ جديدٍ مطالبٌ بتقديم ما لديه، والانخراط في جهود مقاومة الاحتلال.
حالاتٍ فرديةٍ
تحدثت تقارير إسرائيليةٌ عديدةٌ عن حالاتٍ فرديةٍ متفرقةٍ لشبانٍ من فلسطينيي الداخل ارتبطوا بتنظيم داعش، أو قاتلوا في صفوفه، بعد سفرهم إلى العراق أو سوريا، وقد نشر موقع (واي نيت) في 29/3/2022 تقريرًا للباحثة اليزابيث تسوركوف؛ المحتجزة في العراق حاليًا، يذكر أنّ عددًا من المواطنين الفلسطينيين قد تمكنوا من الانضمام لصفوف تنظيم داعش، لكنهم التحقوا بمبادراتٍ شخصيةٍ. ويذهب الخبيبر في معهد دراسات الأمن القومي؛ يورام شفايتسر، في الاتجاه ذاته، مؤكّدًا أنّ إسرائيل ليست ضمن أولويّات داعش، وتدّعي الصفحة الرسميّة لجهاز المخابرات الإسرائيلية؛ الشاباك، أنّ عيونها لم تكن غافلةً عن العناصر المؤيدة لتنظيم داعش، حين سافروا إلى الخارج.
لم تسجل سوى عملياتٍ محدودةً نسبت للتنظيم، من بينها عملية الخضيرة، التي نفذها الشابان إبراهيم وأيمن إغبارية من أم الفحم، وقتل فيها شرطيان إسرائيليان، وقد أعلن تنظيم داعش مسؤوليته رسيمًا عن هذه العملية، عبر بيانٍ بثته وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم. وأثيرت تقديراتٌ مشابهةٌ عن عملية إبراهيم أبو القيعان في بئر السبع، في مارس/آذار 2022، وقتل فيها أربعة إسرائيليين، وقد تلا ذلك تنفيذ حملة اعتقالاتٍ شملت نحو 50 شخصًا، في إبريل/نيسان 2022، وكان معظم المعتقلين من منطقة المثلث الفلسطيني.
وادعت السلطات الإسرائيلية وجود علاقةٍ بين الشاب إسلام الفروخ من سكان رام الله، المتهم بتنفيذ العملية المزدوجة في القدس؛ في ديسمبر/كانون الأول 2022، وتنظيم داعش، لكن الفروخ نفى ذلك، وقال أنّ الاعترافات قد انتزعت منه تحت التعذيب.
مصادر السلطة الفلسطينية تنفي هي الأخرى وجود أيّ بنيةٍ تنظيميةٍ لداعش في الضفّة، على الرغم من ذكر تقارير إسرائيليةٍ أنّ الأجهزة الفلسطينية قد نفذت حملة اعتقالاتٍ لأفرادٍ يشتبه وجود علاقةٍ لهم مع تنظيم داعش، أبرز الحالات كانت اعتقال الشابة آلاء بشير، إذ قال بيان الأمن الفلسطيني إنّ جهاتٍ "خارجةٍ عن الإجماع الوطني" ضللت الفتاة المذكورة، وجندتها للإضرار بالأمن الفلسطيني.
ويمكن أنّ نضيف إلى القوى السياسية الفائقة التنوع في الضفّة، حزب التحرير الإسلامي، الذي يوصف بالتزمت الديني والاجتماعي، لكنه مهادنٌ على المستوى الوطني. إذ لم يسجل في تاريخ هذا الحزب العريق؛ تأسس في القدس عام 1953، أيّة عمليةٍ مقاومةٍ ضدّ الاحتلال، ولم يتعرّض لاعتقالاتٍ من قبل الاحتلال، وهو ينشط بوضوحٍ في مدينتي الخليل والقدس، واعتاد تنظيم مسيرةٍ جماهيريةٍ حاشدةٍ في ذكرى سقوط الخلافة العثمانية، للمطالبة بعودة الخلافة، التي يرى أنّها الهدف المركزي الأهمّ لنشاطاته، وإزاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين يكتفي الحزب بالمطالبة بتحريك الجيوش الإسلامية لتحرير فلسطين، مع ذلك اتخذ موقفًا صارمًا ضدّ الخلافة، التي أعلنها تنظيم داعش في العراق والشام، معتبرًا أنّها "لغوٌ لا قيمة له". اللافت في أنشطة هذا الحزب هو تحركاته في قضايا اجتماعيةٍ مثيرةٍ للجدل، كمعارضته الشديدة لاتّفاقية (سيداو)، والموقف من الأطر النسوية، إذ قاد الحزب حملةً شعبيةً لمواجهة هذه الاتّفاقية، والتحريض عليها.
في فلسطين يبدو الوضع مركبًا ومتداخلًا، فهو بسيطٌ نظرًا للصراع المفتوح ضدّ الاحتلال، منذ مطلع القرن العشرين
يشير كثيرٌ من الباحثين إلى ارتباط نشوء التنظيمات الدينية المتطرّفة بفشل تجارب الدول الوطنية العربية في التنمية، وإنجاز الاستقلال الفعلي، المقترن بالرفاهية والعدالة والديمقراطية، ويمكن أنّ تقال خلاصاتٌ مشابهةٌ عن أزمة حركة التحرر الوطني الفلسطيني وفشلها في قيادة شعبها للحرية والاستنقلال، وهذه الأزمة عوضتها جزئيًا حركات المقاومة ذات الخلفية الإسلامية، وخاصّةً حركتي حماس والجهاد، ومع استمرار الأزمة وشمولها لكلّ الفصائل والتنظيمات، بدأت تتشكل ظواهر وتشكيلاتٌ جديدةٌ لمقاومةٍ فرديةٍ وجماعيةٍ، مثل عرين الأسود، وكتائب مدن شمال الضفّة، ولا يبدو في هذه التجارب أيّ أثرٍ جدّيٍّ للتنظيمات الدينية المتطرّفة.