دخلت حرب السودان منذ أول من أمس الجمعة، منعطفا جديدا مع انتقال القتال إلى مدينة ود مدني، ثاني أكبر المدن السودانية على الإطلاق.
وكانت قوات الدعم السريع، قد حاولت منذ أمس الأول، وعبر عربات قتالية دخول مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، عبر سهول البطانة، واستولت على قرى ومدن صغيرة مثل: ودراوة، والهلالية، وتمبول، كما سيطرت على مستودع لتخزين الوقود بمنطقة أم عليلة على بعد 15 كيلومترا من ود مدني، وزادت حشودها يومي السبت والأحد، بقوات إضافية قادمة من الخرطوم، فيما يواصل الجيش عبر سلاح الطيران التصدي للهجمات، واشتبك معها بقوات برية، وأغلق المدينة بالكامل، ومنع الدخول والخروج من وإلى أكثر من جهة، بينما نزح آلاف المواطنين إلى ولاية سنار المجاورة على الجهة الجنوبية من المدينة، وشملت ترتيبات الجيش كذلك مدنا أخرى بولاية الجزيرة مثل الحصاحيصا وأبو عشر والكاملين.
ودخلت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أمس السبت، شهرها التاسع دون قدرة أي من الطرفين على الحسم النهائي للمعركة، لكن قوات الدعم السريع تحتفظ بقدرتها على الهجوم والمباغتة والسيطرة على أجزاء واسعة من العاصمة الخرطوم ومعظم ولايات غرب السودان، وتخطط للانفتاح على ولايات أخرى مثل نهر النيل والنيل الأبيض والجزيرة.
وتعد مدينة ود مدني، وسط السودان، والواقعة على بعد نحو 180 كيلومترا جنوب شرق الخرطوم، ثاني أكبر المدن من حيث الكثافة السكانية، كما تعد المدينة الاقتصادية الثالثة في البلاد، ونزح إليها منذ بدء الحرب بين الجيش والدعم السريع نحو 500 ألف من سكان ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان، كذلك انتقل إليها مع بقية مدن ولاية الجزيرة أغلب النشاط الاقتصادي بعد اندلاع الحرب، وترتبط المدينة بطرق عدة توصلها بالخرطوم وميناء بورتسودان الرئيسي، إضافة لولايتي سنار والنيل الأبيض.
وفي بيان للدعم السريع، قال إن خطته للوصول إلى ود مدني هدفها ملاحقة فلول نظام الرئيس المعزول عمر البشير وما يسميه جيش البرهان.
وطبقا لشهود عيان تحدثوا لـ"العربي الجديد"، اليوم الأحد، فإن الاشتباكات تواصلت لليوم الثالث على التوالي بالقرب من جسر حنتوب، ويسيطر التوتر والقلق على المدينة، حيث أُغلقت جميع أسواق المدينة وكذلك المؤسسات الخدمية الأخرى، خصوصا المشافي التي خرج معظمها عن الخدمة بنسب متفاوتة، ويحاول السكان الخروج من المدينة، والتوجه إلى المناطق القريبة مثل سنار والمناقل والحاج عبد الله، كما أصدر والي ولاية الجزيرة قرارا بحظر التجوال، بدءا من السادسة مساء إلى السادسة صباحا، وانتقل التوتر ذاته للمدن والقرى القريبة والطريق الشرقي الرابط بين الخرطوم وود مدني الذي خفت فيه حركة المرور، فضلا عن الطريق الغربي، كما أُغلقت حركة النقل النهري بين ضفتي نهر النيل الأزرق.
وتعرض مواطنون في المناطق التي سيطر عليها الدعم السريع، بحسب تأكيداتهم لـ "العربي الجديد"، لعمليات نهب وسلب طالت كذلك البنوك وأقسام الشرطة، وقتل 3 من المواطنين على يد الدعم السريع بمدينة برانكو على طريق الخرطوم مدني الشرقي.
ويقول اللواء المتقاعد صلاح عيساوي، مستشار قوات الدعم السريع، في حديث مع "العربي الجديد": "إن تحرك قواتهم لمدينة ود مدني له أكثر من سبب، منها ملاحقة فلول النظام البائد الذين فروا من الخرطوم برغبة حماية مناطقهم لكي لا تقع فيها حرب، وإصرار الجيش على مهاجمة المدنيين وقصفهم جويا، كما حدث في نيالا قبل أيام"، مشيرا لسبب آخر هو الرد على تدمير الجيش قبل أسابيع جسر شمبات الرابط بين الخرطوم وأم درمان، فضلا عن إجهاض مخططات البرهان خلال زيارته الأخيرة إلى المدينة، والهادفة لحشد المزيد من المستنفرين والمتطوعين.
وأكد عيساوي، قدرة الدعم السريع في السيطرة على المدينة، لكنه استبعد تماما تكرار عمليات النهب في ود مدني، كما حدثت في العاصمة الخرطوم، لأن "الدعم السريع طور من آلياته في ضبط قواته وردع المتفلتين منها، عدا عن التعليمات الصارمة من قيادة الدعم السريع للقيادات الميدانية بحماية ممتلكات المدنيين".
غير أن خطوة الدعم السريع بمهاجمة ود مدني، حظيت باعتراض داخلي وخارجي، وأصدرت وزارة الخارجية الأميركية بيانا، دعت فيه الدعم السريع للتراجع عن هجومه، لأنه يعرقل جهود الإغاثة الدولية لمتضرري الحرب الفارين من الخرطوم، كما أصدرت عدد من الأحزاب بيانات تحذر فيها من تمدد الحرب، مثل التجمع الاتحادي الذي قال إن اتساع رقعة المعركة لتشمل المزيد من ولايات ومدن السودان الآمنة يهزم أول ما يهزم الدعاوي التي يطلقها طرفا النزاع بأن حربهم من أجل السودانيين، مشيرا إلى أن الحرب تحصد أرواح المدنيين بدون ثمن، وتهين كرامتهم وتسلب مالهم وممتلكاتهم، من أجل شهوة الانفراد بالسلطة، والحكم على ما تبقى منهم، طبقا لما جاء في البيان.
وأدان التجمع، هجوم قوات الدعم السريع الأخير على ولاية الجزيرة وقراها ومدنها الآمنة وحاضرتها ود مدني، كذلك أدان قصف طيران الجيش للمدنيين العزل في نيالا بجنوب دارفور وغيرها، وأعاد رفضه تمدد العمليات العسكرية بمدينة الفاشر بشمال دارفور وحمرة الشيخ بشمال كردفان والأضية بغرب كردفان، وما يتردد بمنصات دعاة الحرب وأبواقها من وعيد وتهديد بالمزيد من التمدد وتوسيع رقعة القتال إلى غيرها من الولايات والمدن الآمنة التي كانت مأوى للفارين من جحيم الحرب في مناطق القتال.
من جهتها، حثت تنسيقية القوى المدنية "تقدم"، الجيش وقوات الدعم السريع على تغليب صوت العقل والمصالح الوطنية العليا، عبر إنهاء تلك الحرب بحل سياسي متفاوض عليه يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية ذات جيش مهني قومي واحد، مبدية أسفها للتطورات المأساوية خلال الأيام الماضية، ممثلة في قصف نيالا بالطيران، وانتقال الحرب إلى ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني التي كانت ملاذا لملايين الفارين من جحيم الحرب في الخرطوم، داعية المجتمع الدولي والإقليمي إلى تكثيف ضغوطه في اتجاه وقف العدائيات، وتعزيز فرص الحل التفاوضي، واتخاذ تدابير جدية لحماية وإغاثة المدنيين.
وأشارت إلى أن "الإعراض عن الحل السياسي ينذر باتساع دائرة الحرب ووصولها إلى الولايات الآمنة وتفاقم المأساة الإنسانية، ويقود في النهاية إلى تقسيم البلاد كما يخطط فلول النظام البائد.
من جهته، قال تحالف قوى الحرية والتغيير في بيان له: إن "دخول الحرب شهرها التاسع، لم تجنِ منه البلاد سوى الدمار، ولم يحصد منه الشعب غير الخراب والمعاناة"، محذرا من تمدد الحرب في مناطق جديدة، وتزايد استهداف المدنيين بالقصف المدفعي والجوي في مناطق سكنية عدة في نيالا والخرطوم ومناطق أخرى.
وأضاف البيان أن "موقف التحالف المبدئي، يقوم على ضرورة وقف الحرب بشكل فوري، وانخراط طرفيها في مباحثات جدة بشكل جاد ومسؤول، لوضع حد لكل الانتهاكات المرتبطة بها، ورفض أي توسع لنطاقها وتحويلها لحرب أهلية سيترتب عليه زيادة حجم المعاناة الإنسانية على المدنيين المتأثرين بالحرب"، مؤكدا أن على الطرفين تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والجنائية تجاه أي تصرفات تعد انتهاكا لأرواح أو سلامة أو ممتلكات المواطنين المدنيين، ويشمل ذلك كل التجاوزات، سواء كانت ذات طابع مؤسسي أو سلوك فردي، و"سيمثل مرتكبوها أمام القضاء بعد انتهاء الحرب، لينالوا العقاب علي ما ارتكبوه من جرائم في الحرب، وستطال العدالة كل المرتكبين لها والمحرضين عليها"، وفقا للبيان.
يوضح أكثر الناطق الرسمي باسم قوى الحرية والتغيير، شهاب إبراهيم الطيب، لـ "العربي الجديد" بقوله: إن "استمرار الحرب وتوسيع رقعتها بصورة أكبر يزيد من حالة الاستقطاب وسط المجتمعات، وستتخذ أشكالا عدة، وهذا ما يخدم مخطط الحركة الإسلامية وداعميها من المجموعات التي ترتبط مصالحهم بعودتها للسلطة"، مشددا على ضرورة حماية المدنيين، والمحافظة علي حياتهم وممتلكاتهم، بعدم توسيع رقعة الحرب إلى مناطق أخرى، وعلى استكمال التفاوض في منبر جدة لإيقاف الحرب تماما.
وأضاف أن على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ألا يهدر الفرص وألا ينصاع لرغبة الحركة الإسلامية في رفض أي تفاوض يوقف هذه الحرب، وكذلك على قائد الدعم السريع "حميدتي" عدم توسيع رقعة الحرب، أو نقلها إلى أي منطقة من المناطق التي لجأ لها المواطنون تحت أي ذريعة أو مبرر.
أما الطاهر ساتي، رئيس تحرير صحيفة "اليوم التالي"، فيرى أن الهجوم على ود مدني هو محاولة من الدعم السريع للخروج من محرقة الخرطوم، مبينا لـ"العربي الجديد" أن "الجيش يتقدم أكثر في العاصمة ويحاصر الدعم السريع في كل المحاور، حيث تعاني المليشيا من أزمة إمداد ووقود، ولذلك لجأت لعمليات النهب، بعد أن نفد ما يمكن نهبه في الخرطوم، فوجدت الجزيرة هي الولاية الأقرب والأغنى والأنسب للنهب، وهو هدفها الوحيد من الهجوم على ود مدني الخالية من أي أهداف عسكرية".
وأضاف أن "قوات الدعم السريع بمنطقة شرق النيل بالخرطوم وجدت نفسها في مأزق وحصار بعد فصل وتشتيت القوات عقب تدمير الممرات، فاحتاجت إلى صخب وضجة للخروج من الحصار بمثل تلك العمليات الانتحارية بولاية الجزيرة، حيث لا تسمح لها الطبيعة بغزو ود مدني ولا تسمح لها كذلك الحواضن الاجتماعية.