ما رشح أو انكشف عن لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن، مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أمس الأربعاء في نيويورك، أكّد ما كان متوقعاً، بأن احتمال التطبيع السعودي - الإسرائيلي كان البند الرئيسي في مباحثات قُدِّمَت على أنها كانت "مصالحة"، بعد "حرد" طويل صار بعدها نتنياهو مقبولاً كزائر رسمي في البيت الأبيض "قبل آخر السنة".
الإدارة لم تخفِ منذ فترة أن تركيزها لتحقيق هذا الاحتمال يشكل "قلب" سياستها الراهنة في المنطقة، إضافة إلى اعتراضها على سياسات حكومة نتنياهو الداخلية والأزمة التي سببتها. ونتنياهو من جهته، يتطلع إلى إنجاز الاتفاق بواسطة واشنطن، كحجر يضرب به أكثر من عصفور، فلسطينياً وإقليمياً.
ومع تقاطع الحسابات، انتهت حتى الآن حالة توتر كانت محكومة بالتلاقي كغيرها من التوترات العارضة التي حصلت بين إسرائيل وإدارات أميركية سابقة. لكن العملية التي تراهن عليها الإدارة ما زالت حسب المتداول، مرهونة بأمرين: ماهية "التنازل المهم" للفلسطينيين الذي يطلبه البيت الأبيض من نتنياهو، ومدى استعداد هذا الأخير لترجمته كشرط لتمرير هذا التطبيع، وثانياً، توفير واشنطن "الضمانات الأمنية" التي تطالب بها السعودية في حال مضيّها في عملية التطبيع.
الإشارات والتفسيرات في هذا الصدد ضبابية في أحسن أحوالها، وأقرب إلى المفخخة. فالإدارة تركت مطلب "التنازل" مبهماً، ووصفته بأنه من النوع الذي "يُبقي طريق المفاوضات مفتوحة". ونتنياهو كان كعادته أكثر مراوغة، إذ أبدى من جهة عدم اعتراضه على "مشاركة الجانب الفلسطيني في العملية، لكن من دون أن يكون له حق الفيتو"، وشدد من جهة ثانية على أن التطبيع مع المملكة من شأنه "تحقيق المصالحة مع العالم الإسلامي التي تؤدي إلى السلام الحقيقي مع الفلسطينيين".
تحاشي كليهما الإشارة إلى حل الدولتين، فُسِّر من زاويتين: مراعاة وضع نتنياهو الحكومي في الوقت الحاضر، ريثما تنضج الطبخة، بحيث يصار بالنهاية إلى تشكيل حكومة ائتلاف إسرائيلي تُقدم على "التنازل المهم" للفلسطينيين، وبالتالي المضي في الصفقة "بحلول يناير/كانون الثاني 2024"، وفق مصادر الخبيرة في الشأن السعودي كارين إليوت هاوس في مقالتها في "وول ستريت جورنال" في 15 من شهر سبتمبر/أيلول الحالي. التفسير الثاني، وربما هو الأرجح في ضوء تجربة أوسلو ومراوغات إسرائيل بتغطية أميركية، أن يكون قد جرى التفاهم بين بايدن ونتنياهو على شراء الوقت لهندسة مشروع لا يحمل من "التنازل" للفلسطينيين غير الاسم المموّه لتمرير تطبيع صار الاعتقاد أن إعلانه مسألة "متى" وليس "إذا".
ذلك أن "حل الدولتين" صار على الأرض بحكم المنتهي كما انتهت "أوسلو"، وهو أمر يشهد عليه الأمر الواقع. وتردّد هذا الكلام في كتابات وتحذيرات دورية، من دون أن تتزحزح الإدارات الأميركية عن تهاونها مع تمدد الاستيطان، وما أدى إليه ذلك من تغوّل اليمين القومي والديني المتمثل بالحكومة الإسرائيلية الراهنة الهاجمة على الضم المكشوف للأراضي في الضفة، بل ما أدى إليه من عنصرية مكشوفة صارت حديث جهات غير قليلة في الساحة الأميركية، ومنها في صفوف الجالية اليهودية المتخوفة من تمادي الانزلاق في هذا الطريق المحكوم بنسخ "أبارتهايد" جنوب افريقيا.
مطلع هذا الأسبوع، خصّصت جامعة "ماريلاند – كوليج بارك"، المتاخمة لواشنطن، ندوة عن حقوق الإنسان الفلسطيني، شاركت فيها رئيسة جمهورية أيرلندا السابقة ماري روبنسون، والأستاذ الجامعي كانيث روث من هارفارد، تناولا فيه الوضع الفلسطيني في الضفة بعد معاينة مباشرة.
الخلاصة أن إسرائيل تحولت باحتلال الأراضي الفلسطينية إلى "دولة أبارتهايد"، وأن هذه الأراضي "صارت كالجبنة السويسرية"، مخردقة بالمستوطنات، بحيث "لم تعد صالحة لقيام دولة"، كما شدد روث، وهو اعتقاد شبه سائد في أوساط العارفين والمتابعين والمتخوفين مثل بايدن، المتمسك بفكرة الدولتين، ولو لإبقائها في التداول خشية مواجهة جنوب أفريقيا أخرى.
لكن بايدن يدرك مدى صعوبة أن يجاريه الكونغرس في الموافقة، لو أرادها، على حزمة ضمانات أمنية للمملكة من النوع المتوافر للحلفاء الأوروبيين وبعض الآسيويين، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والذي يُلزم الولايات المتحدة بالدفاع المباشر عن أي من هذه البلدان عند تعرّضها لاعتداء ما. بيد أن مثل هذا الاحتمال ليس معدوماً.
عدد من رجال الكونغرس يزمع لقاء وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال أكتوبر/تشرين الأول المقبل للتباحث في هذا الشأن، حسب الخبيرة في الشأن السعودي كارين إليوت هاوس، الموثوقة بمصادرها السعودية. وربما كانت قد حصلت على الضوء الأخضر لكشف هذه المعلومة التي توحي بأن أبواب الكونغرس، رغم اضطراب علاقات معظمه، خصوصاً الديمقراطي مع المملكة، ليست موصدة تماماً بخصوص الضمانات الأمنية، خصوصاً أن لواشنطن مصلحة مهمة في إعادة تصحيح العلاقات مع الرياض، للحدّ من التمدد الصيني في الخليج كما يتردد، بل كما توحي توجهات الإدارة وخطابها وهواجسها الصينية، فللظروف أحكام.