شكّل حراك السويداء، جنوبي سورية، العام 2023، الذي انطلق في 15 أغسطس/آب الماضي، نقطة لافتة في مسار الأحداث في سورية، ليعيد إحياء شعارات الثورة وأهدافها في إحداث تغيير سياسي عميق في البلاد وفق القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية، وخصوصاً القرار 2254، وذلك بعد تراجع للحراك الثوري وبدء مسار انفتاح عربي على نظام بشار الأسد.
وفي حين كانت القرارات التي أصدرتها حكومة النظام منتصف العام الماضي، خصوصاً لجهة زيادة أسعار المشتقات النفطية، هي العامل الأول لبروز استياء شعبي في محافظة السويداء، فإن ذلك شكّل مدخلاً لاحتجاجات، تطورت إلى حراك ثوري، تجلّى في وقفات احتجاجية وتظاهرات لا تزال مستمرة، ووصلت شعاراتها إلى المطالبة برحيل النظام.
منيف رشيد: من سلبيات تدخّل المشيخة أن بعض الجهات حاولت استغلال الأمر لصبغ الحراك بصبغة دينية
وتشهد ساحة الكرامة في قلب مدينة السويداء، عاصمة المحافظة، بشكل شبه يومي، وقفات احتجاجية تزيد وتيرتها كل يوم جمعة، في محاكاة واضحة للثورة السورية حين كان المتظاهرون في كل المدن السورية يخرجون بتظاهرات حاشدة في هذا اليوم.
النظام السوري يراهن على الوقت
ويتجنّب النظام السوري حتى اليوم أي مواجهة مباشرة مع جموع المحتجين في السويداء، مراهناً على الوقت في تراجع مدّ الحراك ضده في هذه المحافظة محدودة الموارد. إلا أن هذا المد لم ينحسر، وباتت السويداء، التي حاول النظام تحييدها منذ عام 2011، في قلب الثورة السورية.
وحاول مقربون من النظام ترويج مخطط لإشاعة الفوضى في محافظة السويداء، من خلال التلويح بورقة تنظيم "داعش"، الذي كان النظام نقل مجموعات تابعة له من أطراف دمشق وريف درعا الغربي إلى بادية السويداء، وارتكبت مجازر بحق ريفها الشرقي عام 2018.
ولكن المحتجين في ساحة الكرامة لم يتراجعوا عن حراكهم، مستفيدين من عجز النظام أمامه، حيث لا يمكنه إلصاق تهمه الجاهزة به، نظراً للطبيعة المذهبية لسكان محافظة السويداء، التي اغتنمت خصوصيتها للتعبير عن رفضها المطلق لهذا النظام الذي يتداعى اقتصاده، بسبب رفضه التعاطي إيجاباً مع كل مبادرات الحل السياسي.
وأسقط حراك السويداء الكثير من الأوراق السياسية من يد النظام، لعل أبرزها ورقة حماية الأقليات التي رفعها في وجه المجتمع الدولي منذ عام 2011، واتخذ منها ذريعة للفتك بالسوريين المطالبين بالتغيير. فالدروز السوريون أثبتوا أن النظام كان يتلطى خلف هذه الأقليات محتمياً بها وليس العكس، وأن مطالب التغيير لا تتوقف عند مكون معين من مكونات الشعب السوري.
مشيخة العقل والحراك في السويداء
في العشرين من أغسطس الماضي، أعلن الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سورية حكمت الهجري دعمه الصريح للانتفاضة ومطالب الشعب التي وصفها بالمطالب "المحقة"، ودعم مشروع "سوري وطني علماني"، وهو ما كان له أعمق الأثر في اتساع نطاق الحراك وديمومته واكتسابه زخماً كبيراً، دفع بالولايات المتحدة ودول الغرب عموماً للاهتمام به.
كما أعلن الشيخ حمود الحناوي، وهو أحد مشايخ العقل البارزين في السويداء ذات الغالبية الدرزية من السكان، دعمه الاحتجاجات، وأيّد مطالبها، فيما اتخذ الشيخ يوسف جربوع موقفاً محايداً من الحراك، إذ لم يدعم الاحتجاجات وفي الوقت نفسه لم يهاجمها بشكل صريح.
ودخل حراك السويداء دائرة الاهتمام من قبل الجانب الأميركي، حيث أجرى، في سبتمبر/أيلول الماضي، النائب الأميركي الجمهوري فرينش هيل اتصالاً مع حكمت الهجري، دام أكثر من نصف ساعة.
وقالت مصادر مقربة من الهجري، في حينه، إن النائب الجمهوري، المهتم بالملف السوري، "عبّر عن اعتزازه بالتواصل مع القائد الروحي للموحدين الدروز، متمنياً بناء علاقة وطيدة معه، ومشدّداً على أن سلامته الشخصية هي موضع اهتمام خاص".
كذلك، اتصلت النائبة في البرلمان الأوروبي ورئيسة لجنة الشؤون الخارجية ومسؤولة الملف السوري عن كتلة "الخضر" البرلمانية كاترين لانغزيبن بالشيخ الهجري، وهو ما يؤكد الدور الذي يلعبه الحراك في محافظة السويداء في إبقاء القضية السورية في دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي.
تشكيلات سياسية ومدنية تنبثق من حراك السويداء
مع دخول الحراك شهره الثاني في أيلول/سبتمبر الماضي، بدأ المحتجون ينظّمون أنفسهم ضمن مجموعات مدنية وسياسية اتخذت أشكالاً تنظيمية عديدة، إذ فتح الحراك الباب لتيارات وحركات وأحزاب سياسية كانت مهمشة للعودة والانخراط بالعمل السياسي مجدداً، الأمر الذي وجد تأييداً من الهيئة الدينية والحاضنة الشعبية.
وانتخبت النقاط الاحتجاجية في معظم مناطق المحافظة ممثلين عنها لينضووا تحت مجموعة مدنية أطلقت على نفسها صفة الكتلة الوطنية. كما انبثقت عن الحراك أحزاب وتيارات سياسية كثيرة ذات اتجاه وطني شامل، وأخرى تنادي بالفيدرالية واللامركزية في أي نظام سياسي قادم.
واعتبر الناشط المدني منيف رشيد، في حديث مع "العربي الجديد"، هذا الأمر طبيعياً وصحياً "في حال لم يحدث أي تناحر بين ذوي الاتجاهات الفكرية المختلفة"، مضيفاً: يجب أن يفرز الحراك كل الأفكار على مختلف مشاربها، وبذلك التعدد الفكري لا بد من الوصول إلى جسم سياسي يكون جزءا من الحل السوري.
وحذر من "أي تناحر أو إقصاء"، مضيفاً: "هو حالة غير سليمة قد تؤثر على الحراك سلبياً، فكل بحسب رأيه يرى الوطن والحل من وجهة نظره بشكل مختلف".
ولفت رشيد إلى أن الحراك "بدأ بشكل نصف فصائلي ونصف نخبوي في أول يومين"، مضيفاً: "بدأ بإضراب عام وقطع طرقات، ولكن دخول مشيخة العقل على خط الحراك منحه زخماً وفتح الطريق أمام فئات شعبية وسياسية جديدة للمشاركة في الحراك الجديد".
سميح ناصر: المتظاهرون في السويداء في كل يوم يؤكدون وحدة سورية أرضاً وشعباً
وتابع: "لكن من سلبيات تدخّل المشيخة أن بعض الجهات حاولت استغلال الأمر لصبغ الحراك بصبغة دينية، على الرغم من تصريح المشيخة بالمطالبة بدولة علمانية".
وأعرب عن اعتقاده أن الشيخ حكمت الهجري "استحق الحفاوة التي قوبل بها من قبل الشارع السوري، الذي رأى فيه رجلاً وطنياً يحمل خطاباً عقلانياً هدفه إحداث تغيير في البلاد والمحافظة على وحدة شعبها وجغرافيتها المعروفة".
وأنهى المحتجون في السويداء وجود حزب "البعث" الحاكم للبلاد منذ عام 1963، إذ تم إغلاق كل مقاره في المدن والبلدات والقرى، في خطوة أربكت النظام وعكست عجزه عن التدخل العسكري والأمني في هذه المحافظة لخصوصيتها المذهبية، كما فعل مع المحافظات السورية الأخرى.
رفض استنساخ تجربة "الإدارة الذاتية"
وحاولت تيارات سياسية وليدة ركوب موجة الاحتجاجات للترويج لمشاريع سياسية جديدة، وفي مقدمتها استنساخ تجربة "الإدارة الذاتية" المعمول بها من قبل أحزاب كردية في شمال شرق سورية.
إلا أن هذه المشاريع وجدت رفضاً واسعاً من الحراك الثوري في السويداء وفق الناشط سميح ناصر، الذي أشار إلى أن هذا الطرح "دون الوطني" مرفوض شكلاً ومضموناً.
وتابع في حديث لـ"العربي الجديد": المتظاهرون في السويداء في كل يوم يؤكدون وحدة سورية أرضاً وشعباً، في رد على مزاعم النظام حول وجود نوايا انفصالية لدى متظاهري السويداء، والتي يرددها في وسائل إعلامه باستمرار، في محاولة لإفراغ الانتفاضة من مضامينها الوطنية، لتأليب الشارع السوري ضدها.
وأكد ناصر أن "معظم المحتجين يرون أن حراك السويداء الحالي امتداد لثورة الشعب السوري منذ العام 2011"، مضيفاً: "السويداء ما كانت ولن تكون بمعزل عن سورية ولا عن عمقها العربي، وأي مشروع انفصالي، وإن ولد بتوازنات دولية، سيولد ميتاً لا محالة، ولن يرضى سكان السويداء إلا دمشق عاصمةً لدولة موحدة ديمقراطية اسمها سورية".
حضور مؤثر للمرأة في حراك السويداء
وأخذ الحراك المدني في السويداء شكلاً جديداً لجهة البنية الجندرية، حيث الحضور الطاغي والمؤثر للمرأة، الذي أعطى الحراك قيمة مضافة، محلياً ووطنياً، وصلت أصداؤها إلى الإعلام المحلي والوطني والعالمي.
وقامت النساء بالعديد من المبادرات، إذ وزعن الورود وأغصان الزيتون على متظاهري ومتظاهرات ساحة الكرامة، وقمن بتوزيع لفافات من الخبز العربي الذي تشتهر به السويداء للدلالة على أن هذه الانتفاضة ليست انتفاضة جوعى وإنما هي انتفاضة لاستعادة الكرامة السورية.
واعتبر الناشط المدني ساري الحمد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، حضور المرأة حافزاً كبيراً لاستمرار الحراك، مشيراً إلى أن المبادرات التي قامت بها "أغنت جوهر الحراك".
إلى ذلك، قال الفنان التشكيلي فادي الحلبي، لـ"العربي الجديد"، إن "الحضور النسائي حالة غير مسبوقة في تاريخ الثورات في العالم العربي والعالم، وكان له دور كبير في إغناء الحراك".