تتجه مأساة أهالي مدينة جرف الصخر العراقية، التي تحتلها مليشيات مسلّحة منذ نهاية عام 2014 وتمنع عودة السكان البالغ عددهم قرابة 180 ألف نسمة، إلى فصل جديد من المعاناة، عنوانها هذه المرة تهجير الأهالي بشكل دائم من مدينتهم. وكشفت مصادر سياسية عراقية في بغداد، لـ"العربي الجديد"، عن مقترح تقدّمت به قوى سياسية وفصائل مسلحة، بإعادة توطين أهالي جرف الصخر في الأنبار وإغلاق هذا الملف. ويبدو الاقتراح بمثابة تكريس لفشل جهود حكومة مصطفى الكاظمي في إقناع الجماعات المسلحة التي تسيطر على البلدة الواقعة شمالي محافظة بابل، في الانسحاب والسماح للذين يتوزّعون على معسكرات نزوح متفرقة منذ سنوات بالعودة إلى منازلهم وأراضيهم الزراعية.
ويثير هذا الطرح، الذي أكده أكثر من مصدر، مخاوف من تغيير ديمغرافي جديد في العراق، تفرضه فصائل مسلحة تسيطر على المناطق التي طردت منها تنظيم "داعش". ويأتي أيضاً بعد وصف وزيرة الهجرة إيفان فائق المدينة مطلع الشهر الحالي، بأنها منطقة صحراوية، على الرغم من أن المدينة، ككل مدن محافظة بابل، عبارة عن بساتين نخيل وحمضيات وحقول زراعية. ووفقاً للوزيرة فإنها لم تدخل المدينة إلى حد الآن، مؤكدة أنه حسب المعلومات الموجودة في الوزارة "فإنها منطقة صحراوية وفيها ألغام وفيها جهات غير معروفة، وبالتالي هي منطقة غير معلومة، ونريد أن نزور جرف الصخر لنعرف كيف تدار الأمور هناك".
الجماعات المسيطرة على جرف الصخر رفضت الانسحاب منها
وحول آخر ما وصل إليه ملف جرف الصخر، قال مسؤول في وزارة الهجرة العراقية، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الجماعات المسيطرة على المدينة رفضت الانسحاب منها، على الرغم من تدخّل رئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، إلى جانب الحكومة، لإقناعها بإنهاء احتلال المدينة وإفساح المجال للأهالي بالعودة. وكشف عن أن جهات سياسية وفصائل مسلحة ضمن المعسكر الموالي لإيران، طرحت مقابل حراك الحكومة بتطبيع الأوضاع في المدينة فكرة مشروع إعادة توطين الأهالي البالغ عددهم قرابة 180 ألف نسمة في الأنبار، وإغلاق ملف المطالبة بعودتهم من قبل الحكومة.
ولفت المسؤول إلى أن فكرة المشروع تلاقي دعماً من قِبل رئيس الوزراء الأسبق زعيم ائتلاف "دولة القانون" نوري المالكي، ورئيس تحالف "الفتح" هادي العامري، وزعيم مليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، فضلاً عن قيادات سياسية ومسلحة، الذين يحاولون إقناع الحكومة التي ما زالت تأمل بالنجاح في تكرار اتفاقية سنجار في مدينة جرف الصخر. وأكد أن من ضمن المقترح أيضاً، منح الحكومة في بغداد أموالاً إضافية لمحافظة الأنبار ضمن موازنة عام 2021 أو ضمن موازنة الطوارئ، من أجل تحديد منطقة في المحافظة بهدف إنجاز مبانٍ منخفضة الكلفة أو بطريقة البناء الجاهز لإعادة توطين الأهالي. ونوّه إلى أن وكيل وزارة الهجرة، القيادي السابق في منظمة "بدر" كريم النوري، يحاول الترويج للمقترح الحالي.
من جهته، أكد أحد النواب صحة هذه المعلومات لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن "الطرح أُثير منذ مدة حول الأنبار، على اعتبار أنها أكبر محافظات العراق وتتحمّل ذلك"، مضيفاً أن "الخطوة تنطوي على عملية تغيير ديمغرافي، وعلى الكاظمي ألا يدخل في مثل هذا المشروع". واعتبر أن "أي كتلة سنّية ستوافق أو تحاول الترويج لهذا المشروع من زاوية أنه أفضل من بقاء المهجرين في المخيمات، ستحكم على نفسها بالموت السياسي".
لكن أطرافاً سياسية من تحالف "الفتح" الذي يمثل الجناح السياسي لفصائل "الحشد الشعبي"، لم تنف المعلومات، بل إن أحد الذين تم التواصل معهم اعتبر الطرح إيجابياً. غير أنه رأى أن تسريبه في الوقت الحالي له دوافع خبيثة لغرض إفشاله وتأليب الشارع العراقي.
وتقع بلدة جرف الصخر شمال محافظة بابل، وتسيطر على المنطقة مجموعة من المليشيات المرتبطة بإيران، أبرزها "كتائب حزب الله"، و"النجباء"، و"جند الإمام"، و"الخراساني"، و"عصائب أهل الحق"، التي تمنع القوات العراقية الحكومية من دخولها منذ استعادة السيطرة على البلدة نهاية 2014. وجرت محاولات سابقة في حكومتي حيدر العبادي وعادل عبد المهدي، بدفع من الأمم المتحدة وأطراف سياسية، لحل موضوع جرف الصخر، إلا أنها باءت بالفشل. وتحدث مسؤولون وسياسيون عراقيون أكثر من مرة عن وساطات عديدة انتهت بالفشل، شملت زيارة بيروت وطهران لبحث ملف البلدة.
وفي وقتٍ سابق من الشهر الحالي، أكدت مصادر عراقية رفيعة المستوى في بغداد، أن الكاظمي شكّل وفداً وزارياً رفيعاً، يضم أيضاً قيادات أمنية وعسكرية، لبحث مسألة جرف الصخر، بعد تشكيل خلية عمل، تألفت من مستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي، ورئيس أركان الجيش الفريق عبد الأمير يارالله، ورئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، إضافة إلى وكيل وزارة الهجرة والمهجرين كريم النوري، وقيادات أمنية وعسكرية مختلفة. ومن المفترض أن الخلية فاوضت زعماء الفصائل التي تسيطر على جرف الصخر، لمحاولة إقناعها بالسماح للوفد الدخول للبلدة والاطلاع على أحوالها، وبحث إمكانية تطبيع الأوضاع فيها، وإعادة أهلها إليها قبيل الانتخابات المقررة في يونيو/حزيران المقبل، إلا أن المفاوضات تأكد أنها باءت بالفشل.
فشل الكاظمي أمام الفصائل المسلحة في فرض عودة المهجّرين إلى أرضهم
من جهته، نفى عضو البرلمان رعد الدهلكي علمه بالمقترح الجديد، إلا أنه قال لـ"العربي الجديد" إن "تجريف بلدة جرف الصخر من أهلها هو أمر مرفوض، وعلى جميع القوى الوطنية والسياسية أن تمنع مثل هذه المشاريع، لأنه يعزز ويشرع الانتقال من تثبيت الأمن وتقوية تنوع المجتمع إلى انتهاج التغيير الديمغرافي". وأضاف أن "بلدة جرف الصخر تحتوي على لغز لا يعرفه إلا المقربون من الفصائل المسلحة التي تسيطر على المدينة، وعلى المنظمات الدولية والإنسانية التدخل عاجلاً لكشف كواليس هذه البلدة، التي ترفض بعض القوى السياسية والمسلحة الخروج منها وعودة سكانها الأصليين إليها".
أما القيادي في "جبهة الإنقاذ والتنمية" أثيل النجيفي، فقال لـ"العربي الجديد" إن "السكان الأصليين لبلدة جرف الصخر يتعرضون إلى أكبر عملية تغيير ديمغرافي واضحة. ومع الأسف يبدو أن من بيدهم السلطة لم يستفيدوا بتاتاً من تجارب التغيير الديمغرافي التي حدثت في العراق مرات عدة خلال العقود والأنظمة السابقة، وكلها باءت بالفشل وخلفت وراءها عداوات ومآسي ومشاكل جديدة". وشدّد على أن "الحكومة العراقية تتحمّل مسؤولية إعادة نازحي البلدة إلى منازلهم، والدولة مسؤولة مرة أخرى عن تعويضهم وعن إعادة الإعمار، وتتحمّل الأنظمة السياسية التي تقوم بعمليات التغيير الديمغرافي عار تلك الأعمال المنافية لكل الحقوق الإنسانية". ولفت النجيفي إلى أن "جرف الصخر بعد ترحيل سكانها بحجة الإرهاب ومنع عودتهم مجدداً أصبحت منطقة عسكرية تتمركز فيها فصائل يصعب على الحكومة السيطرة عليها، وبالتالي فإنها تشكّل قوة حقيقية للدولة الموازية وتهديداً للدولة العراقية، ولكن بنظري أن استمرار هذا التهديد من عدمه مرتبط بالوضع السياسي الداخلي والإقليمي، ومتى ما استحق التغيير فلن تستطيع تلك الفصائل مهما أوتيت من قوة أن تثبت أمام إرادة الدولة الحقيقية".