الجمهورية أنا"، هكذا صرخ جان لوك ميلانشون، زعيم اليسار الراديكالي الفرنسي، والمرشح للرئاسة الفرنسية، في وجه عناصر الشرطة الذين اقتحموا مكتب حزب "فرنسا غير الخاضعة" (أو الأبية، أو المتمردة)، عام 2018، بإخطار تفتيش. حينها كلّفت هذه العبارة، مزيداً من الملاحقة بحقّ هذا السياسي الجدلي، المتمرد الدائم، الذي تكرهه المؤسسة السياسية في فرنسا، وجميع السياسيين، ومعهم كلّ قنوات الإعلام ومؤسساتها في البلاد، والتي يرى فيها بوقاً للنخبة الحاكمة.
اليوم، وتحت شعار "الوحدة الشعبية"، يخوض ميلانشون، مرة جديدة، سباق الرئاسيات، من دون أن يكون ذلك "الدخيل" الذي يحاول قضم جمهور اليسار التقليدي، لكن من دون أن يكون دخوله القوي في حلبة السباق، في الوقت ذاته، مدخلاً أيضاً لإصلاح اليسار الفرنسي.
ميلانشون... تقدم ثابت في استطلاعات الرأي الرئاسية
فعلى غرار ما تفعل منافسته في اليمين المتطرف، مارين لوبان، تمكن ميلانشون، التروتسكي العتيق، من الثبات والتقدم في استطلاعات الرأي، ليشكل "مفاجأة" هذا الموسم الانتخابي، في وقت لم يتخط أي مرشح آخر من معسكر اليسار الفرنسي، حتى الآن، عتبة الـ5 في المائة. ويحتل ميلانشون اليوم المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي، خلف لوبان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حالماً بالوصول إلى الدورة الثانية من الرئاسيات، ما من شأنه أن يكون عاملاً مقلقاً لأيّ متأهل معه.
يحتل ميلانشون المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي، خلف لوبان وماكرون
وتحتم التحولات التي طرأت خلال الأسبوعين الماضيين على أرقام استطلاعات الرأي في فرنسا، لمعرفة توجهات الناخبين قبل موعد الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى، تسليط الضوء على ميلانشون، الناجي الوحيد، إلى حدّ الآن، من استمرار انحدار اليسار الفرنسي الذي أغرق سفينة هذا اليسار في بحر الخلافات منذ أشهر ورفض وجوهه التوحد لمواجهة الرئيس ماكرون، ومرشحي اليمين واليمين المتطرف.
ومنذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، يواصل ميلانشون بثّ التفاؤل في صفوف مناصريه، وهو كتب على "تويتر"، قبل نهاية العام الماضي، أن هناك أملاً له للانتقال إلى الدورة الثانية من الرئاسية، بحجم "فتحة مرور لجحر فأرة". وتمكن زعيم "فرنسا غير الخاضعة"، من توسيع فتحة الأمل هذه، وهو أمل لا يزال يرافقه منذ أن ترشح للرئاسة للمرة الأولى في عام 2012، ثم في 2017، من دون أن يتأهل في أي منهما للدورة الثانية.
انتخابات فرنسا: ميلانشون يراهن على التصويت المفيد
ويراهن ميلانشون للوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية هذا العام، على ما يسمّيه "التصويت المفيد"، على اعتبار أن كتلة وازنة من اليسار الفرنسي الذي لم يتمكن من التوحد خلف مرشح واحد، للمنافسة بجدية في هذه الدورة الانتخابية، ستفضل التصويت له لتقدمه في الاستطلاعات، وإمكانية أن يحدث فرقاً، حتى لو كانت هذه الكتلة من المنتمين للاشتراكي، الذي تترشح عنه عمدة باريس آن هيدالغو، أو الحزب الشيوعي بمرشحه فابيان روسيل.
ورأت افتتاحية صحيفة "ليبراسيون" أخيراً، أنه إذا كان ميلانشون يتصدر مرشحي اليسار اليوم، فعلى "التحالف الإيكولوجي - الاجتماعي - الإصلاحي أن يلوم نفسه"، في إشارة إلى مرشحي اليسار الآخرين ومرشح الخضر يانيك جادو، كما إلى وزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا، التي انسحبت من السباق سريعاً، بعدما أدى إعلانها الرغبة في خوضه إلى المزيد من الانقسام في صفوف اليسار الفرنسي.
ويتطلع ميلانشون، أقلّه كما يبدو، للوصول إلى الدورة الثانية، ليس فقط لدغدغة حلم الرئاسة عن قرب أكثر، بل لإخراج زعيمة اليمين المتطرف منذ سنوات، لوبان، من هذه الدورة، على أمل إحراجها لإخراجها من المشهد السياسي الفرنسي برمته.
ولطالما دخل ميلانشون في سجالات إعلامية مع لوبان تحديداً، وندّد ببرنامجها وخطابها وعنصريتها. إلا أن ذلك لم يمنع حملته من التطلع أيضاً إلى أصوات المترددين من الفرنسيين، الذين قد يفكرون بالتصويت للوبان، على أمل التغيير.
وإذا كان اليسار الراديكالي الفرنسي، واليمين المتطرف في فرنسا، يتغذيان من القاعدة الشعبية في الأرياف، الكارهة للنخبة السياسية، فإن جولات ميلانشون الانتخابية التي انطلقت باكراً، شهدت مرة جديدة خطاباته الحماسية التي أراد دائماً كي تكون مباشرة مع الجمهور، رغم عوائق فيروس كورونا.
ولا يزال ميلانشون، السبعيني، الذي انضم إلى الحزب الاشتراكي في السبعينيات، مع شباب آخرين من جيله، كليونيل جوسبان، مواظباً على ثورته الخاصة، للقطيعة مع الرأسمالية، بعد تعثر الثورة في الشارع، والقطيعة مع معظم الشخصيات السياسية في الحزب الاشتراكي، باستثناء قلّة، كالوزير السابق جان بيار شوفينمان.
اعتبر ميلانشون أن بوتين "نظّف مدينة حلب من الإرهابيين"
ولا يزال ميلانشون، المنادي بضرورة ولادة الجمهورية السادسة، التي وضع برنامجها، ممسكاً بالخطاب نفسه، قبل وبعد مغادرة "الاشتراكي" عام 2008، بعدما بنى فيه تياراً في أقصى اليسار، ظلّ مشاغباً ومعارضاً، في وقت كان اليسار الفرنسي يجنح سريعاً نحو الوسطية الليبرالية.
واليوم، لا يزال ميلانشون ممسكاً بالخطاب نفسه عن ضرورة طي صفحة الجمهورية الخامسة، على الرغم من أن نزعة مؤسسها شارل ديغول، تتداخل مع نزعته المعادية لأوروبا، لليبرالية، والتي جعلت منه قطباً مهماً في التيار "السيادي" الواسع في فرنسا، الذي ينادي بـ"فرنسا أولاً".
ويقول ميلانشون، إن صرخة "الجمهورية أنا"، والتي كانت رداً على محاولة السخرية منه (يتهم ماكرون وفريقه الحكومي بالاستدعاءات والملاحقات بحق حزبه في 2018)، تحولت إلى شعار له، مردداً للإعلام الفرنسي، الذي يبغضه ويبقى في الوقت ذاته ضيفه الدائم، أنه "أصبح اليوم جاهزاً ليحكم"، مستقوياً بـ17 نائباً لـ"فرنسا الخاضعة" في البرلمان الفرنسي، متخطياً حزب لوبان الذي يملك 8 نواب.
ويقدم النائب عن منطقة بوش دو رون، برنامجاً مختلفاً جذرياً عن برنامج ماكرون الانتخابي، أو منافسته في حزب "الجمهوريين" اليميني، فاليري بيكريس (التي سرّب عنها قولها إن ماكرون سرق برنامجه منها).
ويطرح، خفض سنّ التقاعد إلى 60 عاماً، ورفع معاش التقاعد للذين أكملوا 40 عاماً من العمل إلى 1400 يورو، بالإضافة إلى خفض سعر النفط إلى 1.40 يورو لليتر، ومحاسبة الأثرياء. ويدعو زعيم "فرنسا غير الخاضعة"، إلى جمهورية سادسة، ودستور جديد، مع أن تكون السلطات بيد الحكومة (السلطة التنفيذية)، وأن يقرر نواب جدد، سيضعون الدستور، ما إذا كانت هذه الجمهورية رئاسية، مع تحديد صلاحيات الرئيس. ويرى أن الهدف من ذلك "إنهاء عهد الملكيات الرئاسية".
غموض وتناقض من قضايا الديمقراطية بالعالم العربي
حول القضايا العربية، يستذكر تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات جملة من تصريحات وآراء الرجل. ويقول التقرير المنشور في الخامس من إبريل/نيسان الحالي، إن مواقف ميلانشون، المولود في مدينة طنجة المغربية، يكتنفها غموض وتناقض واضح من قضايا الديمقراطية في العالم العربي، فهو معجب بالتجربة المغربية على الرغم من السياسات النيوليبرالية التي تتبنّاها، إضافة إلى امتناعه خصوصاً عن الإشارة إلى الانتهاكات التي ترصدها المنظمات الحقوقية في ما يتعلق بحرية التعبير واعتقال الصحافيين.
ويتابع تقدير موقف المركز العربي أن ميلانشون "أعلن إنه سيزور المغرب، في حال انتخابه رئيسًا، في أول زيارة له إلى بلدٍ أجنبي. وفي تناقضٍ واضح، يتقرّب من اليسار التونسي، وخصوصاً حزب الجبهة الشعبية ورئيسه، حمّة الهمامي، ويتبنّى مواقفه المتعلقة بحركة النهضة وإقصاء كل المكونات الإسلامية بلا تمييز من المشهد السياسي التونسي".
وفي الموضوع السوري، لم يتوقف ميلانشون عن اعتبار أن الأزمة السورية لا علاقة لها بمبادئ العدالة والحرية، بل بأبعاد جيوسياسية مرتبطة بالطاقة وخطوط نقلها. وهو يؤيد الفصائل المسلحة الكردية، ويرى أنها الحليف الوحيد المناسب للغرب في سورية، كما أيد التدخل العسكري الروسي المباشر هناك، على اعتبار أنه موجّه ضد "الإرهابيين الإسلاميين"، واعتبر أن بوتين "قد نظّف مدينة حلب من الإرهابيين"، حينما قصفتها طائراته في عام 2016. وهنا يلتقي ميلانشون ولوبان في الإعجاب بالدور الروسي نفسه. وما ابتعادهما عنه، في الأيام الأخيرة إثر اجتياح أوكرانيا، إلا ترجمة لسعيهما لعدم خسارة الأصوات في الانتخابات، وليس عن قناعة أبدًا.
ولم تتمكن الحرب الروسية على أوكرانيا، من تقليص التأييد لميلانشون، على الرغم من تأييده السابق للتدخل الروسي في سورية، ودفاعه عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. واستطاع ميلانشون، الذي شعرت حملته بالقلق مع اندلاع الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي، تدوير الزوايا، والتنديد بحرب بوتين، داعياً في الوقت نفسه إلى "السلام" و"عدم الانحياز".