"إنّ هدف إدارة دونالد ترامب هو إشعال أكبر قدر ممكن من الحرائق، ليكون من الصعب على إدارة بايدن التراجع عنها". تختصر هذه العبارة التي أدلى بها مسؤول أميركي لقناة "سي أن أن" كلّ ما يحاول الرئيس الأميركي الخاسر فعله من خلال ورشة القرارات والتهديدات التي يقوم بها أخيراً، أكان لناحية التفكير بتوجيه ضربة عسكرية في الخارج، قد تكون لإيران، أو سحب القوات الأميركية سريعاً من الخارج، وتوريط جو بايدن بمجموعة من الأزمات تكبل ولايته قبل أن تبدأ حتى.
ولم تمضِ أيام قليلة على إقالة الرئيس ترامب وزير دفاعه مارك إسبر، من منصبه، وتعيين وزير دفاع بالوكالة موالٍ له، هو كريستوفر ميلر، المدير السابق للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب، حتى انجلت الصورة في ما خصّ توجهات ترامب على صعيد السياسة الخارجية، في الأيام الأخيرة المتبقية من ولايته، قبل موعد تسليم السلطة رسمياً لخلفه الديمقراطي جو بايدن. وكانت تكهنات كثيرة قد سرت حول أسباب إقالة إسبر، ووضعها البعض في إطار تصفية حسابات داخلية معه. لكن الرئيس الخاسر يبدو أنه يدفع بقدر الممكن خلال ما بقي من ولايته، باتجاه استكمال أجندة أكثر التزاماً بوعوده الانتخابية التي كان تعهد بها منذ عام 2016، والمبنية على أساس النزعة الأميركية "الانعزالية"، والتي يعتبر ترامب حالياً رأس حربتها. ويصب قرار تقليص عدد القوات الأميركية الموجودة في أفغانستان والعراق، إلى أدنى مستوياتها منذ 20 عاماً، في هذا الإطار. لكن هذا القرار، الذي أعلن عنه أول من أمس، بانتظار قرارٍ لاحق مُرجح، بسحب جميع القوات الأميركية الموجودة في الصومال، وعددها 700، يضع إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن في دائرة مغلقة من الحرائق المشتعلة، خارجياً وداخلياً. فاستمرار غياب التنسيق والتواصل، بين الإدارتين، الجديدة والمغادرة، يجعل قرار الانسحابات التي وضعت موضع التنفيذ، على أن تكون قد استكملت في موعد 15 يناير/ كانون الثاني المقبل، في موضع تعريض الأمن القومي الأميركي للخطر. وعلى الرغم من وصف بعض المحللين خطوة ترامب بالرمزية، بسبب قدرة بايدن على إعادة قوات إضافية إلى هذه البلدان، إلا أن تبعات القرارات تتخطى هذا البعد. فمن جهة، يأتي القرار، الذي قلّلت بغداد وكابول من أهميته، مع غياب أي تنسيق داخلي أميركي، وأيضاً مع "الحلفاء" التقليديين للولايات المتحدة، الذين شاركوها حربيها الطويلتين في العراق وأفغانستان، ومتخطياً تحذيرات مؤسسة عسكرية دولية مهمة، هي حلف "الناتو". كذلك يأتي في ظلّ استمرار الأخطار الأمنية والاستراتيجية على مصالح الولايات المتحدة في بؤر ملتهبة، لا سيما لجهة ما تصفه واشنطن بالأعمال العدائية لإيران، وتزايد وتيرة عنف حركة "طالبان". من منظار أوسع، يختلف الرجلان، ومعهما المنظومة الأميركية، في تقييم الأخطار "القومية" المحدقة بأميركا، وكيفية التعاطي معها، على الرغم من التوافق المبدئي على أولوية التركيز على الخطرين الروسي والصيني. لكن المنظار الأضيق، يسير بالنسبة لترامب من منطلق استكمال وعود انتخابية، يرى أنها الأنسب له، تحضيراً لأي ترشح محتمل له للرئاسة عام 2024. وعلى بايدن، من جهته، أن يواجه فور تسلمه السلطة تداعيات القرارات، ليس فقط لخطرها على الأمن القومي، بل أيضاً لجهة الضغط الذي يمارسه جناح اليسار في الحزب الديمقراطي، خصوصاً بالنسبة للانسحاب النهائي من أفغانستان، المتماهي مع النهج الانعزالي لترامب.
أمل وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميلر بعودة جميع القوات الأميركية للبلاد بحلول مايو المقبل
يذكر أن بعض هذه القرارات كان قد بدأ الحديث عنها في الأشهر الأخيرة التي سبقت معركة الرئاسيات الأميركية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. وكان ترامب قد أكد "كره قيادات البنتاغون" له، لأنه يريد إنهاء حروب أميركا الطويلة. وكشف موقع "بلومبرغ" في بداية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن مناقشة ترامب مع مستشاريه الانسحاب من الصومال. وحول ذلك، قال الرئيس الخاسر إن "المواطن الأميركي" لا يعرف حتى أننا موجودون في مثل هذه الدولة.
وفي إشارة أيضاً إلى عزم الرئيس الخاسر وضع المزيد من العراقيل أمام عهد بايدن، وجعل "إرثه" مكبلاً لسياسة خلفه الخارجية، تعتزم إدارته تصنيف الحوثيين في اليمن منظمة إرهابية، ما يصعب عملية التفاوض لاحقاً لإنهاء الحرب اليمنية. وضغطت الرياض مراراً على واشنطن باتجاه اتخاذ مثل هذه الخطوة. وقال دبلوماسي أميركي لـ"فورين بوليسي" إن الإدارة "تبحث تصنيف جماعة الحوثيين منذ مدة منظمة إرهابية، لكن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يريد أن يحصل ذلك سريعاً اليوم". وإذا كان القرار يرتبط أيضاً بزيادة الضغوط على إيران، التي لا تزال أيضاً مهددة أيضاً بخطوة ترامبية عسكرية، فإن "فورين بوليسي" لم تستبعد أيضاً في تقرير أخير لها أن يعمد ترامب إلى إطلاق قنبلة من العيار الثقيل في نهاية عهده، لإطباق الخناق على بايدن، عبر سحب إضافي لجنود بلاده من ألمانيا، أو إعلانه في اللحظة الأخيرة عن انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولا تستطيع أي إدارة انتقالية تخطي مثل هذه القرارات، أو إجراء تقييم سريع معمق حول ماهية القرارات التي من الممكن التراجع عنها سريعاً بأوامر تنفيذية.
وتخطت الإدارة الأميركية كمّاً من التحذيرات، صدرت حتى من الحزب الجمهوري، تتعلق بخطر الانسحابات العسكرية من العراق وأفغانستان. وكما كان متوقعاً وفق تسريبات إعلامية عدة، أعلن وزير الدفاع الأميركي بالوكالة، كريستوفر ميلر، أول من أمس الثلاثاء، أنه سيتم سحب نحو ألفي جندي من أفغانستان بحلول 15 يناير، رافضاً المخاوف القائلة بأن الانسحاب المتسرع قد يقضي على كل ما حاربت من أجله الولايات المتحدة في ذلك البلد. وسيتم سحب 500 جندي من العراق، في الموعد ذاته، بحيث لن يبقى في كل من البلدين سوى 2500 جندي أميركي. وأكد ميلر أن هذا القرار يعكس رغبة ترامب "في إنهاء حربي أفغانستان والعراق بنجاح ومسؤولية، وإعادة جنودنا الشجعان إلى الوطن". ولفت وزير الدفاع الأميركي بالوكالة إلى أن بلاده حقّقت الأهداف التي حدّدتها في عام 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، كما هزمت متطرفي تنظيم "داعش" وساعدت "شركاءها المحليين وحلفاءها على التقدّم في المعركة". وتابع أنه "في العام المقبل، سننهي هذه الحرب التي استمرت لأجيال، وسنعيد رجالنا ونساءنا إلى الوطن"، متحدثاً عن أمل ترامب "في عودة جميع الجنود إلى الوطن بحلول شهر مايو/ أيار المقبل". وأضاف ميلر "سنحمي أطفالنا من العبء الثقيل للحرب المستمرة وخسائرها، وسنكرم التضحيات التي بذلت من أجل السلام والاستقرار في أفغانستان والعراق والعالم".
وأتى الإعلان على الرغم من تحذير حلفاء للولايات المتحدة ومسؤولين أميركيين بارزين بأن خفض عديد القوات الأميركية سيضعف الحكومتين الأفغانية والعراقية في مواجهة المتطرفين. وكان وزير الدفاع الأميركي المقال، مارك إسبر، قد سلّم قبيل مغادرته منصبه مذكرة سرّية اعتبر فيها أن الوضع على الأرض في أفغانستان لا يسمح بتقليص عدد القوات الأميركية، متحدثاً عن "عودة هجمات طلبان، وقلق على سلامة القوات المتبقية، والضرر المحتمل على تحالفات للولايات المتحدة، وكذلك على إمكانية أن يضر الانسحاب جهود توصل طالبان والحكومة الأفغانية لاتفاق سلام". وفتح غياب قائد القوات الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي عن مؤتمر ميلر الصحافي، أسئلة حول مدى موافقة القيادة العسكرية على مثل هذه القرارات. من جهته، أكد مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض روبرت أوبراين أن خفض القوات كان يجرى بحثه منذ فترة. وأوضح أنه "قبل 4 سنوات، ترشح الرئيس ترامب على أساس وعد بوقف حروب أميركا الطويلة، واليوم تم الإعلان في الكونغرس أن الرئيس ترامب يلتزم بوعده للشعب الأميركي". وقال مسؤول في إدارة ترامب، لموقع "سي أن أن"، إن البيت الأبيض أمر ميلر بالتركيز خلال الأسابيع المتبقية على الحروب السيبرانية وغير التقليدية، مع تركيز بشكل خاص على الصين. كذلك تبحث الإدارة تصنيف الحوثيين في اليمن منظمة إرهابية، وتستعجل صفقات تسلح ضخمة في الشرق الأوسط.
فورين بوليسي: ترامب قد يعلن انسحاباً أيضاً من الناتو
وفي العراق، أثار قرار واشنطن بالتخفيض الجديد لعديد قواتها العاملة في هذا البلد، من 3200 إلى 2500 جندي، ردود فعل متباينة لدى قوى سياسية عراقية مختلفة. ففي الوقت الذي يعتقد البعض أن الأميركيين يعدون الانسحاب بمثابة عقوبة للعراق، قلّل آخرون من أهمية القرار الأميركي، في ظلّ بقاء هذه القوات، بغض النطر عن عددها. يذكر أنه بعد ساعة من إعلان البنتاغون سحباً للقوات، شهدت العاصمة العراقية بغداد هجوماً بـ6 صواريخ استهدف المنطقة الخضراء، التي تضم السفارة الأميركية وبعثات دبلوماسية غربية وتسبب بمقتل طفلة وجرح مدنيين آخرين.
ورجح مسؤولان عراقيان في بغداد أن يكون التخفيض الجديد من وحدات تدريب ودعم معلوماتي، مستبعدين إغلاق أي قاعدة جديدة في العراق على غرار ما حدث خلال الأشهر الماضية. وقال مسؤول لـ"العربي الجديد" إن المتوقع أن يكون التخفيض من معسكر المطار ووحدة دعم متقدمة قرب بغداد، كانت تقدم معلومات جوية للقوات العراقية عن تحركات "داعش"، مستبعداً إغلاق أي من قاعدتي عين الأسد وحرير غرب الأنبار وشرق أربيل في الوقت الراهن.
ورأى عضو ائتلاف "دولة القانون"، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، سعد المطلبي، أن تخفيض عديد القوات الأميركية في العراق قد يكون مرتبطاً بالانتخابات الأميركية وتفاعلاتها، مبيناً أن الإدارة الحالية في واشنطن تعتبر الانسحاب بمثابة العقوبة للعراق.
وأشار المطلبي في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن الأميركيين يعتقدون أن انسحاب قواتهم من البلاد سيجعل العراق في خطر، متوقعاً أن يكون الانسحاب على شكل انسحاب كتيبة من كل مكان توجد فيه، وليس إخلاء قاعدة بشكل كامل.
من جهته، قلل عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي كريم عليوي من أهمية الحديث عن تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق، مبيناً في إيجاز صحافي قدمه أمس أن هذا الحديث هو مجرد تصريحات إعلامية، ومضيفاً أن الولايات المتحدة لا تريد الخروج من العراق، بل تريد تعزيز وجودها من أجل تحقيق مشاريعها. واعتبر عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، مثنى أمين، أن بلاده "غير مهيأة في هذا الوقت للانسحاب الأميركي"، فيما رأى النائب عن تحالف "الفتح" (الجناح السياسي للحشد الشعبي) أن تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق سيسهم في تقوية الجبهة البرلمانية المطالبة بإخراج القوات الأميركية من البلاد.
وفي أفغانستان، أكد صديق صديقي، المتحدث باسم الرئيس الأفغاني أشرف غني، عبر "تويتر"، أن غني وميلر تحدثا هاتفياً بخصوص "استمرار الدعم العسكري الأميركي للقوات الأمنية الأفغانية وقوات الدفاع".
وتقول الحكومة الأفغانية إن خفض القوات الأميركية لن يؤثر سلباً على أمن البلاد، لأن الجيش الأفغاني بمفرده يقوم حالياً بالعمليات ضد حركة "طالبان" والجماعات المسلحة، مع اعتقادها أنه بموجب الاتفاقية بينها وبين واشنطن، ستقوم واشنطن بدعم القوات الأفغانية إذا دعت الحاجة إليه.