تونس: هل انتصرت الشعبوية بالكامل؟ هل خسر الديمقراطيون نهائياً؟

31 مايو 2023
من تظاهرة لجبهة الخلاص في العاصمة تونس، أكتوبر 2022 (Getty)
+ الخط -

لا يزال المشهد التونسي يراوح مكانه، حيث تستبسل المعارضة في إيصال صوتها والدفاع عن موقفها، على الرغم من الضربات المتتالية التي تلقتها، من اعتقالات وسجن لقياداتها وتوسيع دائرة تكميم الأفواه ونشر الخوف. في المقابل، يواصل الرئيس التونسي قيس سعيّد هروبه إلى الأمام وتصميمه على السير في طريقه منفرداً، غير عابئ بأحد، وخصوصاً بالحقيقة الاقتصادية والاجتماعية.

ويتساءل تونسيون اليوم: هل خسر الديمقراطيون التونسيون معركتهم نهائياً؟ وهل تمكنت الشعبوية من كل مفاصل الحكم واستتب لها الأمر؟ أين أخفقت وتُخفق النخب السياسية وغير السياسية التونسية؟ وما مجال تحركها المتاح اليوم، وأفقه؟

مساء السبت الماضي، كانت "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة كالعادة في الشارع، تطالب بإطلاق سراح المعتقلين واستعادة الشرعية والديمقراطية. وصباح اليوم ذاته، كان مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، يقدم كتاب الباحث التونسي أيمن البوغانمي: "الشعب يريد، عندما تأكل الديمقراطية نفسها". مشهدٌ يلّخص وضع تونس اليوم.

بين شعبوية سعيّد والأسئلة عن فشل النخب

يقول البوغانمي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن "تونس تعيش اليوم لحظة انتكاسة الديمقراطية لفشل التجربة الأولى"، موضحاً أنه "في أكثر الدول التي تمر بتجربة ديمقراطية، تحصل انتكاسات، قد تكون صغيرة ومحدودة، أو كبيرة، أو كارثية أحياناً، ونحن للأسف في تونس أقرب نحو الاحتمال الأسوأ وهو الانتكاسة الخطيرة، ونأمل ألا يحدث ذلك وأن أكون مخطئاً".

وبخصوص النخب عموماً، والسياسية خصوصاً، التي تواجه انتقادات بسبب فشلها في الدفاع عن الديمقراطية التونسية، يعرب البوغانمي عن اعتقاده بأن "نقد النخب، المعارضة أو الحاكمة، ضروري، ولكن يجب انتقادها من أساس ومنطلق ديمقراطي، وليس على أساس غير ديمقراطي". ويشرح في هذا الإطار، أنه "عند انتقاد فاعل سياسي، يجب أن نطرح سؤال معيار التقييم أولاً، ولكن هناك معقولية في انتقاد النخب التي لم تدافع عن التجربة الديمقراطية ولم تعمل من أجل تقليل الخسائر في الانحرافات التي شهدتها تونس".

أيمن البوغانمي: كلا الطرفين استغل الخلاف الأيديولوجي، الإسلاميون وخصومهم

وعلى الرغم من الانتكاسة الواضحة وصعود الشعبوية وتراجع التجربة الديمقراطية في تونس، وعلى الرغم من ضرب الحريات وتوسع الاعتقالات، لا تزال بعض الأحزاب والنخب لم تحسم أمرها وتراوح مكانها في نفس الحسابات السياسية والأيديولوجية. وحول ذلك يقول البوغانمي: "هناك إشكال لدى النخب في فهم الديمقراطية، حيث يعتقد البعض أنها مجردة وهي مجموعة مُثل، ولم نفهم أن الديمقراطية ممارسة وواقع، والعلاقة بين الواقع والمُثل هي المراهنة على الآليات الديمقراطية لبلوغ المُثل وليست المراهنة على آلية ديكتاتورية".

ويلفت إلى أن "هناك حتى من يقول إن لا إشكال في ديكتاتورية مؤقتة لمدة معينة حتى نصل إلى الديمقراطية المستقرة، وهذا غير ممكن، فإن كانت الديمقراطية هي الغاية، والوسيلة غير ديمقراطية، فهذا نوع من الانحراف الخطير الذي لا يجب أن نقع فيه ولكن المؤسف أن كثراً وقعوا فيه".

وعن حقيقة الخلافات الأيديولوجية التي كانت وراء هذا الانقسام الحاد في تونس، يرى البوغانمي أن "الخلاف الأيديولوجي جزء وسبب من أسباب هذا الخلاف بين النخب، وهو جوهر من جواهر الصراع بينها، وجاذبيته تتأتى من بساطته وإمكانية انتشاره بسهولة بين الناس". كما يرى أن "كلا الطرفين استغل الخلاف الأيديولوجي: فالإسلاميون استعملوا هذا الشرخ لتحشيد أنصارهم، وخصومهم كذلك استخدموه لحشد أنصارهم، وهذا موجود حتى في بعض وسائل الإعلام وليس فقط بين الجماهير".

وعما إذا كانت الديمقراطية خسرت وخسر الديمقراطيون، وانتصرت الشعبوية في تونس نهائياً، يجيب البوغانمي: "نعم ولكن ليس بشكل نهائي، وقلب النتيجة صعب، لأن القوى المعارضة للشعبوية لا يزال جزء كبير منها لا يتبنى الواقعية في الصراع معها، والبديل الوحيد هو الديمقراطية الليبرالية التمثيلية". ويرى أنه "طالما أننا لم نتفق على هذا الحد الأدنى، فوسائل الصراع تبقى غير كافية"، كما يرى نفسه "أحد هؤلاء المنهزمين".

استغلال الغرائز لإطالة الحكم

وحول طبيعة المشهد اليوم في تونس، يرى مدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، عدنان منصر، أن هذا البلد "يعيش اليوم في لحظة موجة شعبوية عارمة، هي التي أدّت إلى وصول الشعبوية للحكم وهي التي ستؤدي إلى استمرار الشعبوية وتزايد إجراءات وأنماط سلوك تسمح باستمرار هذه الموجة في الحكم". وبرأي منصر في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يمكن أن تنكسر هذه الحلقة المفرغة، إلا عندما يبدأ الناس في التفطن إلى أن الشعبوية ليست إلا احتيالاً على الجمهور والشعب".

ويفسّر مدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي بأن "الشعبويين سيستمرون في استغلال الغرائز ومشاعر الناس وتوجيهها إلى أعداء الشعبوية، ومنها النخب على سبيل المثال، فكلما استطاع الشعبويون إقناع الجمهور بأن النخب هي عدوة الجمهور، ستبقى الأوضاع جيدة بالنسبة إليهم".

ويصف منصر "الحكم الشعبوي بأنه حكم غير مسؤول لأنه لا يقبل بفكرة المحاسبة على الإنجاز، ولا بشرعية الإنجاز، وبالتالي فهو يعوّل ببساطة على استغلال المشاعر والغرائز لتوجيه الاهتمام وكراهية الجمهور".

وحول مسؤولية النخب في صعود الشعبوية وامتدادها، يبيّن منصر أن "الشعبويين يعتبرون ويروّجون لفكرة أن النخب هي عدوة الشعب، وبالتي يتخذون إجراءات ويتبعون سياسات يبدون فيها وكأنهم يمثّلون إرادة الشعب في عدائهم لهذه النخب، بينما في الحقيقة فإن العداء ليس بين النخب والشعب، بل بين النخب والشعبويين، وهو صراع وتسابق للتأثير على الناس، فليس حقيقياً أن الشعبويين يمثلون الشعب بل هذا ادعاؤهم".

ويوضح منصر أكثر في هذا الإطار بأن "الشعبويين هم جزء من النخب قرّر تغيير قواعد اللعبة والمرور في عملية الاحتيال السياسي إلى الدرجة القصوى بادعاء أنهم يمثلون شعور الشعب وإرادته في حين أن دورهم يكمن في تغذية مشاعر الكراهية ضد النخب".
إلى ذلك، يرفض منصر مقولة أن الديمقراطيين خسروا معركتهم في تونس، فـ"من الممكن أنهم خسروا مرحلة قد تطول، ولكن في النهاية ما يحسم هو قدرة الشعبويين على تحقيق وعودهم في المجال الاقتصادي والاجتماعي".

ويعرب عن اعتقاده في هذا الصدد "أن تحقيق هذه الوعود يتطلب حسن فهم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والقدرة على مواجهتها بحلول عملية، وهذا الأمر فشل فيه الديمقراطيون رغم عقلانيتهم، ولا ينتظر أن ينجح فيه الشعبويون بالطريقة التي يُسيّرون فيها البلاد". وبرأيه، فإن "هناك وقت يجب انتظاره حتى تظهر نتائج هذه السياسة، يمكن أن يدوم لسنوات، لكن الشعبويين سيفشلون في النهاية بعملية الاحتيال".

عدنان منصر: ما يحسم هو قدرة الشعبويين على تحقيق وعودهم في المجال الاقتصادي والاجتماعي

أما بالنسبة لخلافات النخب على أساس الهوية والأيديولوجيا، فهي برأي منصر "خلافات ثانوية باعتبار أن هذه النخب تكتشف يوماً بعد يوم أنها مستهدفة ككل بغضّ النظر عن أفكارها، فالحرب التي يقودها الشعبويون هي ضد كل النخب وليست السياسية فحسب، بل الاقتصادية أيضاً والثقافية وغيرها". كما يشير إلى "وجود فئات لم تشعر بعد باستهدافها في ذاتها ووجودها كونها نخباً، وبالتالي فإن هذه الخلافات ثانوية وإلى زوال". أما المشكلة الأساسية برأيه، فتكمن في كسب الوقت حتى تفهم هذه النخب سريعاً أنها مستهدفة من الشعبوية وحتى إيجاد طرح للتصدي لها بطريقة مثلى".

ويعرب منصر عن اعتقاده بأن "هناك مؤشرات حول بداية استفاقة للنخب، وبعض الأحزاب التي كانت تشك في طبيعة المسار السياسي للبلاد، أصبحت اليوم حاسمة في تقدير أن ما يحصل سيئ ويجب التصدي له، وهذا يعد خطوة جيدة في مدى محدود، فما بالك عندما يظهر عجز الشعبوية عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية"؟

بدوره، يشدد المتحدث باسم حركة النهضة، عماد الخميري، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن "تاريخ الشعوب يتجه نحو الديمقراطية والتوق إلى الحرية التي ستظل راسخة في عقول التونسيين والتونسيات"، مؤكداً أن "النضالات تخوضها شرائح واسعة من المجتمع التونسي". ويعتبر أن هذه الشرائح "ما فتئت تؤكد أن الحرية والديمقراطية ليستا مجالاً للمساومة، وأن الديمقراطيين والأحرار الذين عايشوا الثورة التونسية سيبقون متشبثين بهذا المبدأ"، معرباً عن أسفه لأن "المشهد التونسي عاد إلى أكثر من 13 عاماً إلى الوراء".

ويلفت الخميري إلى أن "التونسيين سيتمسكون بديمقراطيتهم وسيناضلون من أجل استعادتها وتجاوز العوامل التي أدّت إلى هذا الارتداد في المشهد السياسي والديمقراطي"، مؤكداً أنهم "يطالبون بإطلاق سراح رئيس حركة النهضة، رئيس البرلمان الشرعي راشد الغنوشي وجميع المعتقلين، وأنه لا يوجد نظام سياسي قادر على أن يدوم أو يصمد بالاعتقالات السياسية".

عماد الخميري: لا يوجد نظام سياسي قادر على أن يدوم أو يصمد بالاعتقالات السياسية

وبرأي المتحدث باسم "النهضة"، فإن "الاعتقالات السياسية ليست عنواناً للحل، بل هي عنوان انسداد وأزمة، ومشاكل تونس لا تحل إلا من خلال الحوار وتوحيد المعارضة الديمقراطية والدعوة إلى انتخابات رئاسية يشارك فيها الجميع وتكون بمثابة الاستفتاء على المشاريع الموجودة".

ويرى الخميري أنه "ينبغي على الجميع اليوم القيام بمراجعات ضرورية، لأن إخفاق الديمقراطية وحالة التسلط الشامل التي تعيشها البلاد تحتاج من كل الفاعلين السياسيين، وعلى رأسهم من كانوا موجودين قبل 25 يوليو/تموز 2021 (تاريخ انقلاب سعيّد وإعلانه "إجراءاته الاستثنائية)، إجراء مراجعات فعلية والقيام بنقد ذاتي، سيكون مفيداً للتجربة والديمقراطية المنشودة وللتأسيس الديمقراطي الجديد". ويحذر المتحدث من أن "معالجة الإخفاقات لا تكون أبداً بمنهج شمولي في الحكم، مرفوض أولاً ثم أنه لن يكون المنقذ للأوضاع".

ويؤكد أخيراً عضو "جبهة الخلاص"، رياض الشعيبي، أن "الحركة السياسية في تونس تقترب اليوم من بعضها البعض شيئاً فشيئاً"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الاستبداد الذي تمارسه السلطة هو الذي يدفع القوى السياسية نحو هذا الاقتراب".

ويعتقد الشعيبي أنه "لا توجد اليوم فوارق على مستوى المواقف وتقديرات الوضع بين جبهة الخلاص وبقية القوى السياسية، حيث هناك إجماع وطني لدى مختلف الفاعلين السياسيين على أن ما يحصل في تونس هو انقلاب وتراجع خطير عن المكاسب الديمقراطية والدستورية، وأنه لا سبيل للقبول بهذا الوضع". وبرأي عضو "جبهة الخلاص"، فإن "الحوار الوطني هو الطريق الأمثل نحو استئناف المسار الديمقراطي". ولكن عدم استجابة السلطة، "لم يُبقِ أي حلّ سوى الضغط والمناداة بالذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة تعيد الشرعية والكلمة للصندوق"، بحسب رأيه.

ويعتبر الشعيبي أنه "لا يمكن الحديث عن فشل الأحزاب التونسية في الدفاع عن الديمقراطية لأن الخطاب السياسي والأحزاب تجمعت اليوم حول كلمة واحدة ودانت الاعتقالات السياسية والإجراءات التي تتخذها السلطة ضد الأحزاب والنقابيين والإعلاميين".

تقارير عربية
التحديثات الحية


 

المساهمون