إذا كان الغموض البنّاء في بعض الأحيان نجاحاً، فإن زيارة رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي لواشنطن كانت ناجحة، أو هكذا بدت.
فبعد الاتفاق مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على إنهاء "الدور القتالي" للقوات الأميركية في العراق، صار بإمكانه الزعم بأنه تخلص من الوجود الميداني الأميركي في بلاده. ورقة يحتاجها لمواجهة كثير من التحديات الداخلية، لا سيما قبيل انتخابات الخريف المقبل. بدوره، خرج الرئيس الأميركي هو الآخر وكأنه أوفى بوعده الانتخابي لإنهاء العمل العسكري الأميركي في العراق.
لكن الاتفاق على نهاية هذا الدور والاستعاضة عنه بآخر "تدريبي – استخباراتي – جوي" ترك جوانب غامضة وأسئلة مفتوحة. فلا إشارة إلى سقفه الزمني ولا تحديد لحجم وعدد قوة الدعم التي ستبقى في العراق بعد نهاية العام الجاري. وزاد من علامات الاستفهام صدور تعليقات وتفسيرات متباينة عن الإدارة. ففيما أكّد بايدن على "نهاية الدور القتالي" للقوات الأميركية، نُسب إلى مسؤول في الإدارة قوله إن ما جرى التوافق بشأنه "لن يقود إلى تغيير جوهري في العدد ولا في مهمة القوات". في الوقت ذاته، وضعت الناطقة الرسمية في البيت الأبيض جين ساكي الترتيب الجديد في إطار "التنسيق مع العراقيين في المواجهة مع داعش وجماعات إيران" في العراق.
شروحات الإدارة الضبابية هذه تعكس "مشي الجانبين على حبل مشدود"، تفرضه حساسية الموضوع، وبالأخص للجانب العراقي الذي قد يصعب عليه تسويق هذه الصيغة لدى القوى المحلية، التي تشكل عقبة في طريق ترجمة أجندته، خصوصا إذا ما تعقدت أو انسدت آفاق مفاوضات فيينا مع إيران بشأن إحياء الاتفاق النووي.
البيت الأبيض تناسبه صيغة "نصف انسحاب" في الوقت الحاضر، فهي تحمل رسالة مزدوجة إلى طهران. من جهة تلوح من خلالها باستعدادها لمغادرة العراق عند توفر الشروط وعلى رأسها عودة إيران إلى اتفاق 2015 النووي، ومن جهة أخرى تريد استخدام إعادة التموضع كورقة ضغط في هذا الاتجاه.
من منظور الإدارة، تبقى الحسابات الإيرانية في أساس الترتيب الجديد للحضور العسكري الأميركي في العراق. بدونها كان يمكن القول، وبدون مجازفة كبيرة، إن إدارة بايدن لم تكن لتتردد في نسخ قرار الانسحاب من أفغانستان وتطبيقه في العراق. الإدارة تتحدث بلسان البنتاغون عن "الحاجة إلى توجيه الطاقات" نحو ساحات أخرى، وبالذات نحو الصين. ويتعجل البيت الأبيض في تنفيذ هذا التحوّل باعتباره أولوية راهنة وضاغطة. الانعطاف نحو هذه الوجهة يستوجب، في نظر الإدارة، تقليص الحضور في ملفات الشرق الأوسط، واقتصاره على سياسة المسكّنات.
صحيح أن محادثات الأيام الأخيرة في واشنطن، التي تكللت باللقاء الذي جمع الكاظمي ببايدن في البيت الأبيض أمس، تناولت جوانب كثيرة ومهمة في العلاقات غير الوجود العسكري الأميركي في العراق؛ لكن صيغة التعامل مع هذا الأخير تسلّط ما يكفي من الأضواء على مقاربات وتوجهات الإدارة في المنطقة. وفي ذلك ما يبرر مخاوف البعض في المنطقة من أن تنتهي مثل هذه السياسة إلى مقايضات ومساومات، يدفع ثمنها البلد الضعيف والممسوك الغارق بمشاكله وتحدياته، مثل العراق ولبنان.
في البيان الختامي للحوار الاستراتيجي مع العراق، وردت إشارة من نوع التوكيد على سيادة العراق على أراضيه، لكن من غير تعهدات ضامنة لهذه السيادة. لا يعني ذلك بالضرورة أن الإدارة قد تفرط بوحدة العراق. لكن للتذكير بأن بايدن كان سبق له قبل سنوات أن طرح التقسيم كحل في العراق. لا شك أن الظروف تغيرت وبايدن الرئيس هو غير بايدن السناتور أو نائب الرئيس.