مع توالي تفكيك المشاريع الإرهابية وتنامي الأنماط الجديدة للتطرف والاستقطاب، يعمل المغرب حالياً على وضع اللمسات الأخيرة على مشروع يستهدف مكافحة التطرف في صفوف الشباب، بالاعتماد على "مؤثرين" على شبكات التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من نجاح المغرب منذ أحداث الدار البيضاء الإرهابية عام 2003 في اعتقال عددٍ كبير من الخلايا، ما أعطى صورة عن الجاهزية واليقظة الأمنية التي تستند إليها التجربة المغربية، إلا أن تمكّن التنظيمات الإرهابية على مدى السنوات الماضية من اختراق الفضاء الإلكتروني، وفرض وجودها من خلال العديد من المنصات الإلكترونية، وجذبها للعديد من الشباب إلى عالم الإرهاب، تفرض تحديات كبيرة على السلطات المغربية. لكن الاعتماد على "مؤثرين" على شبكات التواصل الاجتماعي يطرح أكثر من علامة استفهام حول أداء المؤسسات الدينية المغربية في التعامل الرقمي مع قضايا التطرف، وإن كان الأمر مرتبطاً بمحاولة تدارك بعض نواقص الاستراتيجية التي ينتهجها المغرب في حربه على الإرهاب.
وتُعتبر الإنترنت، بحسب المسؤولين الأمنيين المغاربة، أبرز الوسائل التي استقطب تنظيم "داعش" من خلالها مئات المقاتلين للذهاب إلى ساحات القتال في سورية والعراق في السنوات الماضية. وفي بلد يستخدم 74.4 في المائة من سكانه شبكة الإنترنت، من بينهم 22 مليون مغربي ينشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل تقريباً ثلثي سكان المملكة، يبدو لافتاً التحذير الذي كان قد أطلقه تقرير رسمي أعده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة دستورية مستقلة تضطلع بمهام استشارية) في 2018، من أن الانفتاح غير المحدود على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في المغرب يحوّل "انكفاء فئة من الشباب داخل دائرة التدين رافضة الحداثة المستوحاة من الغرب" إلى "تطرف ديني لدى البعض".
أطلقت "الرابطة المحمدية للعلماء" مشروعاً لمكافحة التطرف عبر الإنترنت بالاعتماد على "مؤثرين"
في ظل هذا الواقع، أطلقت "الرابطة المحمدية للعلماء" (مؤسسة دينية تسعى إلى التعريف بأحكام الشرع الإسلامي ونشر مبادئ الوسطية والاعتدال) مشروعها لمكافحة التطرف عبر الإنترنت في صفوف الشباب لتحصينهم من خطاب التطرف والكراهية، خصوصاً في بُعده الرقمي، وذلك بالاعتماد على "مؤثرين"، وعلى إنتاج خطابات إيجابية بديلة على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي.
ويقوم المشروع، الذي يوجد اليوم في طور التنفيذ، على اختيار مجموعة أولى مؤلفة من 30 شاباً من جامعة "الأخوين" في مدينة إفران (أول جامعة مغربية تعتمد النظام التعليمي الأنغلوساكسوني)، متخصصين في تكوين المهندسين في المعلوماتية، والتمويل والتخصصات التقنية الأخرى، خضعوا لـ"اختبارات صعبة" لقياس قدرتهم على التأثير الناجع على المستوى الافتراضي. في حين يُنتظر أن يستفيدوا خلال الأشهر المقبلة من تدريبات باللغتين العربية والإنكليزية، فضلاً عن مهارات في بلورة خطابات.
ومنذ صدمة أحداث الدار البيضاء الإرهابية، في 16 مايو/ أيار 2003، التي جاءت في سياق دولي متسم بارتفاع تحدي الجماعات المتطرفة، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، سارعت الأجهزة الأمنية المغربية إلى تغيير تعاملها مع خطر الإرهاب باعتماد مقاربة استباقية، كان من ملامحها الرئيسة تفكيك الخلايا الإرهابية قبل وصولها إلى مرحلة التنفيذ. في موازاة ذلك، تمّ تنظيم الحقل الديني في المغرب وإعادة هيكلته، من أجل مواجهة الفكر المتطرف، وذلك بتديّن سماه كثيرون "الإسلام المغربي"، القائم على التمسّك بمؤسسة "إمارة المؤمنين" لتحسم الجدل الديني حول هذا الملف، وأيضاً تبني المذهب المالكي الوسطي، والعقيدة الأشعرية وطريقة الإمام الجُنيد في "التصوف السنّي".
كما باشرت الدولة محاولات مختلفة لتحييد خطر "الجهاديين" داخل السجون وخارجها، ومن ذلك عفو الملك محمد السادس في السنوات الأخيرة عن عدد من المعتقلين على ذمة قضايا إرهاب. في حين كان لافتاً إطلاق الدولة برنامج "مصالحة"، يشرف عليه مختصون وكوادر دينية، يستهدف سجناء مدانين في قضايا التطرف والإرهاب، يرتكز على ثلاثة محاور: المصالحة مع الذات، ومع النص الديني، ثمّ مع المجتمع، وذلك كله بهدف البحث عن مداخل لمراجعات ذاتية يقوم بها المعتقلون السلفيون، للاندماج في البيئة الاجتماعية بعد الإفراج عنهم.
أغلب المؤسسات الدينية المغربية ما زالت متواضعة في التعامل الرقمي مع قضايا التطرف العنيف
لكن اعتماد "الرابطة المحمدية للعلماء" على "مؤثرين" على شبكات التواصل الاجتماعي يثير تساؤلات حول أداء المؤسسات الدينية المغربية في التعامل الرقمي مع قضايا التطرف. وعن ذلك، يقول الباحث في الشأن الديني، منتصر حمادة، إن أغلب المؤسسات الدينية المغربية ما زالت متواضعة في التعامل الرقمي مع قضايا التطرف العنيف، "بل إن مؤسسة من حجم "المجلس العلمي الأعلى"، ما زالت غائبة رقمياً، إذ لا نجد موقعاً إلكترونياً ناطقاً باسمها، وإنما نجد أخبارها في موقع مؤسسة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية".
ويذهب الباحث المغربي، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنه على الرغم من بعض المبادرات التي تقوم بها "الرابطة المحمدية للعلماء"، في سياق تفاعلها مع معضلة التطرف العنيف عبر بعض المراكز البحثية، إلا أنها تبقى إجمالاً، أخذاً بعين الاعتبار الإمكانات المتوفرة لدى المؤسسة والدعم المالي الذي تحظى بها حتى من الخارج، متواضعة مقابل ما هو مطلوب. ويتابع: "الأمل في تطبيقات النموذج التنموي الجديد الذي أعلنه الملك محمد السادس رسمياً، حتى نعاين أداء مغايراً بأسماء جديدة وأفكار جديدة، تساهم في صيانة الأمن الروحي للمغاربة، وتطبيق نوعي واحترافي لتوجيهات وتعليمات مؤسسة إمارة المؤمنين".
أما رئيس مركز "الميزان للوساطة والدراسات والإعلام"، المعتقل السابق على ذمة قانون الإرهاب قبل أن يحظى بعفو ملكي، عبد الوهاب رفيقي، فيعتبر أن مشروع مكافحة التطرف على مواقع التواصل الاجتماعي مبادرة إيجابية بالنظر إلى ما يمتلكه "المؤثرون" من تأثير كبير على جمهور واسع، من شأنه المساهمة في تمرير رسائل التعايش والسلام والمحبة وقيم التعددية وقبول الآخر والاختلاف، ونشرها في المجتمع المغربي. ويرى في حديث مع "العربي الجديد" أن المبادرة تشير إلى أن "الرابطة المحمدية للعلماء" تتابع فعلاً كل ما يستجد من تحولات داخل المجتمع، وأنها تقيس درجة نبضه وإلى أي جهة يمكن أن يستمع الشباب.
ووفق رفيقي، فإن من شأن حسن تطبيق المشروع الجديد أن يفضي إلى نتائج طيبة في مجال محاربة التطرف وعمليات الاستقطاب على مواقع التواصل الاجتماعي، مستبعداً أن يكون لجوء "الرابطة المحمدية للعلماء" إلى الاعتماد على "المؤثرين" مرده قصور المقاربة التي اعتمدها المغرب على امتداد السنوات الماضية لمواجهة التطرف والإرهاب. ويضيف: "ما حصل أن وسائل التواصل الاجتماعي تجاوزت الوسائل التقليدية في محاربة التطرف. ويبدو واضحاً أن الرابطة قد تنبهت إلى ذلك وإلى أن الطرق التقليدية المبنية على الخطاب الديني داخل المساجد أو المعتمدة على الإعلام الرسمي لم تؤت أكلها بالدرجة المطلوبة. فكان أن انتقلت إلى سياسة الاعتماد على المؤثرين. وأعتقد أن هذا توجه جيد وستكون له نتائج إيجابية".