لم تنته حرب إقليم تيغراي المحاصر، شمال إثيوبيا بعد، هذا ما تؤكده على الأقل المعطيات والتداعيات على الأرض. فالحرب التي اندلعت في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعدما أعلنت حكومة آبي أحمد حملة عسكرية ضد قادة الإقليم وتحديداً "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، وإن كانت خفتت، لكنها لم تحسم كما ادعت الحكومة بعد سيطرتها على عاصمة الإقليم ميكيلي في 28 نوفمبر الماضي. وليس أدلّ على ذلك من ظهور زعيم الجبهة، دبرصيون جبراميكائيل، المطارد، مجدداً قبل أيام، في تسجيل صوتي ليؤكد التزامه بالمقاومة ضدّ حكومة آبي أحمد. ويعزّز ذلك فرضية غرق الإقليم في مواجهة طابعها حرب العصابات، خصوصاً أن "جبهة تحرير تيغراي" مدربة على هذا النوع من الحروب، عندماً أدت دوراً أساسياً في إطاحة الزعيم منغستو هيلا مريام، في عام 1991. وفيما لا تزال مشكلة انقطاع الاتصالات تمثّل تحدياً في معظم أنحاء تيغراي، فإنّ الأخبار الآتية تباعاً من الإقليم، تشير إلى وضع إنساني كارثي خلفته الحرب، ولا سيما بعد حديث ثلاثة أحزاب معارضة، أول من أمس الثلاثاء، عن مقتل 50 ألف مدني جراء العمليات العسكرية. ويضاف ذلك إلى تقارير أممية وأخرى تابعة لمنظمات دولية تتحدّث عن سوء وضع الآلاف من أبناء الإقليم الذين اضطروا إلى النزوح أو اللجوء إلى السودان، لتترك هذه الأوضاع مجتمعة التوتر قائماً ليس فقط في منطقة تيغراي وحدها، وإنما في المنطقة المحيطة كذلك.
أحزاب معارضة: مقتل 50 ألف مدني في إقليم تيغراي
وفيما لا يزال التعتيم متواصلاً على تفاصيل كثيرة مخفية في صراع تيغراي الأخير، أشارت تقديرات ثلاثة من أحزاب المعارضة في تيغراي وهي، حزب "استقلال تيغراي" و"المؤتمر الوطني لتيغراي العظمى"، و"سالساي وايان تيغراي"، في بيان أول من أمس الثلاثاء، إلى أنّ "أكثر من 50 ألف مدني قتلوا في الصراع المستمر منذ ثلاثة أشهر"، وحثّت المجتمع الدولي على التدخل قبل أن يتحوّل الوضع إلى "كارثة إنسانية ذات أبعاد مروعة". ولم يذكر بيان هذه الأحزاب مصادر هذه التقديرات التي يصعب التحقق منها في ظل غياب الاتصالات وصعوبة الدخول إلى الإقليم.
ولم تعلن حصيلة رسمية للضحايا منذ بدء القتال في أوائل نوفمبر بين القوات الإثيوبية وقوات "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" التي هيمنت على الحكومة لما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يتولى آبي أحمد السلطة عام 2018. وينظر كل جانب الآن إلى الآخر على أنه غير شرعي. وقالت أحزاب المعارضة الثلاثة إنّ على المجتمع الدولي ضمان الانسحاب الفوري للمقاتلين بمن فيهم جنود من إريتريا المجاورة.
ووفقاً لشهود عيان تحدثوا لوكالة "أسوشييتد برس"، يلقى المدنيون حتفهم في جميع أنحاء تيغراي، حيث يعيش نحو 6 ملايين نسمة، جراء الهجمات المتبادلة، وإطلاق النار والأمراض ونقص الموارد. ووصل الأمر إلى أنّ بعض المسؤولين الإداريين الجدد الذين عينتهم حكومة آبي أحمد حذروا من أنّ الناس يموتون جوعاً، إذ لا يزال يتعذر الوصول إلى مناطق شاسعة خارج الطرق الرئيسية والبلدات.
واتهمت أحزاب المعارضة في بيانها الحكومة الإثيوبية بـ"استخدام الجوع كسلاح لإخضاع تيغراي وعرقلة الجهود الدولية لتقديم مساعدات إنسانية". لكن في المقابل، تؤكد الحكومة الإثيوبية أنه تمّ تسليم المساعدات الدولية التي وصلت إلى ما يقرب من 1.5 مليون شخص.
المخاوف بشأن الوضع في تيغراي عبّر عنها كذلك الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي قال مساء أول من أمس الثلاثاء، إنه لا يزال يشعر بقلق بالغ إزاء الأوضاع في الإقليم، مؤكداً "ضرورة استمرار الخطوات العاجلة للتخفيف من حدة الوضع الإنساني وتوفير الحماية اللازمة للمعرضين للخطر". وجاء ذلك في بيان أصدره ستيفان دوجاريك، المتحدث الرسمي باسم غوتيريس، مساء الثلاثاء.
مجاعة في الإقليم والأمم المتحدة تعترف بفشل المجتمع الدولي
وتضغط الأمم المتحدة وجهات أخرى من أجل زيادة وصول المساعدات الإنسانية، وإيجاد حلّ لنظام معقد من التراخيص، مع مجموعة متنوعة من السلطات. وتعبيراً عن هذه المعوقات، كتب رئيس "مجلس اللاجئين النرويجي" يان إيغلاند، على "تويتر" الإثنين: "خلال 40 عاماً، بوصفي عاملاً إنسانياً، نادراً ما رأيت عرقلة شديدة لاستجابة مساعدة، كما في تيغراي. نحن نفشل كمجتمع دولي".
أما مفوّض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، فقال الإثنين بعد زيارة إلى تيغراي إن الوضع "خطير جداً". وأشار إلى أن "نحو 20 ألف لاجئ (معظمهم من إريتريا) أصبحوا في عداد المفقودين أو المشتتين بعد تدمير مخيمين للاجئين في تيغراي". وإذ استضاف إقليم تيغراي نحو مائة ألف لاجئ من إريتريا قبل القتال، قال غراندي إنه تحدث إلى بعض مَن حوصروا من هؤلاء في القتال، ثم لجأوا إلى "تناول أوراق شجر"، بعد انقطاع الدعم الغذائي لأسابيع. وتابع أن القوات الإريترية أعادت قسراً آخرين إلى بلادهم.
وإريتريا متهمة بالتدخل في النزاع في تيغراي، ومساندة القوات الحكومية، وهو ما أكدته تقارير أميركية، وليس فقط قادة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" وشهود عيان. هذا فضلاً عن مشاركة قوات من إقليم أمهرة في النزاع ضد الجبهة. وبعدما باتت القوات الإثيوبية تحاصر مختلف جهات الإقليم، ولا سيما من جهة السودان، لقطع الطريق على قوات "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" وقادتها بحال فكروا في الهروب، وفي ظلّ أن الحدود مع إريتريا مؤمنة، لم يبق أمام قادة الإقليم سوى مواصلة التمرّد. وهو ما عبّر عنه صراحة زعيم الجبهة، دبرصيون جبراميكائيل، نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. وقال في تسجيل صوتي نشرته وسيلة إعلامية مرتبطة بالجبهة: "فليعلم أعداؤنا وأصدقاؤنا أننا لن نترك الأرض حتى النصر". وحثّ جبراميكائيل شعب تيغراي على مواصلة الكفاح "بتصميم أكبر ومن دون انشقاقات داخلية".
ويؤشّر ذلك إلى أنّ حرب العصابات ستكون على الأرجح مصير النزاع في تيغراي، لا سيما أنّ الآلاف من أنصار الجبهة عبروا عن ارتياحهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد تصريحات جبراميكائيل. ويمتاز إقليم تيغراي بالمناطق الجبلية الوعرة، مما يخلق بيئة مواتية للتخفي لمقاتلي حرب العصابات، في حين تعكس تجارب حرب العصابات في المنطقة، سواء في إثيوبيا نفسها أو في الدول المجاورة، أنّ مثل هذه الحروب قد تمتد لفترة طويلة.
(العربي الجديد، أسوشييتد برس، الأناضول)