شكّل اجتماع مجلس شورى حركة النهضة التونسية، الذي انعقد يوم الأربعاء الماضي، محطة سياسية مهمة، في ظلّ الأحداث المتسارعة وطنياً، بعد الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/تموز الماضي، ونظراً لما يجري داخل "النهضة" نفسها، التي تعيش صراعات متعددة ومستمرة منذ سنوات، حول خيارات الحركة ومسألة خلافة زعيمها راشد الغنوشي، والتي يبدو أنها بدأت تشتدّ مع اقتراب موعد المؤتمر الـ11 للحركة، الذي يُفترض أن ينعقد نهاية العام الحالي، بعد أن تم تأجيله أكثر من مرة، خصوصاً أن الغنوشي نفسه أعلن أنه لن يترشح لولاية جديدة.
وعقب اجتماعه الأخير، أصدر مجلس شورى النهضة بياناً موقعاً باسم رئيسه عبد الكريم الهاروني، تمسّك فيه باعتبار أن القرارات الرئاسية الصادرة في 25 يوليو، والتي جمّد بموجبها سعيّد جميع سلطات مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل أعضائه، فضلاً عن إقالة الحكومة، تمثل "انقلاباً على الدستور وشلّاً لمؤسسات الدولة". وفيما أعرب البيان عن تفهّم حركة النهضة للغضب الشعبي المتنامي، خصوصاً في أوساط الشباب، بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي بعد عشر سنوات من الثورة، وتحميله الطبقة السياسية برمتها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، ودعوته إلى الاعتراف والعمل على تصحيح الأداء والاعتذار عن الأخطاء، إلا أنه دعا إلى ضرورة العودة السريعة إلى الوضع الدستوري الطبيعي ورفع التعليق الذي شمل اختصاصات البرلمان، حتى يستعيد أدواره ويحسّن أداءه ويرتب أولوياته بما تقتضيه المرحلة الجديدة.
كذلك تبنّى المجلس "الدعوة إلى إطلاق حوار وطني للمضي في إصلاحات سياسية واقتصادية تحتاجها بلادنا في هذه المرحلة، للخروج من أزمتها، والتعجيل باستعادة المالية العمومية لتوازناتها والاقتصاد الوطني لعافيته". وأقرّ "بضرورة قيام حركة النهضة بنقد ذاتي معمّق لسياساتها خلال المرحلة الماضية، والقيام بالمراجعات الضرورية والتجديد في برامجها وإطاراتها في أفق مؤتمرها الـ11 المقرر نهاية هذه السنة، وذلك لإعادة النظر في خياراتها وتموقعها بما يتناسب مع الرسائل التي عبّر عنها الشارع التونسي وتتطلبها التطورات في البلاد". كما تم "التأكيد على حرص حركة النهضة على نهج الحوار مع جميع الأطراف الوطنية، وفي مقدمتها رئيس الجمهورية، من أجل تجاوز الأزمة المركبة".
خلاف بشأن صوابية الدعوة حالياً إلى ابتعاد الغنوشي
لكن هذا البيان لم يستطع التغطية على الانقسامات التي طغت بين أعضاء مجلس شورى الحركة، إذ شهد الاجتماع جدلاً كبيراً وخلافات قادت إلى إعلان عدد من القيادات انسحابها من هذا الاجتماع، وعدم تبنّيها لقراراته، على غرار يمينة الزغلامي ومنية إبراهيم وجميلة الكسيكسي. وكانت الكسيكسي قالت مباشرة بعد انتهاء اجتماع مجلس الشورى، لـ"العربي الجديد"، إن القرارات التي اتخذها هذا المجلس لا تلزمها، موضحة: "كنا ننتظر المبادرة بالاعتراف بالتقصير الذي حصل، وتحمّل المسؤولية. فصحيح أنها مسؤولية مشتركة وتضم العديد من الأطراف، ولا تشمل النهضة فقط، ولكن الشعب غضب على النهضة لأنه كان يراها حزباً كبيراً".
وفي حين يبدو أن الموقف الرسمي للنهضة يتجه إلى رفض إحداث تغييرات جذرية على مستوى القيادة والاكتفاء ببعض المراجعات، إلا أنّ ذلك لا يرضي جميع الأعضاء في الحركة. وقبيل اجتماع مجلس الشورى، برزت أصوات شبابية تدعو إلى تصحيح المسار وإلى إحداث خلية أزمة.
ويمثّل مجلس الشورى أعلى سلطة في حركة النهضة بين مؤتمرين عامَيْن، وهو بمثابة برلمان الحزب الذي يصادق على قراراته المهمة. وكثيراً ما عارض هذا المجلس قرارات للغنوشي والمكتب التنفيذي، مثلما حصل مباشرة بعد الانتخابات البرلمانية عام 2019 وإطلاق عملية اختيار رئيس للحكومة، إذ عارض الغنوشي تكليف الحبيب الجملي، ولكن أغلبية الشورى ذهبت عكس ذلك، وصوتت لصالح الجملي والتحالف مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي.
وشكّل اجتماع الشورى، يوم الأربعاء الماضي، فرصة للتيار المعارض للغنوشي لإبداء رأيه في التطورات وتوجيه انتقادات لرئيس الحركة والمقربين منه والمكتب التنفيذي، على غرار المطالبة باستقالة رئيس مجلس الشورى نفسه، عبد الكريم الهاروني، وتغيير الغنوشي، وتحميل هذا المعسكر مسؤولية الفشل، على الرغم من أنّ بعض معارضي الغنوشي يَرَوْن أن الوقت الآن ليس مناسباً للدعوة إلى ابتعاد الأخير، لأنّ الأولوية هي وحدة الحركة، ولكنهم يشددون على ضرورة تشكيل مكتب مصغر يتولى إدارة الأزمة.
وأعضاء المكتب التنفيذي هم الذين يختارهم رئيس الحركة بنفسه، ولكنه يقترحهم على الشورى لنيل الثقة بأغلبية الحاضرين. وكان المؤتمر السابق للحركة (عام 2016) شهد خلافات كبيرة بخصوص المكتب التنفيذي، إذ دعا تيار كبير إلى ضرورة انتخاب أعضائه وليس اختيارهم من قبل رئيس الحركة.
وفي حين ذهبت بعض الآراء أخيراً إلى أنّ هذه الخلافات العميقة والجوهرية قد تعصف بالنهضة وتؤدي إلى انقسامات غير مسبوقة داخل الحركة، إلا أنّ البعض يرى أنّ "النهضة" التي حافظت طيلة السنوات العشر الماضية على تماسكها ووحدتها في الوقت الذي تصدّعت فيه العديد من الأحزاب، ستصمد، على الرغم مما تعرضت له أخيراً.
وتعود كل خلافات "النهضة" في السنوات الأخيرة إلى نقطة جوهرية، وهي خلافة الغنوشي، إذ تتمحور كل الصراعات حولها، ويحمّل كثيرون الغنوشي مسؤولية الإخفاق في عدد من المحطات في السنوات الأخيرة، لعل أبرزهم رفيق دربه ونائبه السابق، عبد الفتاح مورو، الذي دعاه صراحة وفي أكثر من مناسبة إلى الاستقالة وتسليم المشعل للشباب. وقادت الخلافات مع الغنوشي إلى استقالات متتالية ومهمة لقادة من الحركة في السنوات الأخيرة، بدأت مع نائبه حمادي الجبالي، ثم عبد الفتاح مورو وعبد الحميد الجلاصي ولطفي زيتون وآخرين.
بن لطيف: لا بد من مراجعات داخل الحركة وتغيير القيادات
في السياق، أكدت النائبة عن حركة النهضة، رباب بن لطيف، إحدى المطالبات بتصحيح مسار الحركة، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الحراك الحاصل في النهضة داخلي، إذ نرى أنّ الحركة ارتكبت أخطاء قادت إلى الوضع الحالي"، موضحةً أن "المسؤولية لا تقع على النهضة بمفردها، بل على مختلف المكونات السياسية. ولا بد من مراجعات داخل الحركة وتغيير القيادات، ما قد يؤدي إلى حركية ويخلق أفكاراً جديدة مع وجود وجوه جديدة تقود الحركة إلى ما هو أفضل مما هي عليه الآن".
ولفتت بن لطيف إلى أنّ "قيادات من مجلس شورى النهضة شاركتهم الرأي ورفعت خلال الاجتماع الأخير المطالب نفسها، وهذا دليل على أن المسألة لا تهم فئة عمرية داخل الحركة، بقدر ما هي قناعة لدى العديد من الأشخاص المطالبين بتغييرات جذرية وبالإصلاح. فعندما تحصل هزّات مثل التي حصلت، من المهم أن يقوم أي حزب بمراجعات داخلية تكون على مستوى القيادات، وتشمل الوجوه التي تتصدر المشهد، وتلك التي كانت وراء الخيارات المتخذة، وعلى هؤلاء الاعتراف بالخطأ وأن يخطوا خطوة للوراء". وأكدت بن لطيف أنه "لا بدّ من خلية أزمة ووجوه تفتح قنوات تواصل وترسم خريطة طريق جديدة، وتكون قادرة على التفاوض مع بقية الأحزاب ومع رئيس الجمهورية، لأن المكتب التنفيذي الحالي ومجلس الشورى غير قادرين على ذلك"، مشيرةً إلى أن "الخلافات داخل الحركة ستظلّ في إطار حراك داخلي، وليست هناك احتمالات لحصول انقسامات كبرى قد تؤدي إلى انشقاقات، فالنظام الداخلي للحركة يفرض على الجميع الالتزام به".
في المقابل، رأى النائب عن حركة النهضة، موسى بن أحمد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الخلافات التي تشهدها حركة النهضة، هي ككل الخلافات التي تعرفها مكونات الطيف السياسي"، معتبراً أنّ "كل الأحزاب تعيش صدمة ورجة، وهناك تباين في الآراء ووجهات النظر، والنهضة جزء من مكونات المشهد". وأوضح بن أحمد أنه "من أسباب الخلافات، وجود تساؤلات عمن قاد إلى هذه النتيجة بعد 11 عاماً من الثورة، وإلى الانتكاسة المبدئية للمسار الديمقراطي"، مبيناً أن "الخلافات داخل الحركة تدور حول هذه النقطة، فهناك من يرى أن النهضة هي المتسببة وحدها في ما وصلنا إليه، في حين يرى آخرون أن هناك طبقة سياسية كاملة لم تستشعر اللحظة ولم تستجب لمطالب التونسيين، لأنها بقيت داخل صراعها السياسي". وتابع أن هناك "وقفة تأمل في ما كان وفي ما يجب أن يكون. وعلى الرغم من كل الخلافات الحاصلة داخل القيادة، إلا أنني مستبشر، لأنه بعد الهزة في المواقف السياسية، سيكون هناك اتفاق حول حل توافقي وجامع للخروج من الأزمة".
بن أحمد: الأغلبية في اجتماع مجلس الشورى لم تكن مع تغيير المكتب التنفيذي
وحول الأصوات المطالبة بتغيير المكتب التنفيذي للحركة وتراجع القيادات التي أخطأت إلى الخلف، قال بن أحمد إن "الأغلبية في اجتماع مجلس الشورى لم تكن مع هذا الرأي، ومن طالبوا بذلك كانوا أقلية"، مؤكداً أن "كل الآراء تحترم، ولكن هذا الرأي ليس في وقته، لأن النهضة ليست حكومة كي تستقيل، فالحركة ليست هي التي تدير شؤون الدولة، بل تدير شؤونا حزبية داخلية كبقية الأحزاب. وبالتالي، المشكلة الآن ليست في استقالة المكتب التنفيذي من عدمه، لأن هناك انتظارات أهم، والتونسيون يطالبون المكونات السياسية بحل مشاكل البلاد أولاً". ولفت المتحدث نفسه إلى أن "خطأ حركة النهضة أنها لم تحكم، ولم يكن لها رئيس حكومة ووزراء سيادة ومالية وشؤون اجتماعية ليطبقوا برنامج الحركة على الأرض، ثمّ يتم التقييم بعد ذلك، فيجدد الشعب ثقته بها في الانتخابات أو يرفضها. فالنهضة وقعت تحت ابتزاز الأحزاب الأخرى وللأسف خضعت لهذا الابتزاز، ولم تعيّن أحد قيادييها في رئاسة الحكومة، على الرغم من فوزها في الانتخابات". واعتبر أنّ "النهضة حكمت مدة عام و7 أشهر، بين عامي 2012 و2014، ولكن بعد ذلك لم تحكم، بل شاركت فقط في الحكم".
وحول إمكانية حدوث تصدعات داخل "النهضة"، قال بن أحمد إنّ "الحركة بطبيعتها المحافظة لن تصل إلى هذا الأمر، ومغادريها والمستقيلين منها لا يمثلون الجزء الأكبر من أعضائها، ولذلك ستبقى الأغلبية داخل الحركة التي تتمتع بحاضنة شعبية وقواعد انتخابية".
من جهته، قال القيادي في حركة النهضة، عبد اللطيف المكي، في منشور عبر صفحته بموقع "فيسبوك"، يوم الثلاثاء الماضي، إنه "كان بالإمكان تجنّب ما حصل بسهولة (قاصداً التطورات الأخيرة في تونس)، وكانت الأفكار والمقترحات والطرق متوفرة ومتداولة بين الفاعلين، والتاريخ سيروي ذلك، ولكن سامح الله الجميع"، مضيفاً أنه "بعد أن وقع ما وقع، فلا بد من التركيز على كيفية الخروج من ذلك". وأضاف المكي أن "تونس لن تنزلق إلى سيناريو العنف وإراقة الدماء ولا إلى الانتهاك الممنهج للحقوق والحريات، على الرغم من التجاوزات الأخيرة التي يجب أن تتوقف، وستتوقف بحكم ما في البلاد من قوانين ومنظمات وثقافة".
بدوره، استبعد المحلل السياسي ماجد البرهومي، حصول انشقاقات داخل حركة النهضة، لأنه "لا توجد داخل الحركة تيارات يمكنها الانشقاق، مثلما حصل مع الدساترة (الحزب الاشتراكي الدستوري) في السبعينيات، عندما انشق تيار كامل عن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، على الرغم من أنه كان حينها في أوج قوته، وأسسوا حركة الديمقراطيين الاشتراكيين". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من المستبعد أن تخرج تيارات من النهضة، فأغلب الانتقادات لا تتعدى الحدود الداخلية"، مشيراً إلى أنه "لا يوجد تيار إصلاحي داخل النهضة قادر على التغيير، وبإمكانه أن يؤسس لمنظومة جديدة بعيدة عن الحركة وعن جلباب الغنوشي". واعتبر أنه "حتى لو حصل ذلك، فلا معنى له، والحزب الجديد في هذه المرحلة من الضعف، لن يكون تياراً إصلاحياً، بل سيكون تياراً انتهازيا"، متسائلاً "أين كانت هذه الأصوات؟ وأين كانت الشجاعة سابقاً؟". وختم بالقول إن "أغلب الآراء داخل حركة النهضة مقتنعة بأن الشعب ظلم الحركة ولا يوجد اعتراف بالخطأ".