استمع إلى الملخص
- الأحزاب القومية والعلمانية تعارض بشدة أي تعديل، بينما تطالب الأحزاب الكردية بتغييرات تضمن حقوقها. حزب العدالة والتنمية والحركة القومية يؤكدان عدم وجود نية لتغيير هذه المواد.
- تعديل الدستور يتطلب موافقة ثلثي البرلمان، وهو ما لا يمتلكه التحالف الحاكم. التوصل إلى توافق يبدو صعباً في ظل الاستقطاب السياسي الحالي.
عادت قضية كتابة دستور جديد في تركيا إلى دائرة الجدل بين الأطراف السياسية البارزة، عقب حديث زعيم حزب هدى بار الكردي، زكريا يابجي أوغلو، عن ضرورة تغيير المادة الرابعة في الدستور التركي، ما استدعى ردود فعل واسعة. وعقب الانتخابات المحلية التي جرت في 31 مارس/آذار الماضي، كثّف حزب العدالة والتنمية الحاكم، عبر رئيس البرلمان نعمان قورطولموش، مشاورات وضع الدستور التركي الجديد، من خلال لقائه الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، وحديثه عن استشارة جميع منظمات المجتمع المدني في البلاد، للمشاركة في إعداد مسودات للدستور ومقارنتها عبر لجان، والتوصل إلى صيغ مشتركة.
جدل المواد الأربع في الدستور التركي
الجديد الذي حصل، هو نقاش المواد الأربع الأولى في الدستور التركي التي تحدّد شكل البلاد ونظام الحكم ولغته ووحدته، وهو ما تُدافع عنه الأحزاب القومية والعلمانية بشدة، وكذلك حزب العدالة والتنمية الذي لا يرغب في خوض النقاش فيه، إلا أن الأحزاب الكردية تطالب بحقوق ضمن الدستور الجديد وبتغييرات في هذه المواد. وجاء حديث زعيم حزب هدى بار، زكريا يابجي أوغلو، ليشعل النقاش مجدداً ويحرج حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي تحالف مع هذا الحزب الكردي الإسلامي ضمن التحالف الجمهوري في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت العام الماضي.
تحدّد المواد الأربع الأولى في الدستور شكل البلاد ونظام الحكم ولغته ووحدته، وهو ما تُدافع عنه الأحزاب القومية والعلمانية
وتنص المادة الأولى على أن الدولة التركية هي جمهورية، والمادة الثانية تعرّف بماهية الدولة وهي "الجمهورية التركية دولة قانون ديمقراطية وعلمانية واجتماعية، في إطار فهم السلام الاجتماعي والتضامن الوطني والعدالة، واحترام حقوق الإنسان، وملتزمة بقومية أتاتورك، ومرتكزة على المبادئ الأساسية المذكورة في البداية". أما المادة الثالثة فتحدد النشيد الوطني والعاصمة واللغة الرسمية، فيما المادة الرابعة تنص على أن المواد الثلاث الأولى هي "أحكام غير قابلة للتغيير ولا يمكن عرض تغيير عليها".
وقال يابجي أوغلو، في حديث لقناة "سوزجو" المعارضة، في 12 سبتمبر/أيلول الحالي، "إن وجود مواد غير قابلة للتغيير في الدستور التركي ليس صحيحاً من الناحية القانونية ولا من الناحية السياسية، هذا يعدّ رهناً لإرادة الأجيال المقبلة". ورد عليه رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري مراد أمير بالقول: "مشكلتكم هي المواد الثلاث الأولى، تريد الملكية لأنكم تكرهون العلمانية، أنت لا تحب الديمقراطية، أنت مناصر لمفهوم الأمة (الإسلامية)".
يابجي أوغلو عاد وردّ عبر حسابه على منصة إكس، بقوله إنه لا يقصد المواد الأربع الأولى في الدستور التركي الحالي، بل المادة الرابعة فقط التي تحرّم تعديل أو إلغاء المواد الثلاث الأولى (الجمهورية، العلمانية والقومية الأتاتوركية). وهذه المرة ردّ عليه المتحدث باسم "الشعب الجمهوري" دنير يوجال بالقول: "دعونا نشرح الأمر كما لو كنا نشرحه للأحمق، لن نتخلى عن أتاتورك، أو الديمقراطية، أو الجمهورية، أو العلمانية، لمجرد أن 3-5 متعصبين من ذوي عقلية طالبان ورجعيين، يريدون ذلك".
ودخل على خط السجال زعيم "الشعب الجمهوري" أوزغور أوزال، الذي قال في 16 سبتمبر الحالي، إن "المواد الأربع الأولى من الدستور التركي هي خطوط حمراء لحزب الشعب الجمهوري"، وألقى بالأمر إلى طرفي التحالف الجمهوري الحاكم، "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، قائلاً: "الجرثومة هي جرثومة (حزب هدى بار) لا كلام لي لهم، لكن من يقولون إنهم قوميون ومحافظون، خصوصاً الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يضع حزب هدى بار على يمينه وحزب الحركة القومية على يساره، فماذا تقول يا سيد دولت باهتشلي (زعيم حزب الحركة القومية) مع من أنت؟".
ودخل "العدالة والتنمية" على خط النقاشات عبر المتحدث باسمه عمر تشليك الذي أكد في مؤتمر صحافي بـ16 سبتمبر، أنه "ليس لدينا أي نقاش حول المواد الأربع الأولى من الدستور، مقترحات التغيير بشأن هذه القضية ليست إيجابية بالنسبة إلينا". كما رد نائب رئيس الحركة القومية، سميح يالجين، عبر "إكس"، على تساؤلات حزب الشعب الجمهوري، قائلاً: "لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة الإشراف على حزب الحركة القومية أو استجوابه في ما يتعلق بالمواد الأربع الأولى من الدستور. لقد أثبت حزب الحركة القومية دقته في ما يتعلق بهذه المواد بكل عزيمة منذ سنوات، لن نتنازل أبدا أو نحاسب أنفسنا بشأن هذه القضية".
لم تفلح الجهود السياسية في تغيير الدستور التركي العائد لعام 1982
والدستور الحالي في تركيا موضوع عام 1982 عقب انقلاب 1980 الذي قاده الجنرال الراحل كنان إيفرين، ولم تفلح الجهود السياسية في تغييره.
أولويات الأحزاب
وفي المرحلة الحالية، وافقت الأحزاب على نقاش الدستور الجديد، ولكن حزب الشعب الجمهوري طالب "العدالة والتنمية" بـ"الامتثال للدستور الحالي"، في معرض تعليقه على ما يقول إنها انتهاكات تحصل بحقوق المواطنين والسياسيين، مثل النائب المعزول عن حزب العمل جان أطالاي.
ولتعديل الدستور مباشرة من البرلمان يجب موافقة ثلثيه، أي 400 نائب من أصل 600 نائب، ومن أجل الذهاب به للاستفتاء، فهو يحتاج إلى موافقة 360 نائباً، وهو ما لا يمتلكه التحالف الحاكم. وأي دستور جديد يحتاج إلى موافقة الأحزاب السياسية، ولهذا يستعد رئيس البرلمان في الفترة المقبلة لعقد ورشة عمل حول الدستور مع بقية الأحزاب.
وتبدو الأحزاب العلمانية والقومية والمحافظة والإسلامية متفقة على كتابة دستور جديد، ولكنها مختلفة في أهدافها. وهناك قلق من المعارضة أن يستغل أردوغان الدستور الجديد ليمنح نفسه صلاحيات من أجل الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، علماً أنه لا يحق دستوريا له الترشح إلا إذا قرّر البرلمان الذهاب إلى انتخابات مبكرة. فيما تطالب الأحزاب الكردية بمزيد من الحقوق القومية والثقافية، مثل الاعتراف باللغة الكردية، ومسائل الحكم الذاتي. ومن الملفت أن التحالف الحاكم لديه حليف كردي، وكذلك المعارضة التي تتعاون مع حزب "ديم" الكردي الذي لديه مطالب تتوافق مع مطالب "هدى بار". كذلك ترغب المعارضة في العودة إلى النظام البرلماني، فيما يطالب التحالف الحاكم بالاستمرار في النظام الجمهوري الحالي.
وعن الاختلاف بين الأحزاب حول الدستور وأفق التعاون في ما بينها، رأى الباحث في مركز سيتا للدراسات، باقي لالي أوغلو، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "حزب العدالة والتنمية اتخذ مبادرات جادة مرات عدة خلال فترة حكمه حول الدستور، وكانت أبرزها لجنة المصالحة الدستورية التي أنشئت بعد انتخابات 2011، وقد تم إحراز تقدم كبير في اللجنة التي ضمت عددا متساويا من الممثلين من كل حزب في البرلمان، وتم التوصل إلى اتفاق على أكثر من 60 مادة، لكن الاختلاف في التوجهين الأيديولوجي والعملي بين الكتل الحاكمة والمعارضة حال دون أن تصل العملية إلى نتيجة ملموسة". وأضاف: "في حين كان حزب العدالة والتنمية يدعو إلى انتقال النظام الحكومي إلى النموذج الرئاسي، كان حزب الشعب الجمهوري يدعو إلى إصلاح النظام البرلماني".
باقي لالي أوغلو: تعطي المعارضة حالياً الأولوية لإجراء انتخابات جديدة
ولفت لالي أوغلو إلى أن "البحث عن التسوية انتهى بعد تحوّل نظام الحكم إلى النموذج الرئاسي مع استفتاء 2017، وتمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق أحد أهدافه الرئيسية، وتم وضع مسألة الدستور التركي الجديد على الرف، ومع ذلك أصبح الدستور الجديد أحد البنود الرئيسية في جدول أعمال أردوغان، مع مناقشة قضايا مختلفة (الحجاب، وحماية الأسرة، وما إلى ذلك) واقتراب الذكرى المئوية للجمهورية، إلا أن الاستقطاب السياسي القاسي وانعدام الثقة بين الحكومة والمعارضة لم يفتح حتى باب المصالحة عند هذه النقطة".
واعتبر الباحث في مركز سيتا للدراسات، أنه "في هذه المرحلة لا يبدو التوصل إلى حل وسط بين الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية ممكناً، لأن الأخير يحتاج إلى دعم شريحة معينة على الأقل من المعارضة للدستور الجديد، فيما تعطي المعارضة وخصوصاً الشعب الجمهوري الأولوية لإجراء انتخابات جديدة، مع دعوات لإجراء انتخابات مبكرة"، معتبراً بالتالي أنه "في ظل الوضع السياسي الراهن لا يبدو ممكنا التوصل إلى توافق حول الدستور الجديد، إلا إذا كان هناك وضع استثنائي".
من جهته، قال الصحافي والكاتب إسماعيل جوكتان، لـ"العربي الجديد"، إن "دستور 1961 الذي تم وضعه بعد انقلاب 1960 وُصف بأنه ليبرالي أكثر من اللازم، فيما اعتُبر دستور 1982 مقيداً ومحافظاً، ومع ذلك في كلا الدستورين لم يتم تغيير المواد الأربع الأولى التي وضعها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، وتؤكد هذه المواد أن البلاد يجب أن يحكمها نظام علماني، وأن تكون تركيا جمهورية". ولفت إلى أنه "لم يكن لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية مشكلة مع المواد الأربع الأولى، على الرغم من اعتبار أردوغان أن الدستور تحوّل إلى حزمة مرقّعة، وفي الاستفتاءين الدستوريين اللذين أجريا وسط ضجة كبيرة، لم تحدث تغييرات جذرية".
وتوقّع جوكتان أن "المناقشات الدستورية قد تتحول إلى مناقشات طويلة، لأنه لا يوجد تحالف في البرلمان يتمتع بالأغلبية التي تمكّنه من تغيير الدستور وحده"، معتبراً أن "هذا الأمر سيستمر اعتماداً على مدى صدق الحكومة في تغيير الدستور". ورأى أنه إذا أصرّت الحكومة على التعديل "فقد يتسبب ذلك في توترات سياسية قد تؤدي حتى إلى إجراء انتخابات مبكرة، ومع ذلك فإن استمرار المناقشات حول المواد الأربع الأولى قد يؤدي إلى انهيار التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية".