دخل ملف انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في 4 أغسطس/ آب من العام الماضي مرحلة مصيرية تُحدِّد المسار الذي سيسلكه بين الوصول إلى العدالة والمحاسبة، أو طمس الحقيقة وإفلات المسؤولين من العقاب، لتنضمّ القضية إلى أرشيف التفجيرات والجرائم المجهولة الفاعل وتتحوّل إلى ذكرى سنوية مرفقة بشعارات ومناسبات تكريمية. ويتخوّف أهالي ضحايا انفجار المرفأ من السيناريو الثاني الأكثر توقعاً على الساحة اللبنانية، خصوصاً في ظل المعركة التي بدأت تشتدّ بوجه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، والتي تتخللها حملات تشويه لسمعته وتلفيق تهم للإطاحة به وتعيين بديل عنه، وهي خطوة قد تكون ضربة قاضية للتحقيقات.
وفي هذا الإطار، قدم وزير الداخلية اللبناني الأسبق والنائب الحالي نهاد المشنوق طلباً لنقل الدعوى من المحقق العدلي بسبب "الارتياب المشروع"، كما طلب وقف سير التحقيقات لحين البت بالدعوى المقدمة أمام محكمة التمييز الجزائية. كذلك، تقدّم الوزيران السابقان النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر بدعوى ردّ أمام محكمة التمييز المدنية بهدف وقف التحقيقات وكفّ يد البيطار مؤقتاً إلى حين البت بالطلب وذلك بذريعة أن القاضي البيطار خالف الأصول الدستورية وتخطى صلاحيات المجلس النيابي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. علماً بأن هؤلاء الثلاثة يستدعيهم البيطار للاستجواب بانفجار المرفأ.
خالد الحج: أكثر من 90 في المائة من الاغتيالات وجرائم القتل لم تصل التحقيقات فيها إلى نتيجة أو يحاكم أحد فيها
أمام هذا الوضع، تصبح مخاوف أهالي ضحايا المرفأ مشروعة، في بلد شهد منذ استقلاله عام 1943 وحتى اليوم، عشرات الجرائم والاغتيالات والتفجيرات التي لم تُحل أو تُكشف وقائعها، ولم تُحدّد فيها المسؤوليات أو يُصر إلى توقيف المرتكبين. وهو مشهد ينطبق كذلك على "الجرائم المالية" التي لم يحاسب فيها أي مسؤول.
وفي السياق، يقول الباحث اللبناني خالد الحج إن "هناك بين 250 إلى 300 اغتيال ومحاولة اغتيال وجرائم لها طابع سياسي حصلت في لبنان منذ عام 1943 وحتى عام 2021، وقد طاولت بالشق الأكبر منها، سياسيين ومحازبين وصحافيين ورجال دين وقضاة ودبلوماسيين عرب وأجانب وأمنيين، في حين لم تتوصل التحقيقات إلى نتيجة في غالبيتها الساحقة، على الرغم من كفاءة الأجهزة الأمنية في لبنان، وإمكاناتها وقدراتها التي ثبتت في عمليات نوعية واستباقية عديدة".
ويشير الحج، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "هذه الأرقام مقارنة بمساحة لبنان الجغرافية وديمقراطيته، تعدّ صادمة وعالية النسبة، وتؤكد أن الاغتيال جزء من الثقافة السياسية، وتثبت أننا نعيش في بلد تحكمه عصابات ومافيات مع فارق وحيد أنهم يرتدون البدلات الرسمية، ويتولون أهم المراكز الرسمية في الدولة، مع العلم أن أغلبهم شاركوا علناً في معظم الجرائم وهم يعرفون بأمراء الحرب (الأهلية) الذين استمرّوا في الحكم وثبتوا ركائز في النظام تبقيهم في السلطة وتجعلهم بمنأى عن المحاسبة والمساءلة وذلك بالاتفاق في ما بينهم".
ويلفت الحج إلى أن "أكثر من 90 في المائة من الاغتيالات وجرائم القتل لم تصل التحقيقات فيها إلى نتيجة أو يحاكم أحد فيها، وهناك جرائم استخدمت كشماعة لإدانة أطراف ودول، وجرى استغلالها سياسياً، في حين أن هناك جرائم كُشفت وأخرى صدرت فيها أحكام، لكن معظمها لم ينفذ، بينما هناك جرائم حُصرت بدائرة الاتهامات، ولكن أياً من المسؤولين الكبار لم يحاسب، خصوصاً عندما يكونون داخل اللعبة السياسية". ويشير الباحث السياسي اللبناني إلى أن "أكبر الاغتيالات بدأت بتاريخ 16 يوليو/ تموز 1951 وقد طاولت رئيس الحكومة الأسبق رياض الصلح ووقعت في الأردن، وخلص التحقيق إلى اتهام عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي".
ومن الاغتيالات التي طاولت رجال سياسة وتوصلت التحقيقات فيها إلى اتهامات، اغتيال مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط عام 1977، الذي اتهمت فيه المخابرات السورية، ورئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل عام 1982 والذي اتهم باغتياله حبيب الشرتوني وهو من الحزب القومي السوري الاجتماعي، وعدد قليل غيرهم. في المقابل، اتُهمت إسرائيل باغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في لبنان، عام 1972، وهي من أولى الجرائم التي دخل عليها اسم "الموساد" الإسرائيلي علناً إلى لبنان.
ولم تقتصر الجرائم التي لم يتم التوصل فيها إلى نتيجة على الشخصيات السياسية، بل هناك تلك التي طاولت صحافيين، فمثلاً لم تصل التحقيقات بجريمة اغتيال صاحب جريدة "التلغراف" نسيب المتني عام 1958 إلى أي نتيجة، وهو الذي عرف بمقالاته المعارضة لرئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون. وكانت تلك الحادثة فاتحة لاغتيالات طاولت أكثر من 19 صحافياً، ولكنها في المقابل فجّرت الوضع في لبنان وكانت من الأسباب التي أشعلت ثورة 1958.
كذلك، لم يتم التوصل إلى نتيجة في التحقيقات بجرائم اغتيال الصحافيين إدوار صعب (عام 1976)، حسين مروة (1987)، سمير قصير (2005) وكثر غيرهم، وآخرهم لقمان سليم (اغتيل في 4 فبراير/ شباط الماضي، ووجهت الاتهامات في السياسة إلى حزب الله باغتياله، في حين أن القضية طُمست تقريباً).
الاغتيالات السياسية البحتة بقيت بلا نتيجة ولم يتم توقيف أي مسؤول سياسي فيها
ويشير الحج إلى أن "الأمر نفسه ينطبق على رجال دين بقيت جرائم طاولتهم بلا نتيجة، أبرزهم مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد (1989)، والأب بطرس أبي عقل (1986)، والشيخ حليم تقي الدين (1983)، وغيرهم. وقد فاق عدد الاغتيالات بين رجال الدين الـ18، فيما تم الكشف عن جريمة اغتيال الشيخ نزار الحلبي (1995) واتهم فيها عناصر إسلاميون متطرفون ينتمون إلى تنظيم "عصبة الأنصار" وتم إعدامهم لاحقاً. كذلك، تكشفت جريمة اغتيال أربعة قضاة على قوس المحكمة في مدينة صيدا جنوب لبنان عام 1999، وأدين فيها كذلك عناصر من "عصبة الأنصار".
ويشير الحج عند تعداده جرائم الاغتيال، إلى أن "الجرائم التي توصل فيها التحقيق إلى نتيجة، رُبطت بغالبيتها بأجهزة أمنية خارجية، سواء سورية أو إسرائيلية أو عربية وغيرها، بينما الاغتيالات السياسية البحتة بقيت بلا نتيجة ولم يتم توقيف أي مسؤول سياسي فيها، ومنها حصلت بعد عام 2005 (تاريخ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري). وقد استهدفت هذه الاغتيالات بشكل أساسي شخصيات قيادية في صلب قوى 14 آذار (تحالف سياسي تكون من كبار الأحزاب والحركات السياسية التي ثارت على الوجود السوري في لبنان بعيد اغتيال رفيق الحريري، ولم يعد هذا التحالف عملياً موجوداً) ووضعت في إطار الاختلاف السياسي بين الفريق المذكور وقوى 8 آذار (تحالف من حزب الله وحلفائه). أما النتيجة الأبرز التي صدرت في تحقيق باغتيال، فلم تكن عن محكمة لبنانية، بل دولية، باغتيال رفيق الحريري والوزير السابق باسل فليحان الذي كان برفقته، وقد طاول الاتهام فرداً ينتمي لـ"حزب الله" هو سليم عياش وليس الحزب. ويلفت الحج في المقابل، إلى جرائم طاولت أفراداً وعناصر من "حزب الله" ولكنها ربطت بالعدو الإسرائيلي.
وفي السياق، حصلت جرائم قتل كثيرة في لبنان رُبطت بأسباب سياسية ولم يتوصل فيها التحقيق إلى أي نتيجة، أبرزها في الفترة الأخيرة جريمة قتل المصوّر جو بجاني، في ديسمبر/ كانون الأول 2020، والتي نفذت بحرفية لافتة وتخطيط مسبق، في حين أن أكثر الروايات التي اتصلت بهها كان لها علاقة بانفجار مرفأ بيروت وبصور وأدلة كان يمتلكها بجاني. وقبلها أيضاً، وفي الشهر نفسه، عثر على العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي، مقتولاً بآلة حادة على رأسه داخل منزله، علماً بأنه كان يشغل سابقاً منصب رئيس مكافحة التهريب في مرفأ بيروت، وكان يمكن أن يكون من المستدعين للتحقيقات بانفجار المرفأ.
مروان شربل: الجرائم التي لم تكشف نتائجها، تكون قد نفذت بطريقة حرفية من دون أن تترك أي أثر
وفي الملف نفسه، عادت إلى الأذهان بعد انفجار مرفأ بيروت جريمة بقيت غامضة وطاولت عام 2017 العقيد المتقاعد في الجمارك جوزيف سكاف. وذكر أحد تقريري الطب الشرعي أن سكاف زلت قدمه بينما كان يهمّ بالنزول من سيارته ووقع من على حائط موقف سيارات بعلو حوالي 3 أمتار وتوفي، فيما تحدث تقرير آخر عن عملية دفع تعرض لها من الخلف. وقد عادت هذه القضة إلى الضوء من جديد بعد انفجار مرفأ بيروت، كون سكاف كان قد أبلغ سلطات الجمارك بعد أشهر على وصول باخرة "روسوس" التي نقلت مادة نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ، بخطورة هذه المادة على السلامة العامة، كما كانت له برقيات عدة وخطوات تحذيرية تدعو إلى ضرورة إبعاد الباخرة.
وتعليقاً على الموضوع، يقول وزير الداخلية اللبناني الأسبق، مروان شربل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "الجرائم التي لها طابع سياسي وغير سياسي ولم تكشف نتائجها، تكون قد نفذت بطريقة حرفية من دون أن تترك أي أثر أو دليل جدي وملموس وثابت في حين تبقى الاتهامات سياسية وشخصية من دون دليل". ويستبعد شربل أن يكون لمقتل جو بجاني "أي سبب سياسي أو مرتبط بانفجار مرفأ بيروت، فالأجهزة الأمنية لا دليل لها أو إثباتات على ذلك، وكل ما يثار إعلامياً مبني على تقديرات وتحليلات"، مشدداً في المقابل على "إمكانات الأجهزة الأمنية العالية في لبنان، ولكنها لا يمكنها أن تتصرف بلا دليل".