كشفت مصادر دبلوماسية مصرية وأوروبية، لـ"العربي الجديد"، عن تفاصيل جديدة حول الاتصالات الجارية بين مصر وتركيا على المستويين الدبلوماسي والفني، بشأن القضية الأهم في العلاقات بين البلدين حالياً، والتي تكاد تكون نقطة الارتكاز التي تتعلق بها باقي الموضوعات محل الاهتمام المشترك، بما في ذلك الوضع في ليبيا، ومستقبل المعارضين المصريين وقيادات جماعة "الإخوان المسلمين" في تركيا، ووسائل الإعلام المعارضة، وهي قضية غاز شرق المتوسط. وتتقاطع الاتصالات الثنائية في هذه القضية مع اتصالات أخرى بين مصر ودول "منتدى غاز شرق المتوسط" (يضم مصر والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا وفلسطين)، وبين تركيا ودول في المنطقة وجنوب أوروبا، وشركات كبرى عاملة في مشروعات قائمة.
وقالت المصادر إنّ الاتصالات الجارية حالياً بشأن هذه القضية، تدور حول ثلاثة ملفات رئيسية؛ أولها مستقبل ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ومدى ارتباط ذلك بالاتفاقيات القائمة في المنطقة وأخرى لم تبرم بعد، وثانيها المشروعات المشتركة المتوقعة وإمكانية انضمام تركيا لـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، فيما يتعلق الملف الثالث بمستقبل المشروعات المتفق عليها بين مصر وإسرائيل لتوريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا ودور تركيا فيها.
اليونان وقبرص طلبتا من مصر عدم الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع تركيا من دون مشاركتهما
بالنسبة للملف الأول؛ قالت المصادر إنّ اليونان وقبرص طلبتا من مصر بشكل واضح عدم الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع تركيا من دون مشاركتهما، وإن الخصمين الإقليميين اللدودين لأنقرة ليست لديهما موانع في التوصل إلى "اتفاق شامل لترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة في المنطقة، وترحيل حسم الصراع على بعض المناطق للمستقبل، الأمر الذي لا تقبله تركيا حتى الآن، وكحلّ آخر يمكنها أن تشترط عدم استغلال اليونان لأي من المناطق المتنازع عليها".
وأضافت المصادر أنّ الخريطة الجديدة للمناقصة المصرية للبحث عن مكامن المواد الهيدروكربونية في أقصى غرب منطقتها الاقتصادية الخالصة، المشكّلة بموجب اتفاق ترسيم الحدود مع اليونان، والتي وضعت الأسبوع الماضي بناءً على الاتصالات والمفاوضات السياسية والفنية مع اليونان، صدرت تلبيةً لمطالب أثينا في هذا الموضوع، بعد تضررها من الخريطة السابقة التي طرحتها مصر وتلافت الدخول على المناطق التي أعلنت تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 أنها وقّعت بشأنها اتفاقاً مع حكومة الوفاق الليبية السابقة، ورفضتها كل من مصر واليونان وقبرص بشدة، وأرسلت شكاوى بشأنها إلى الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من تلبية مصر مطالب اليونان بعد الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأربعاء الماضي، ولقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس في القاهرة في 8 مارس/آذار الحالي، إلا أنّ الخريطة الجديدة لا تعدّ أيضاً سبباً لاستفزاز تركيا أو إهدار مكتسباتها. الأمر الذي يعكس رغبة الجانبين في التوصل إلى حلول تبعد شبح النزاع عن المنطقة كاملة، على الرغم من الخصومة بين أنقرة وأثينا، والتنافس بينهما حالياً على الشراكة مع مصر وإسرائيل.
يذكر أنّ الأمم المتحدة سجلت الاتفاق التركي الليبي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثمّ صادقت رسمياً على خريطة ترسيم الحدود المصرية اليونانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مما أبقى الأوضاع على ما هي، من دون غلبة لأي فريق، وهي المسألة التي اعتبرت من العوامل الحاكمة للطرح المصري "بتلافي الحدود التركية" الذي رحبت به أنقرة. وبحسب المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإنّ ترسيم الحدود موضوع رئيسي وهدف منشود لكل من مصر وتركيا، لكن الاتصالات الجارية حالياً تركز على اتخاذ خطوات تجعل مفاوضات الترسيم مستقبلاً ممكنة وسهلة. والعامل المسهل الأول لذلك، هو حسم إمكانية مشاركة اليونان وقبرص فيها، ومدى قبول كل طرف بتقديم تنازلات بغية التوصل إلى اتفاق. لكن المصادر شددت على استمرار تعلّق هذا الملف كذلك، بالتوصل إلى حل نهائي لمسألة المعارضين المصريين في تركيا، واستمرار التهدئة في ليبيا من دون الرجوع عما تحقق مطلع العام الحالي.
الاتصالات الجارية حالياً تركز على اتخاذ خطوات تجعل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مستقبلاً ممكنة وسهلة
أمّا الملف الثاني والخاص بالمشروعات المشتركة، فهو مرتبط أساساً بإمكانية التحاق تركيا بـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، تمهيداً للتنسيق مع الدول الأعضاء، وبصفة خاصة مصر وإسرائيل، في مشروعات الإسالة والتصدير لأوروبا عبر السفن الناقلة. وهنا تبدو مصالح جميع الأطراف موحدة بضرورة تقوية سوق المنتجات الهيدروكربونية، والإسراع في جهود الاستكشاف والاستخراج وإبرام عقود التوريد، نظراً للتوقعات المتناقضة في العديد من الدوائر الاقتصادية بدول المنطقة والعالم والشركات العاملة في المجال، بشأن استمرار اعتماد أوروبا على الغاز والمنتجات الهيدروجينية في العقود المقبلة، في ظلّ توجه دول أوروبية عدة إلى التوسع في استخدام الطاقة النظيفة وسن تشريعات لضمان ذلك.
وأشارت المصادر المصرية والأوروبية إلى أنّ التحاق تركيا بالمنتدى هو هدف طبيعي لها، لأنه يضمن مشاركتها في صنع القرار الاقتصادي في المنطقة، وربما يحميها من الصراع الأكبر بين الولايات المتحدة وروسيا حول الاستفادة من المنطقة والوجود الاستراتيجي فيها. كما أنّ التوصل إلى تفاهم بين دول المنتدى وأنقرة، يغني جميع الأطراف عن حسابات التنافس والمضاربة، كما يعظّم إمكانية الاستفادة من إمكانيات الجميع. والشهر الماضي، أعلنت مصر واليونان وقبرص تفعيل الميثاق التأسيسي لـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، "وفتح ساحته لكل الدول التي تتشارك القيم والأهداف ذاتها وتتوافر لها الرغبة في التعاون من أجل أمن المنطقة ككل ورخاء شعوبها"، لتتجدد التكهنات حول ما ترمي إليه الدول الثلاث من وراء هذه الدعوة، التي سبقتها تصريحات من قبرص وإسرائيل تحديداً، عبّرت عن "تمني انضمام تركيا للمنتدى"، وهو ما لم تردّ عليه أنقرة في حينه.
أمّا الملف الثالث، فهو الخاص بالمشاركة المحددة مع مصر وإسرائيل في مشروعهما الطموح لتصدير الغاز لأوروبا، وباعتبارهما المالكتين لأكبر حقول الغاز في المنطقة، إذا ما قورنت بالحقول المكتشفة في منطقتي قبرص واليونان، وكذلك الحقول المكتشفة حديثاً في تركيا. وكشفت المصادر أنّ هناك تنافساً يلوح في الأفق بين اليونان وقبرص وستدخل تركيا في المضمار أيضاً، على دور الشريك الذي سيخصص نقطة انطلاق لوجستية كبرى لنقل الغاز المسال القادم من وحدتي الإسالة بدمياط وإدكو في مصر، والذي سيكون جزء كبير منه تابعا لإسرائيل في إطار الشراكة بين البلدين، والتي أعلن عن انطلاقها أخيراً، بالربط بين حقل ليفياثان والوحدتين عن طريق خط الأنابيب البحري.
التحاق تركيا بمنتدى غاز شرق المتوسط هو هدف طبيعي لها
وكانت تركيا في السابق تتصدى لمشروع توسيع شبكة الأنابيب المقامة بين مصر وإسرائيل، والمملوكة حالياً لشركة جديدة أسست خصيصاً لامتلاك شبكة الأنابيب، بين شركتي "نوبل إنيرجي" الأميركية و"ديليك" الإسرائيلية وشركة "غاز الشرق" المملوكة حالياً للدولة المصرية، ممثلة في جهاز المخابرات العامة وهيئة البترول، لتشمل قبرص، بهدف الاستفادة من مصنعي إسالة الغاز في مصر، واللذين ستستفيد منهما دولة الاحتلال أيضاً. لكن رؤية أخرى استحدثت بشأن هذا الملف جعلت أنقرة تطرح نفسها كشريك محتمل وأكثر جاهزية في هذا المشروع كنقطة انطلاق نحو أوروبا، بدلاً من اليونان التي تسعى لإنشاء ميناء مخصص لهذا الغرض تنتهي فيه خطوط الشبكة المزمع توسعتها.
يذكر أنّ المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، كانوا قد أدلوا بتصريحات إيجابية عدة تجاه مصر، معلنين إجراء اتصالات دبلوماسية وأمنية بين البلدين في الآونة الأخيرة. وتعاملت مصر في البداية مع التصريحات ببرود، ثمّ رحبت بها، مطالبةً بتحقيق أفعال على الأرض وعدم الاكتفاء بالتصريحات، قبل أن ترحب من خلال وزير الدولة للإعلام، أسامة هيكل، أخيراً، بالإعلان عن تغيير التعامل الأمني والإعلامي مع القنوات الفضائية المعارضة والقيادات الإخوانية في تركيا، وتوجيه السلطات التركية لتلك الفضائيات بوقف الهجوم على النظام المصري، والالتزام بما وصفته "ضبط المعايير الإعلامية"، بحسب مالك قناة "الشرق" أيمن نور وعدد من العاملين بباقي القنوات.