أثارت مبادرة رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي حول المصالحة الشاملة، جدلاً جديداً حول الموضوع في تونس. وفي الوقت الذي يرى البعض أن هذه الدعوة لا تخرج عن مسار العدالة الانتقالية، التي تنص على الاعتذار وكشف الحقيقة والمحاسبة ثم المصالحة، يرى مدافعون عن العدالة الانتقالية أن هذه الدعوة قد تنسف المسار برمته.
وبحسب الغنوشي، الذي ما فتئ يُدافع عن المصالحة الشاملة، فإن على جميع الأطراف أن تجلس إلى طاولة الحوار من أجل التوافق والابتعاد عن سياسة الإقصاء. ويؤكد زعيم "النهضة" أن تعيين آخر أمين عام لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي محمد الغرياني، كمستشار له يأتي في إطار المصالحة الشاملة، داعياً إلى ترك الانتقام وتعميق الخلافات. ويعتبر الغرياني رمزاً من رموز النظام السابق، وهو الأمين العام لـ"التجمع"، وهو حزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وأوقف بعد الثورة بتهمة استغلال السلطة والنفوذ والسرقة، قبل أن يطلق سراحه في 10 يوليو/تموز 2013.
وجه 5 أعضاء من هيئة الحقيقة والكرامة رسالة إلى الغنوشي للتعبير عن استغرابهم من تصريحه
ولا تعتبر دعوة الغنوشي للمصالحة الشاملة هي الوحيدة. فقد أعلن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في يوليو 2015 عن مشروع للمصالحة الوطنية، يعتمد على إقرار تدابير بشأن تُهم الفساد المالي، لكن المشروع انتهى بإقرار المصالحة الإدارية دون التطرق لملفات سياسية.
ووجه 5 أعضاء من هيئة الحقيقة والكرامة، بينهم رئيسة الهيئة سهام بن سدرين، رسالة إلى رئيس مجلس النواب للتعبير عن استغرابهم مما ورد في التصريح الذي أدلى به إلى القناة الرسمية حول المصالحة. وأكدوا أن حديثه الأخير أثار إستغراب وحيرة أوساط واسعة من المنخرطين في استكمال مسار العدالة الانتقالية من ضحايا وجمعيات المجتمع المدني ونشطاء. واعتبروا أن العنف الذي مارسته الدولة على امتداد عقود، مع ضمان الإفلات من العقاب خلف شرخاً عميقاً بين التونسيين. وأشاروا إلى أن هذا لا يعالج بتبييض المتسببين فيه وتكريمهم وإرجاعهم إلى الدولة.
وقال القيادي في حركة النهضة العجمي الوريمي، لـ"العربي الجديد"، إن العدالة الانتقالية تهدف للوصول إلى المصالحة. وأوضح أن الهدف هو تحقيق العدالة لمن هُضمت حقوقهم، وذلك عبر مراحل مختلفة وعبر الأطراف الرسمية. وأشار إلى أن التخفيف من المظالم يكون بإرجاع الحقوق لأصحابها، ومداواة جروح الماضي في محاولة لإنهاء الشعور بالظلم، لمن مورس عليه الانتهاك من جهة، والشعور بالذنب لمرتكبي الظلم، خصوصاً إن كان موظفاً في الدولة، ودفعه أصحاب القرار خلال الحقب السابقة لارتكاب فعل ما.
وبين الوريمي أن غاية الغنوشي من الدعوة إلى مصالحة وطنية شاملة، ليست العدول عن متطلبات العدالة الانتقالية، فالعدالة تمر بعدة مراحل، بينها كشف الحقيقة، والاعتذار للضحايا، ورد الاعتبار، والتعويض على الضحايا، ثم الوصول إلى المصالحة الشاملة، والتي تكون بين الضحايا والمذنبين. واعتبر أنها تسوية تاريخية للانفتاح على المستقبل، بالتخلص من عبء الماضي لبناء وحدة مجتمعية تقوم على المساواة واحترام الحقوق. وأكد أن المصالحة تكون بين الأعداء وبين أطراف ينتمون لنفس الوطن، ولكن بعضهم أذنب بسبب الاختلافات أو خيارات سياسية من جهة أخرى.
واعتبر الوريمي أنه رغم أن القانون الذي تم وضعه في مجال العدالة الانتقالية يُعد من الأفضل، وتم، خلال وضعه، الاستئناس بتجارب شبيهة، إلا أن المصالحة تعثرت للأسف، وبعض الإشكاليات تعود لتعقيد بعض الملفات وتراكمها. وأشار إلى أن بعضها الآخر يتعلق بهيئة الحقيقة والكرامة التي تعهدت بالملف، لكن مهامها محدودة زمنياً، كما كان لديها ملفات تمتد على مراحل تاريخية، بعضها يعود لنصف قرن، مع وجود أخطاء بسبب نقص الخبرة، وبالتالي لم تحقق العدالة الانتقالية ما هو مطلوب منها. وبين أنه لا يزال هناك ضحايا يطالبون بحقوقهم، وآخرون لم يحصلوا سوى على وعود، وأوضاعهم الإنسانية زادت سوءا، وبالتالي لا بد من تسريع نسق العدالة الانتقالية والوصول إلى المرحلة الأخيرة التي تعثرت كثيراً. ولاحظ أن تلكؤ بعض الأشخاص كان وراء تعطل الملفات، وبلوغ المصالحة سيدفع العدالة إلى الهدف الأقصى لكي تكون القاطرة التي تجر بقية القاطرات. واعتبر أن الهدف هو تسوية الأوضاع، والمسار المهني، والاستعداد النفسي والسياسي لطي صفحة الماضي. وبين أن الهيئة لم تعد موجودة، ولكن لا بد من استكمال المسار، ولا ينبغي النظر إلى ملف العدالة الانتقالية على أنه مجزأ، أو استكمال جزء للمرور إلى ما يليه. والحال أنه يمكن للحلقة الأخيرة فتح أفق جديد للمستقبل.
بسام الطريفي: لا بد من معرفة قصد الغنوشي بالمصالحة الشاملة
وأكد نائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والتي تعتبر من مكونات الائتلاف المدني للعدالة الانتقالية، بسام الطريفي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه لا بد من معرفة قصد الغنوشي بالمصالحة الشاملة، إذ يجب ألا ننسى أن أحد مكونات العدالة الانتقالية هو المصالحة. وأضاف أن الغنوشي إن كان يقصد بالمصالحة الشاملة هذا المسار فهذا ركن أساسي، لأن العدالة ليست انتقاماً، أو فتح ملفات الماضي بقدر ما هي محاولة لإعادة كتابة التاريخ ورد الاعتبار للضحايا، ثم الوصول للمصالحة الشاملة لطي صفحة الماضي وبناء مؤسسات الدولة. وأوضح أنه إذا كان القصد غلق ملف العدالة دون محاسبة الجلادين، ودون تحميل المسؤوليات، فوقتها نتحدث عن نسف للعدالة. وأشار إلى أن تعيين الغنوشي للغرياني مستشاراً له، رغم أنه اتهم سابقاً باستغلال السلطة والنفوذ والسرقة، يُعتبر انتكاسة للعدالة الانتقالية، معتبراً أن كل البلدان التي عرفت ثورات مرت بمسار كامل من العدالة الانتقالية. وأشار إلى أنه لا بد من محاكمات وكشف الحقيقة ومحاسبة المتورطين في النظام السابق.
وأعلن عضو الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية ورئيس جمعية الكرامة العلمي الخضري أنهم أصدروا بياناً في ظل المخاوف من نسف مسار العدالة الانتقالية. وبين أن الدعوة للمصالحة سبق أن أطلقها السبسي، وأمام الصد المنيع لهذا المشروع تحول إلى مصالحة إدارية رغم أنها من اختصاص دوائر المحاسبة. وأكد أنه لغاية اليوم لا يعرف ماذا تحقق من المصالحة الإدارية، وهل قلصت من الاستيلاء على المال العام أم لا؟ وأشار إلى أن الغنوشي تحدث في مناسبات عديدة عن المصالحة الشاملة، ولكن لا مصالحة خارج إطار العدالة الانتقالية، مبيناً أنه لا وجود لأعذار لتعيين الغرياني مستشاراً للغنوشي، ولا بد من تنفيذ توصيات هيئة الحقيقة والكرامة.
وبين الخضري أنه كضحية للاستبداد، فإن مجرد وقوف المتهمين بالانتهاك، أمام القضاء يتضمن جبر ضرر نفسي ومعنوي كبير بالنسبة إليهم، مؤكداً أن كشف الطريقة التي عمل بها النظام السابق وعديد الحقائق المخفية ضروري. وأشار إلى أن هناك من توفي تحت التعذيب وعائلته لم تقدم ملفات لهيئة الحقيقة والكرامة، وهناك من العائلات من تنتظر جثة أحد أبنائها، ومثال على ذلك عائلة كمال المطماطي الذي توفي جراء التعذيب. كما أن ضحايا سابقين لا يحصلون على تقاعد جراء حرمانهم من العمل، مبيناً أن هناك شعوراً بالتراجع في مسار العدالة الانتقالية.