أربعة أيام تفصل التونسيين عن 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، يوم عيد الثورة، الذي ألغاه الرئيس قيس سعيّد لأنه "تاريخ إجهاض الثورة"، بحسب تعبيره، وجعله في 17 ديسمبر/ كانون الأول.
وعلى الرغم من ذلك، سيذهب تونسيون كثر للاحتفال بهذا اليوم، بل وسيتحوّل إلى موعد سياسي تختبر فيه المعارضة من جديد قوتها، وربما يكوّن صورة واضحة عن موازين القوى في صراع بدأ يشتد بين الرئيس من ناحية، ومعارضيه الذين يتكاثرون من ناحية أخرى.
وبغض النظر عن المساحات السياسية التي تلتهمها "المبادرة الديمقراطية" التي تعرف أيضاً بـ"مواطنون ضد الانقلاب"، يوماً بعد يوم، نظراً لتصدرها الحراك المعارض لسعيّد، برز أخيراً صوت "الاتحاد العام التونسي للشغل" بشكل لافت، بعد مواقف هيئته الإدارية يوم الثلاثاء الماضي، والتي بدت وكأنها إيذان بإعادة ترتيب الأوراق من جديد.
الرئيس والحكومة سيواجهان التحوّل في موقف اتحاد الشغل
تصعيد في موقف الاتحاد العام التونسي للشغل
ويتلخص موقف الاتحاد في اعتباره أولاً أن "تحديد آجال الانتخابات، على ما عليها من تحفظات، خطوة أساسية تُنهي الوضع الاستثنائي، ولكنها لا تقطع مع التفرد والإقصاء وسياسة المرور بقوة بدون الأخذ بالاعتبار مكونات المجتمع التونسي ومكتسباته".
ثانياً، اعتبر الاتحاد أن الاستشارة الإلكترونية بشأن الإصلاحات الدستورية "لا يمكن أن تحل محل الحوار الحقيقي".
وأشار إلى "التوجس من أن تكون هذه الاستشارة أداة لفرض أمر واقع والوصول إلى هدف محدّد سلفاً، علاوة على أنها إقصاء متعمد للأحزاب والمنظمات التي لم تتورط في الإضرار بمصالح البلاد. كما أنها سعي مُلتبس قد يُفضي إلى احتكار السلطة وإلغاء الرقابة عليها إلى جانب إلغاء المعارضة".
كذلك شدّد الاتحاد "على ضرورة احترام الحقوق والحريات وإعلاء شأن القانون والحرص على ضمان استقلالية القضاء ووقف هرسلة (استهداف) القضاة".
واستنكر الاتحاد أخيراً "ما يكتنف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من غموض وسرية وتعتيم وغياب لأي صيغة تشاركية داخلية"، داعياً إلى "الشفافية وحق النفاذ إلى المعلومة وإشراك المنظمات الوطنية".
كذلك أعلن رفضه لأي مفاوضات لم يسهم في إعداد أهدافها وبرامجها ووسائلها ومآلاتها.
ويبدو موقف الاتحاد واضحاً من هذه القضايا المفصلية الكبرى، وقد يشكل قاعدة تفاوض جديدة ومهمة، لأنه صادر عن هيئته الإدارية (وهي السلطة الكبرى في المنظمة النقابية بعد المؤتمر والمجلس الوطني).
ويعني ذلك أن الرئيس والحكومة سيواجهان، سياسياً واجتماعياً، هذا التحوّل في موقف أهم منظمة وقوة اجتماعية وشعبية في البلاد، لا يمكن تجاهلها، خصوصاً بعد أن فشلت في ذلك كل الأنظمة السابقة.
في موازاة ذلك، يبرز نجاح "المبادرة الديمقراطية" في تجميع قوى سياسية مختلفة على أرضية مشتركة جديدة. وبدأ هذا التوجه يتبلور بوضوح في النقاشات التي شهدها مقر الإضراب عن الطعام (مقر حزب "حراك تونس الإرادة" في العاصمة تونس) على مدى الأيام الماضية.
وتحوّل الإضراب عن الطعام إلى محرك لضغط كبير على الرئيس، خصوصاً بعد الخطأ الذي ارتكبته وزارة الداخلية باختطاف وزير العدل الأسبق، ونائب رئيس حركة النهضة، نور الدين البحيري، وفشلها في تبرير هذه الحادثة.
وكانت هذه الحادثة قد أثارت موجة واسعة من الإدانات الوطنية والدولية، ورفعت من حجم المخاوف بشأن الحريات، ونبّهت إلى المنزلقات الخطيرة التي قد تصل إليها تونس.
تحوّل الإضراب عن الطعام إلى محرك لضغط كبير على الرئيس
قيس سعيّد يواجه كل النخب
في السياق، اعتبر مدير "مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي"، عدنان منصر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "المشهد يسير إلى الصدام ولا ندري ما هي الأشكال التي سيأخذها هذا الصدام".
ولفت إلى أن "الرئيس يواجه كل النخب والمعركة كبيرة، وربما لا يتوقع سعيّد انعكاساتها، لأنه حتى وإن كان المزاج العام يسمح بخوض هذه المواجهة، ولكن لا يمكن حسمها سريعاً".
وبرأي منصر، فإن "النخب ظاهرة قديمة في تونس، وهي من أكثر الظواهر استقراراً في تاريخ البلاد، وحالياً تتزايد عملية استنزاف شعبية وشرعية الرئيس مع كل معركة يخوضها الأخير مع قسم من هذه النخب".
ورأى منصر أن الوضع الحالي "يمكن أن يصل بالبلاد إلى وضعية شلل كامل، وسلطوية لا يمكن أن توفّر السياق لتحقيق أي مطالب اقتصادية واجتماعية".
وبخصوص الانقسام الذي تعيشه تونس بشأن عدد من القضايا المطروحة، كإصلاح القضاء مثلاً، اعتبر منصر أن "هذا الانقسام عادي، وكلما طرحت قضية مهمة، يظهر هذا الانقسام، فالنخبة غير متجانسة، وفيها من يدافع عن مسائل قطاعية وآخرون عن مسائل مبدئية. فليس هناك رأي واحد، ولكن خطورة أي قضية تُستمد من سياقها السياسي".
ولفت المتحدث نفسه إلى أن "السياق الحالي هو تجميع السلطات، والسلطة القضائية كانت دائماً محط أطماع السياسيين بكل أصنافهم، بغض النظر عن ديمقراطيتهم من عدمها".
وبرأيه، فإن السؤال هو "هل يمكن أن يتم إصلاح القضاء بمرسوم رئاسي بشكل أحادي، أو أن ذلك يتم بطرق أخرى غير تجميع السلطات بيد شخص واحد؟".
منصر: لا شيء يدل على أن سعيّد سيغيّر موقفه أو يعدل طريقة عمله
وأعرب منصر عن اعتقاده بأن "ما يجري يلخص إلى حد كبير طبيعة الصراع اليوم، فهو صراع سياسي يأخذ طابعاً قانونياً ودستورياً وحقوقياً بحسب الظروف".
وتابع "هو صراع حول أسس البناء الديمقراطي والفصل بين السلطات والضمانات التي تعطي للمواطن حقوقه، والسلطة القضائية والقاضي هو الضمانة لهذه الحقوق، وإضعاف القضاء يؤثر مباشرة على ضمان الحقوق والحريات وعلى مصداقية القضاء".
وحول إمكانية أن يقود الصراع أو المواجهة الحالية إلى الاقتناع بالحوار كسبيل للتوصل إلى حل سياسي، قال منصر "أعتقد أن الرئيس كان واضحاً، فهو يرفض أن يتحاور مع النخب، وليس فقط مع الطبقة السياسية، ولا شيء يدل على أنه سيغيّر موقفه أو يعدّل طريقة عمله".
القضاء عنوان رئيسي للصراع بين سعيّد ومعارضيه
ويبدو أن معركة القضاء تحولت إلى العنوان الرئيسي للصراع السياسي في تونس. وفي السياق، رأى المستشار لدى محكمة التعقيب، محمد العفيف الجعيدي، أن "هناك سعياً لضرب المجلس الأعلى للقضاء لأن القضاة يحتمون به".
وبرأيه، فإنّ "الرئيس سعيّد يسعى لتطويع القضاء مثل أي سلطة سياسية، من أجل تنفيذ برنامجه السياسي، وهناك انزعاج ورفض من قبله لمواقف القضاة المتعلقة بالشأن السياسي".
وأضاف الجعيدي، في مداخلة له خلال ندوة حول إصلاح القضاء نظمها "مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي"، أول من أمس السبت، أن "ما يحصل اليوم في تونس هو أن القضاء أصبح ساحة لمعركة الدفاع عما تبقى من ديمقراطية تونسية، والهدف في الواقع ليس إصلاح القضاء، وإنما الاستيلاء عليه".
وفي حديث مع "العربي الجديد" أمس، أوضح الجعيدي أن "المجلس الأعلى للقضاء في هذه الفترة، أي بعد 25 يوليو/ تموز (تاريخ إعلان سعيّد عن التدابير الاستثنائية)، يقوم بدوره في ضمان استقلالية السلطة القضائية، وهو الدور المنوط به دستورياً".
وأكد أن "خيار دستور 2014، في سلطة قضائية مستقلة، كان خياراً سليماً، ووضع هذا الخيار موضع تساؤل اليوم، يهدد قيم الدولة الديمقراطية وفكرة السلطة القضائية، وفكرة أن يكون لدينا قضاء مستقل من حيث المبدأ".
الجعيدي: هدف سعيّد في الواقع ليس إصلاح القضاء، وإنما الاستيلاء عليه
وشدد الجعيدي على أن "النيابة العامة في تونس، بحكم النزاعات التي تتعهد بها وبحكم ما صدر عنها من مواقف واستقلاليتها في الفترة الماضية، تبيّن أنها كانت صمام أمان لحماية الحقوق والحريات، لأن هذه الحقوق والحريات ليست نصوصاً قانونية، والقاضي هو الحامي والضامن لها، وإذا ما سقطت نيابة تونس فستسقط التجربة".
وبرأيه، فإنه "من الواضح والمعلن من قبل سعيّد أن الفكرة حالياً هي انخراط القضاء في المشروع السياسي، وبالتالي المسألة ليست مسألة استقلالية وإصلاح، بل هي تصور للوظيفة القضائية التي يريدها".
ولفت الجعيدي إلى أن "سؤال إلى أين نحن ذاهبون، يجب أن يطرحه كل تونسي، لأن الموضوع ليس مرتبطاً بالقضاة لوحدهم، بل هو متعلق بالمواطن التونسي وبجهة القرار، ويجب أن يحدد المواطن ماذا يريد حقاً".