في قلب العتمة والحزن الذي سيطر على التونسيين، وهم يشاهدون قبل أيام فيديو يوثق سحل مراهق على يد رجال شرطة في حيّ سيدي حسين السيجومي، المتاخم للعاصمة التونسية، برز ضوء في النفق، بعد موجة الاحتجاجات الواسعة، وهبّة المجتمع المدني التي لم تهدأ منذ أيام. كسّر التونسيون ونخبهم حاجز الخوف، منذ زمان، وتجرأوا على الجميع وعلى كل شيء، صيانة لحقّهم في التعبير وصمّام أمان يمنع عودة دولة الخوف والترهيب.
وبالأرقام التي يقدمها أكثر من مرصد، تكاد تونس تتحول إلى أرض احتجاجات، حيث يحتج التونسيون على أي شيء وفي كل وقت، وكأنهم ينتقمون من سنوات الصمت الطويلة قبل الثورة، وإن كان الاحتجاج يتم وقتها بأشكال أخرى وبمناسبات متقطعة، لكن الخشية هي أن يطبّع الجميع مع الاحتجاج، ويتحول شعار الدولة والمسؤولين إلى "اصرخوا واحتجوا كما شئتم، وسنفعل ما نشاء". والخشية أيضاً هي أن يعتاد المواطنون على النزول إلى الشارع والعودة إلى بيوتهم بأيدٍ فارغة وحناجر مبحوحة من الشعارات، من دون أن يحققوا شيئاً من مطالبهم التي احتجوا من أجلها. وعلى هامش الأحداث، ذكّرت عشرات المنظمات التونسية، في بيان موحد لها منذ أيام، بشبان قضوا في ظروف مماثلة، وشهد موتهم موجات احتجاجات واسعة، وفتحت في شأنهم تحقيقات قضائية، ولكن لم يعرف أحد الحقيقة إلى اليوم.
خرجت جهات (مناطق) تحتج لأيام على أوضاعها الصعبة وتراجع التنمية فيها وغياب أبسط ظروف الحياة الكريمة، ولم يتحقق لها شيء. واحتج التونسيون على غلاء الأسعار وصعوبة الحياة، فزادت الأسعار التهاباً والحياة صعوبة. ويقود كلّ هذا إلى المخافة من أن يذهب صوت التونسيين سدىً، وهم يخاطبون مسؤولين أصابهم الصمم والعمى، لا يَرَوْن مآسي شعب انتخبهم ليخدموه فتناسوه وغرقوا في مناكفاتهم وصراعاتهم، وفي عناد ضيّع فرصاً كثيرة على شباب يريد أن يطور حياته وينطلق في تحقيق حلم خرج من أجله ثائراً مضحياً بحياته، فإذا به يصطدم بواقع السياسة المرّ وإكراهات الدولة الأمَرّ.
ولا يعرف الساسة في تونس، أو ربما يعرفون ويتجاهلون، أن التونسيين، المواطنين، لا يهمهم إن كان الذي من يحكمهم اسمه هشام المشيشي أو قيس سعيّد أو راشد الغنوشي، ولا تعنيهم الجدالات الدستورية ولا خصومات الصلاحيات وصراعات التموقع. ولكن موجة الغضب الكبيرة، تلك التي لم تأتِ بعد، قد تجرف الجميع، هؤلاء ومن ورائهم، وهو درس واضح وجليّ قرأه الجميع بصوت عال منذ عشر سنوات، ولا يزال ماثلاً أمام أعين من يبصر، باستثناء من يرفض ذلك. ووقتها لن تكون تونس أرض احتجاجات عابرة، بل ستكون أرض احتجاجات جارفة.