أثارت الأرقام الخاصة بالترشحات للبرلمان القادم بتونس، التي كشفتها هيئة الانتخابات، جدلا كبيرا في البلاد وسط تعالي موجة التشكيك في شرعية البرلمان نفسه، في ضوء التراجع الكبير والعزوف عن الترشح في أكثر من دائرة انتخابية.
وأعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، مساء الخميس الماضي، عن قبول 1058 طلب ترشّح للانتخابات التشريعية المقبلة، بينها 122 قدمتها نساء، كاشفاً عن وجود 7 دوائر بلا مرشحين و10 دوائر بمرشح واحد، و8 دوائر بمرشحين اثنين فقط.
وأوضح بوعسكر أنّ 7 دوائر انتخابية بالخارج لم تسجّل فيها ترشحات، هي فرنسا 1 وألمانيا وباقي الدول الأوروبية والدول العربيّة والأميركيتان وآسيا وأستراليا وأفريقيا.
وسيبدأ البرلمان أشغاله بعد انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول منقوصا من نواب هذه الدوائر، ولن يكون بالتالي التونسيون الذين يعيشون في تلك المناطق ممثلين في البرلمان، إلى حين إجراء انتخابات جزئية جديدة بعد ذلك، وهو ما قاد إلى التشكيك في تمثيلية هذا البرلمان لكل الشعب.
ولكن حتى هذا الإجراء، الانتخابات الجزئية، سيكون أمرا معقدا قانونيا، وسيتعيّن على المشرّع (الرئيس التونسي، قيس سعيّد) تغيير القانون الانتخابي وتعديل شرط الحصول على 400 تزكية، مناصفة بين النساء والرجال، لأن هذه الشروط من أهم الأسباب التي قادت إلى هذه الأزمة.
وكان المتحدث الرسمي باسم هيئة الانتخابات، التليلي المنصري، قد دعا في تصريح إذاعي إلى أن يتم التفكير في التقليص من عدد التزكيات المطلوبة خاصة بالنسبة للترشحات في الخارج، معتبراً أن السبب الأصلي لغيابها هو عدم تجميع التزكيات.
وأثارت هذه الدعوة أيضا جدلا جديدا، باعتبار أن بعض النواب ترشحوا بقانون انتخابي أول في حين أن بعضهم الآخر في دوائر الخارج سيترشحون بقانون انتخابي معدّل.
وقالت أستاذة القانون الدستوري، منى كريّم الدريدي، إنه "ينبغي العودة إلى النصوص الأصلية أولا لفهم هذه اللخبطة القانونية"، مضيفة "دخلنا في مرحلة لخبطة وهذيان تشريعي، والنصوص لم تعد مهمة، لأنها نصوص يتم وضعها حسب الحالة وتنتفي عنها صفة الشمولية ولا تحقق ما نسميه الأمان القانوني".
ممنوح من الرئيس إلى الرعية
وأوضحت كريّم الدريدي في حديث لـ"العربي الجديد " أن دستور 25 يوليو/ تموز 2022 الذي فرضه الرئيس التونسي "لا يكيّف على أنه دستور ولا يرتقي إلى قيمة النصوص الدستورية، فهذا النص ممنوح من الرئيس إلى الرعية ولا يعكس أي تشاركية ولا أي رؤيا شارك فيها الشعب بطريقة مباشرة أو عبر نوابه".
وبينت الخبيرة في الشأن البرلماني أنه "دستور وضعه رئيس الجمهورية ولا يندرج في إطار الدساتير الديمقراطية، وحتى استفتاء 25 يوليو (2021) لا يرتقي بدوره إلى استفتاء، بل هو سؤال توجه به رئيس الجمهورية ليستمد مشروعية إضافية من الشعب، الذي استفتى على رئيس الجمهورية، أي على شخصه وليس على النص المعروض".
وفي 15 سبتمبر/ أيلول الماضي، أجرى الرئيس التونسي قيس سعيّد تعديلات على القانون الانتخابي الصادر عام 2014، باعتماد طريقة الاقتراع على الأفراد عوضاً عن القوائم واعتماد مبدأ سحب الوكالة وتقليص عدد النواب من 217 إلى 161، منهم 10 نواب عن الجالية بالخارج.
والانتخابات التشريعية المبكرة المقبلة، في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، أحد إجراءات سعيّد الاستثنائية، سبقها حلّ البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وإقرار دستور جديد للبلاد عبر استفتاء أُجري في 25 يوليو/ تموز الماضي.
وأوضحت كريّم الدريدي أن "البرلمان القادم، بحسب الوظيفة التشريعية التي ضبطها الدستور ومنحها لمن سيمارسون وظيفة تشريعية، هو أولا لا يتحدث عن سلطة تشريعية، بل عن وظيفة تشريعية، لأنه في فكر من وضع الدستور كل مؤسسات الدولة هي تحت سلطة الشعب، ورئيس الجمهورية يندمج مع سلطة الشعب ويختزلها، وكل المؤسسات موجودة لأداء وظيفة فقط".
وأوضحت أن "سعيّد يرى أنه يختزل سلطة الشعب، ولا يحتاج إلى وساطة بينه وبين الشعب"، مؤكدة أن "الوظيفة التشريعية كما قرأتها في هذا النص الذي يسمى دستورا، تقتصر على المصادقة على مشاريع القوانين، مثلما كان معمولا به في دستور 1959".
غياب البرامج السياسية
وتابعت الخبيرة الدستورية موضحة "أغلب مشاريع القوانين تأتي من رئيس الجمهورية، أي من السلطة التنفيذية، وهو الذي يعطي لمشاريعه الأولوية، ما يعني أن هذا البرلمان سيكتفي بالمصادقة على نصوص يضعها الرئيس".
كذلك أضافت "هذا البرلمان أيضا ليست لديه سلطة معارضة أو مراقبة الحكومة، بل هو برلمان دون رؤيا واضحة، لأن الاقتراع تم على الأفراد وبالتالي من الصعب أن يتم تكوين تحالفات حول برامج سياسية".
وبينت منى كريّم الدريدي أن "البرامج غير مهمة في هذا البرلمان، والحكومة لن تنبثق عنه، لأن رئيس الجمهوريّة يعينها لتنفذ السياسة التي يريدها هو"، موضحة أنها ستكون "حكومة الرئيس، وهي كذلك حكومة غير قادرة حتى على الاستقالة، بل تقال ولكنها لا تستقيل".
وخلصت إلى أن "الوظيفة التشريعية في هذا البرلمان هي وظيفة مبتورة، بمعنى أنها لا تستجيب لمقومات الوظيفة التشريعية في الأنظمة الديمقراطية، أي تشرع وتراقب وتنتخب، وكل هذا غير متوفر أو مبتور في البرلمان القادم".
ولفتت إلى أن "النظام الانتخابي، الذي تم وضعه بصفة أحادية أيضا، يكرس هذه الرؤيا الدونية للمؤسسات"، محذرة من أن "هذا البرلمان وفق الشروط الموضوعة لا يمثل كل التونسيين منذ وُضع هذا القانون، لأنه منع الترشح لمن يحمل جنسية أخرى غير التونسية، وكأن حاملي الجنسية الثانية لا تصح عليهم صفة مواطنين، يعني أن الإقصاء موجود منذ البداية، وسنجد أيضا نوابا لم يقع انتخابهم بل ترشحوا بصفة آلية، وليس لهم منافسون ولا مشروعية انتخابية بالتالي".
ولفتت أستاذة القانون الدستوري إلى أن "سحب الوكالة كما ينص عليه القانون الجديد، وفق الديمقراطية المباشرة يجعل النائب تحت سلطة من انتخبه، أي أن الشعب الذي انتخبه يمكن أن يسحب وكالته منه متى لم يطبق وعوده الانتخابية، ولكن في الحالة التي ينجح فيها النائب آليا عن أي وعود وبرامج نتحدث؟".
وأفادت كريم الدريدي أن "هذا يجعل النائب غير مرتاح في وظيفته وستكون إرادته خاضعة تماما لإرادة هذا الشعب"، مؤكدة أن هذا "قد يصلح في أنظمة مثالية أو في المدينة الفاضلة، ولكنه لا يستقيم مع واقعنا الاجتماعي والسياسي وسيخلق نوعا من الارتباك في الوظيفة التشريعية وغياب الاستقرار في الهيكل التشريعي وسيحمّل الدولة عدة مصاريف إضافية خاصة إذا تم تنظيم انتخابات جزئية أخرى لتسديد الشغورات لمن ستسحب منهم الوكالة أو لمن سيصعدون للمجلس في حالة التخلي عن مقاعدهم (في حالة المنتخبين المحليين)".
وبينت أن "انتخاب نائب دون انتخابات لم تحصل أبدا وهي بدعة تونسية".
وبخصوص الدوائر التي لم يترشح فيها مواطنون للانتخابات قالت كريّم الدريدي إن "الانتخابات الجزئية ستتم أيضا عبر تنقيح المرسوم السابق الذي وضعه سعيّد نفسه، ما يكشف عن لخبطة وهذيان تشريعي"، لتختم بالقول "تجاوزنا ما هو ممكن وما هو غير ممكن منذ 25 يوليو (2021) وسيتم تغيير القانون بحسب الوضعية".