مضى الرئيس التونسي قيس سعيّد، كما كان متوقعاً، في قرار الإمساك بالبلاد، معطلاً كل المؤسسات ومنصباً نفسه الآمر الناهي الوحيد في الدولة، حتى وإن كان ذلك يشكّل مخالفة فاضحة للدستور الذي قال سعيّد إنه استند إليه يوم 25 يوليو/ تموز الماضي، عندما علّق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وحل الحكومة. ولم يأبه الرئيس التونسي بكل المناشدات والتحذيرات، التي كانت تتخوف من إبقاء البلاد تحت هذه الإجراءات الاستثنائية إلى ما بعد انقضاء مدة الشهر التي كان حددها سعيّد نفسه، وقرر أول من أمس الإثنين تمديد العمل بهذه الإجراءات، ولكن إلى أجل غير محدد. ومن خلال بيان مقتضب خالٍ من أي تبريرات، أمر سعيّد الإبقاء على مؤسسات الدولة معطلة، على الرغم مما تشهده تونس من وضع صعب على المستويات كافة، يحتاج إلى تأمين الاستقرار ووجود حكومة تقود البلاد. غير أن لا الحكومة أُعلن عنها بعد، على الرغم من مرور شهر على إقالة حكومة هشام المشيشي، ولا حتى خريطة الطريق التي تطالب بها جميع الأحزاب لمعرفة في أي اتجاه ستذهب البلاد.
وبقرار سعيّد تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية، تدخل تونس عملياً مرحلة جديدة، مفتوحة على الاحتمالات كافة، في انتظار أن يفصح الرئيس عن نواياه، خصوصاً أن احتمال استمرار تعطيل الحياة السياسية مطولاً يبقى قائماً، لا سيما مع معرفة نوايا سعيّد ومشروعه السياسي الذي أفصح عنه حتى من قبل وصوله إلى الرئاسة، والذي يتمثل بإنهاء دور الأحزاب، وقد عمل سعيّد بالفعل منذ وصوله للحكم على تهميشها وكيل الاتهامات لها، وهو اليوم يعطل البرلمان حيث تمارس هذه الأحزاب عملها، لا بل إنه لم يتواصل مع أي منها خلال الفترة الأخيرة.
احتمال استمرار تعطيل الحياة السياسية يبقى قائماً
وجاء بيان سعيّد حول تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية لحظات قبيل منتصف ليل الإثنين، وقبيل انتهاء مهلة الثلاثين يوماً التي كان حددها يوم 25 يوليو الماضي. وقال البيان إن "رئيس الجمهورية قيس سعيّد، أصدر أمراً رئاسياً يقضي بالتمديد في التدابير الاستثنائية المتخذة بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 80 لسنة 2021، المتعلق بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب وبرفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضائه، وذلك إلى غاية إشعار آخر". وأضاف البيان أن "رئيس الدولة، سيتوجه في الأيام المقبلة ببيان إلى الشعب التونسي".
وفتح هذا القرار جدلاً كبيراً في الساعات الماضية في الأوساط التونسية، لا سيما على الصعيد القانوني والدستوري، خصوصاً أن البيان الرئاسي لم يشر إلى مرجعيات دستورية، بل إلى أمر رئاسي. وتعليقاً على ذلك، قالت أستاذة القانون الدستوري، منى كريم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "تمديد رئيس الجمهورية الإجراءات الاستثنائية كان متوقعاً من المتابعين للشأن الوطني". وبشأن دستورية القرار من عدمه، أوضحت كريم أنه "تم الخروج من دائرة القانون إلى الأمر الواقع"، مشيرة إلى أنه "لا وجود لتنصيص قانوني على التمديد". وأضافت أنه "منذ البداية، تم تجاوز الفصل 80 من الدستور الذي ينص على إبقاء البرلمان في حالة انعقاد، وتم تجاوزه مرة ثانية بإعلان التمديد، في ظل غياب المحكمة الدستورية التي يخول لها الدستور النظر في استمرارية الحالة الاستثنائية من عدمها". وتابعت كريم أن "رئيس الجمهورية بذلك نصّب نفسه مكان المحكمة الدستورية، من خلال ممارسة اختصاصاتها في التأويل والتحكيم وهو ما وسع من صلاحياته". وشددت على "وجوب توضيح هذا التمديد للإجراءات الاستثنائية، من خلال تقديم مبررات مهمة، في حجم أهمية التمديد، لتفادي الضبابية، والعمل على تركيز الحكومة والعودة إلى السير العادي لمؤسسات الدولة". واعتبرت كريم أنه "عند قراءة بيان التمديد، يتأكد عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خريطة طريق جاهزة".
ويبدو أن ما تشير إليه كريم من عدم وجود خريطة طريق واضحة لدى سعيّد يفسّر هذا التمديد غير المحدد الأجل، والذي قد يوسّع من قائمة المتخوفين من إجراءات الرئيس، حتى من بين مسانديه. وفي السياق، علق النائب عن "التيار الديمقراطي"، رضا الزغمي، على مضمون البيان بالقول إنه "تعليق العمل بدستور 2014 بفعل التغييب الكلي للمرجعية الدستورية في البلاد، والمرجعية الجديدة هي الأوامر الرئاسية بمطلق الصلاحيات". وأضاف الزغمي في منشور على صفحته بموقع "فيسبوك": "الأمر الواقع هو أن البرلمان انتهى، وتبعاً لذلك وُضع حد للديمقراطية البرلمانية". واعتبر أن "البيان الرئاسي المرتقب سيكون بمثابة البيان رقم 1 لمنظري الجمهورية الثالثة".
وعبرت الأحزاب بأغلبها في تونس عن تخوفها من خطوة التمديد بلا أجل وبلا أفق سياسي واضح، وسط ارتفاع نشاط أخبار الإيقافات والمداهمات؛ الصحيحة والخاطئة. وقال الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري" عصام الشابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "كان من المفترض على رئيس الجمهورية أن يتوجه بكلمة للشعب التونسي قبل الإعلان عن تمديد الإجراءات الاستثنائية والتي وردت في بيان مقتضب وكأنه مجرد إعلان عن التمديد في حالة الطوارئ". وأضاف الشابي أن تونس ما زالت بلا حكومة تقود البلاد وتعالج الملفات العالقة، معتبراً أن الاكتفاء ببيان مقتضب والقول إن رئيس الدولة سيتوجه بخطاب دون تحديد متى سيتم ذلك "يدل على المأزق وصعوبة الوضع". وأضاف أن "الأغرب أن رئيس الجمهورية يتشاور في الشأن الداخلي مع الأصدقاء والأشقاء والوفود ولا يتشاور مع أبناء الوطن ومع الأحزاب والقوى المدنية وهم أصحاب حق ولهم كلمة".
كريم: بيان التمديد يؤكد عدم وجود خريطة طريق جاهزة
بدوره، رأى النائب المستقل حاتم المليكي في حديث مع "العربي الجديد" أن "هذا التمديد كان متوقعاً، لأن العودة للحياة السياسية الطبيعية تتطلب حوارات، وللأسف لم تكن هناك نقاشات وحوارات خلال الفترة السابقة".
من جهته، قال الناطق الرسمي باسم حركة "النهضة" فتحي العيادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "بيان رئاسة الجمهورية مقتضب ولم يتم توضيح العديد من النقاط التي يؤمل توضيحها في خطاب رئيس الجمهورية المنتظر"، مؤكداً أن "الحركة ستجتمع للإعلان عن موقفها وهو موقف واضح يتمثل في عودة البرلمان وإنهاء الإجراءات الاستثنائية". ولفت إلى أن "الإجراءات غير دستورية ومهلة الثلاثين يوماً كافية لإدراك حاجة البلاد لعودة مجلس نواب الشعب وإلى الديمقراطية".
بدوره، عبر حزب "الأمل"، الذي يترأس هيئته السياسية أحمد نجيب الشبابي، في بيان عقب اجتماع وفد منه بالأمين العام لاتحاد الشغل التونسي نور الدين الطبوبي عن "تخوفه مما قد ينتج عن جمع كل السلطات في يد رئيس الجمهورية منذ 25 يوليو". وشدد الحزب على تمسكه بالفصل بين السلطات والعودة للمؤسسات الشرعية.
ويقف سعيّد بين دعم شعبي واضح من ناحية لإجراءاته، وبين ضغوط داخلية من قبل المجتمع المدني والأحزاب وحتى من الخارج، من ناحية أخرى. وتحدث القيادي في حركة "النهضة"، عبد اللطيف المكي، عن هذا الوضع، في منشور عبر صفحته بموقع "فيسبوك"، قائلاً "نسجل بإيجابية صمود رئيس الجمهورية ومن معه ممن يصْدقونه الرأي والقول أمام الضغوط الكبيرة عليه للذهاب في سيناريوهات سيئة، وهذا الصمود هو أحد الشروط الضرورية لنفكر تفكيراً وسطياً، ولتحويل هذه الأزمة إلى فرصة جيدة لتونس ولكل التونسيين وبكل التونسيين". ويفهم من حديث مكي وجود مجموعة تدفع في اتجاه التشديد وتوسيع الإيقافات، ووضع شخصيات أخرى تحت الإقامة الجبرية وتعزيز قرارات مثل تنقية القضاء وغيرها، ولكنه يعكس أيضاً عدم رغبة الرئيس في الذهاب في هذا الاتجاه. ودعا المكي في منشوره إلى "البحث عن الحلول في إطار القانون والاحترام والهدوء"، وهو موقف يتقاطع مع موقف الجزائر الذي عبر عنه وزير خارجيتها، رمطان لعمامرة، مساء الإثنين، بعد لقائه سعيّد في تونس، داعياً إلى "الحكمة والتريث".
العيادي: مهلة الثلاثين يوماً كافية لإدراك حاجة البلاد لعودة مجلس نواب الشعب وإلى الديمقراطية
وكان لافتاً تواتر الاتصالات بين الرئاستين التونسية والجزائرية، في فترة زمنية لم تتجاوز ساعات قليلة. إذ أكدت الرئاسة الجزائرية ظهر الإثنين أنّ الرئيس عبد المجيد تبون "أجرى مكالمة هاتفية مع أخيه قيس سعيد، أكد له فيها تضامن الجزائر شعباً وحكومة مع الشقيقة تونس في هذه المرحلة الدقيقة". ولم تعلن الرئاسة التونسية عن هذه المكالمة، ولكنها أعلنت بعد ساعات قليلة في بيان عن لقاء بين سعيّد ولعمامرة الذي كان "محملاً برسالة مكتوبة موجهة إلى رئيس الدولة من قبل أخيه فخامة الرئيس عبد المجيد تبون". وإثر اللقاء، أكد لعمامرة أنه نقل لسعيّد أفكاراً من تبون، وأن الرئيس التونسي حمله أيضاً معلومات وصفها بـ"الدقيقة وتحليلات مهمة" سيتولى نقلها إلى الرئيس الجزائري، واصفاً اللقاءات التونسية الجزائرية بأنها تندرج في إطار إعلاء "صوت الحكمة والمسؤولية".
ويرى مراقبون أن هذه الاتصالات المتواصلة بين الطرفين قد تعكس جهداً جزائرياً لتلطيف الأوضاع في المشهد التونسي المتوتر، والذي يمثل مصدر قلق جزائري أكيد، خصوصاً أن الجزائر تعاني غرباً مع المغرب وجنوباً مع ليبيا، ولا يمكنها السماح بمصدر توتر جديد شرقها، بما ينعكس على أوضاعها الداخلية آجلاً أم عاجلاً. وتذهب بعض القراءات إلى اعتبار التلطيف المتكرر في التصريحات من قبل "النهضة" في الأيام الأخيرة استجابة لدعوات التهدئة وإتاحة مساحة كافية لسعيّد لتقديم خريطة طريق يمكن الاتفاق حولها.
ويعيش المشهد التونسي حالة من الانتظار والقلق الواضحين، وصفها رئيس كتلة "تحيا تونس" مصطفى بن أحمد بـ"الصدمة والذهول". وكتب على صفحته بموقع "فيسبوك" أمس: "شهر مر على تدابير 25 يوليو والبلاد ما زالت تعيش حالة سريالية، بل إن سردية ثورة الشعب يريد، ما انفكت تكبر وتتضخم وتزداد تشويقاً متغذية من الشائعات التي باتت هي الوقود للحياة السياسية في البلاد. مقابل ذلك، لم يستيقظ مجتمع النخبة والأحزاب بعد من حالة الصدمة والذهول التي أصابته". وأضاف "يبدو أن الأمر لا يتعلق بمجرد معاقبة الأحزاب وإبعادها عن الساحة بسبب ما قامت به من أخطاء كارثية في العشرية المنصرمة، فالأمر أعمق من ذلك ويبدو أننا أمام تشكيل مشروع تغيير جذري للدولة".