عاد مسلسل تفجير محلات بيع المشروبات الكحولية وتهديد أصحاب النوادي الترفيهية الليلية في العاصمة العراقية بغداد، بعد مدة من انقطاع الأخبار عن استهداف تلك الأماكن. وتتحدث الشرطة العراقية عن فصائل مسلحة نافذة في بغداد متورطة بعمليات التفجير لابتزاز أصحاب تلك المحلات والنوادي، من خلال إجبارهم على دفع إتاوات شهرية مقابل السماح لهم بممارسة عملهم. لكن في الأسبوعين الماضيين، بعد تفجير 7 محال لبيع الخمور وإغلاق ناد ترفيهي مرخّص في بغداد، لم تعد الجهات المتورطة فيها مجهولة، بل صارت تتبناها "الفصائل المستحدثة". وهي تسمية تُطلق على المليشيات العراقية، التي ظهرت عقب اغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس "هيئة الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، بالقرب من مطار بغداد بغارة أميركية في 3 يناير/كانون الثاني الماضي، مثل مليشيات "أصحاب الكهف"، و"ربع الله"، و"الجداحة"، و"مجاميع المقاومة الإسلامية"، و"جماعة الأمر بالمعروف".
تُذكّر موجة الاستهداف الجديدة بحقبة تنظيم "القاعدة" بين عامي 2005 و2009
وتستخدم هذه المليشيات قنوات على تطبيق "تليغرام"، أبرزها "صابرين نيوز"، للإعلان عن هجماتها على المحال التجارية، في تحدٍ صارخ للحكومة وقوات الأمن التي تتوزع في شوارع بغداد، خصوصاً النقاط والتشكيلات المتخصصة بحماية المرافق الترفيهية مثل محال بيع المشروبات الكحولية والنوادي الليلية.
وتُعدّ موجة الاستهداف الجديدة لتلك الأماكن، وفقاً لمراقبين، أحد الوجوه التي تذكّر بحقبة تنظيم "القاعدة"، في الموصل والأنبار وصلاح الدين بين عامي 2005 و2009، التي نُفّذ فيها عمليات تفجير مماثلة، والتي تلاها عمليات تضييق على الحريات الشخصية، طاولت غير المسلمين، كالمسيحيين والصابئة والآشوريين والأيزيديين، الذين اضطر الآلاف منهم لمغادرة مدنهم الأصلية إلى خارج العراق أو إلى بغداد وأربيل.
وتبرز مليشيا "كتائب حزب الله" في العراق، كواحدة من أكثر المليشيات التي تبارك هذه العمليات، وتعتبر تلك المحال "أوكاراً للشيطان". في المقابل، تتسبب هذه الهجمات بموجات رفض وغضب من قبل العراقيين، الذين يعبّرون عن استغرابهم من الدعم العلني للتفجيرات، ويشبّهون ذلك بجرائم تنظيم "داعش".
وتوزعت تفجيرات الأسبوعين الماضيين، في أحياء الغدير والكرادة والسعدون والدورة، وهي مناطق ذات تنوع سكاني يضمّ غالبية أطياف مختلفة من المجتمع العراقي، مسلمين وغير مسلمين ومن مختلف التوجهات الثقافية والاجتماعية. وحتى الآن لم تعلّق الحكومة على موجة التفجيرات ولا وزارة الداخلية على الرغم من تصاعدها، وهو ما يدفع مثقفين وناشطين إلى إبداء استغرابهم من الجهات، التي يصفونها في كثيرٍ من الأحيان بأنها "الدولة العميقة"، ويتساءلون عن إمكانية ردع الهجمات، وإيقاف حملات ترهيب المواطنين وتحجيم الحريات الشخصية التي كفلها الدستور العراقي.
وفي هذا السياق، كشف مسؤول أمني عراقي بارز في وزارة الداخلية، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن عمليات التفجير لم تعد كما في السابق، وتقتصر على قنابل صوتية لإخافة صاحب متجر الكحول أو النادي الليلي، وإجباره على دفع الأموال الشهرية لهذه الجماعة أو تلك، بل تعدتها إلى ولادة جماعات متطرفة من داخل المليشيات النافذة في بغداد. وتعتبر هذه الجماعات وجود النوادي الليلية ومحال بيع الكحول، وحتى الأنشطة الثقافية المختلطة، حراما، وتعمل على استهدافها. وهو ما تجلّى في التفجيرات الأخيرة بعبوات ناسفة، خلّفت أضراراً وجرحى جراء استهدافها.
وأوضح أن "تلك المجموعات متورطة ليس باستهداف محال الخمور فقط بل في أنشطة كثيرة يعتبرونها محرمة. ووصلت شكاوى من أحياء مختلطة في بغداد بشأن منشورات تتعلق بتحريم السفور والتبرج وتحريم مصافحة الرجال وتفاصيل أخرى، وجدت بعضها عند مداخل مبان تضم شققاً سكنية في حي الكرادة ببغداد". وأكد أن عمليات الابتزاز مستمرة أيضاً لأصحاب تلك الأنشطة من أجل الابتزاز والحصول على الأموال، كونها تدرّ أرباحاً على أصحابها، ومن يعمل فيها لا ينتمي لعشيرة قوية أو حزب يحميه. بدورها لا تريد الشرطة الاحتكاك بالمليشيات أساساً، لكن التطور الأخير عبر ظهور جماعات متشددة داخل تلك الفصائل، خلط الأوراق وولّد إرباكاً واضحاً بالمشهد.
في السياق، نوّه صاحب محلٍ لبيع المشروبات الكحولية في حي السعدون، وسط بغداد، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "عناصر من مليشيات معروفة يأتون إلينا كل نهاية شهر، لتسلّم إيراداتهم، وهي إتاوة مفروضة على كل النوادي الليلية والمحال، وتسمى محلياً بالخاوة، أي أنها أموال تنتزع بالقوة وتحت تأثير التخويف". وأشار إلى أن "المحال التي تتعرض لاستهداف بالقنابل والتفجيرات وأحياناً بالتهديد وإطلاق الرصاص، هي المحال التي يتخلف أصحابها عن الدفع للمليشيات. وبذلك فإن التفجير هو بمثابة إنذار لصاحب المحل، وإذا لم يدفع بعد التهديد، فإن محله سيتعرض إلى الإغلاق بطرق قانونية، نظراً لما تملكه هذه المليشيات من علاقات نافذة في الدولة العراقية".
لم تعلّق الحكومة ولا وزارة الداخلية على موجة التفجيرات الأخيرة
من جهته، تحدث الناشط في بغداد سعد عباس لطيّف، عن وصول تهديدات لصاحب مكتب إحياء حفلات في منطقة بغداد الجديدة، بسبب استقدامه راقصة شعبية في إحدى الحفلات، أجبرته على إغلاق مكتبه. وأضاف لطيّف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "هناك جهات جديدة متطرفة دينياً داخل فصائل مسلحة تتورط بهذه التهديدات، ليس على محال بيع الخمور أو النوادي الليلية فقط، بل تعدت إلى مجالات مختلفة. وهي من تقف وراء استهداف الناشطين المطالبين بالمدنية والعلمانية واللاطائفية، مستندين على فتاوى أغلبها من رجال دين إيرانيين بهذا الشأن تبيح قتلهم". ولفت لطيّف إلى أن "أهالي بغداد، تحديداً الذين يسكنون في المناطق التي تنشط فيها المليشيات، بدأوا يلمسون هذا الجانب العقائدي المتشدد"، مفسّراً زيادة الإقبال من قبل البغداديين على الفنادق بدلاً من النوادي المفتوحة أو محال بيع الخمور، كونها محمية وأكثر أمناً بالنسبة لهم.
من جهته، اعتبر مسؤول اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد، سعد المطلبي لـ"العربي الجديد"، أن "من واجب الحكومة وقوات الأمن حماية مصالح المواطنين مهما كانت أشكالها أو اتجاهاتها، طالما أنها تزاول عملها وفق القانون. كما أنها مطالبة بإبعاد كل أشكال الترهيب عن المحال التجارية، سواء تلك التي تبيع المشروبات الكحولية أو غيرها". وعن الجهات التي تقوم بتفجير المحال، أكد أن "هناك أكثر من جهة، لأن عصابات الجريمة المنظمة متواجدة في بغداد، كما أن الخلافات الشخصية بين أصحاب المحال أنفسهم قد تدفع بالبعض إلى اتباع هذه الطريقة"، رافضاً تحديد تلك الجهات أو الإشارة لتورط مليشيات محددة بالهجمات.
من جهته، أشار الخبير الأمني أحمد الشريفي، إلى أن "التهديدات التي تتعرض لها الحريات الشخصية في العراق من قبل الجماعات المسلحة التي باتت تعرف بقوى اللا دولة، تمثل تحدياً لكل أشكال القانون، من دون أي تحرك جاد من الحكومة العراقية تجاهها. مع العلم أن هذه الجهات معروفة تماماً للحكومة والعراقيين". ولفت في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "سُجّل في العراق أكثر من خمس هجمات في الأسبوعين الماضيين، فيما تمكنت جهات من إغلاق بعض النوادي الليلية من دون أي ورقة قانونية. في المقابل يواصل آخرون دفع الأموال لقاء استمرار عملهم، وكل هذا يجري على مرأى ومسمع الحكومة، ويدل على تحدٍ وضعف كبيرين يعاني منهما النظام في البلاد".