تغيرات جذرية في علاقات روسيا مع محيطها السوفييتي السابق

26 فبراير 2023
احتفال في موسكو بمناسبة ولادة جوزيف ستالين، ديسمبر الماضي (Getty)
+ الخط -

وضعت الحرب الروسية على أوكرانيا معظم بلدان آسيا الوسطى وجنوب القوقاز في موقف محرج، نظراً إلى أن روسيا تمثل الحليف الأقرب سياسياً واقتصادياً، ولكن الاصطفاف مع موسكو يعني فرض عقوبات على هذه الدول من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وأثار التبرير الروسي للحرب مخاوف عدد من البلدان السوفييتية السابقة، مثل كازاخستان ومولدوفا، حيث تقطن أقليات روسية وازنة وأيدٍ خفية قد تعمل لمصلحة الكرملين.

في حين فضّلت هذه البلدان الوقوف على الحياد تجاه الحرب، دعمت بيلاروسيا الحرب بقوة، ومنها انطلق الجيش الروسي لاحتلال المناطق الشمالية الشرقية من أوكرانيا والتقدم نحو العاصمة كييف. وشكّل نزوح مئات آلاف الشباب الروس إلى البلدان المحيطة منذ بداية الحرب، وتصاعده بشكل لافت بعد إعلان "التعبئة الجزئية"، في سبتمبر/ أيلول الماضي، مشكلة إضافية للسلطات المحلية.

كما دقت السلطات الأمنية في عدد من بلدان آسيا الوسطى ناقوس الخطر من إمكانية مشاركة مواطنيها الشباب في الحرب كمتطوعين مع الجيش الروسي أو المليشيات أو مرتزقة "فاغنر"، والتأثيرات المستقبلية على الأمن والاستقرار في بلدان تعاني أصلاً من ويلات الإرهاب بسبب قربها من أفغانستان.


اقترب لوكاشينكو من بوتين بسبب العقوبات الغربية على بيلاروسيا

دعمت بيلاروسيا الحرب الروسية على أوكرانيا منذ بداياتها في 24 فبراير/شباط 2022، فقسم من القوات الروسية انطلق من أراضيها، واستقبلت بعد أيام من الغزو جولات تفاوض بين روسيا وأوكرانيا. ولكن وبسبب انحياز مينسك الكبير لصالح روسيا، طالبت أوكرانيا بتنظيم جولات التفاوض في بلد آخر، لتنتقل الوساطة عملياً إلى تركيا. وجدد الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، أكثر من مرة، دعمه الكامل لروسيا و"تفهّمه" لمسوغات الحرب، المنطلقة من خطر توسع حلف شمال الأطلسي.

وكان لوكاشينكو أكثر ضيف أجنبي على طاولة الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو وسانت بطرسبورغ وسوتشي. وفي العام الأخير، خطا الجانبان باتجاه تسريع "دولة الاتحاد" (أُعلن عن تأسيسها في عام 1997) بينهما.

وبدا أن "الأب"، لقب لوكاشينكو، اضطر إلى الاقتراب أكثر من "القيصر" (بوتين) لأسباب تتعلق بإغلاق الغرب أبوابه وفرضه عقوبات على مينسك، بعد اتهامات بتزوير الانتخابات الرئاسية في أغسطس/ آب 2020، وحاجته الكبيرة إلى الدعم الاقتصادي الروسي.

مولدوفا والخاصرتان الرخوتان

على عكس بيلاروسيا، دانت مولدوفا الغزو الروسي، وأبدت دعماً وتعاطفاً مع أوكرانيا، واستضافت مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين. فاستقر أوكرانيون في شيزيناو، وانتقل بعضهم غرباً نحو الاتحاد الأوروبي.

وتأثرت مولدوفا، البلد ضعيف الموارد أساساً، من ارتفاع أسعار الطاقة وتبعات الحرب الأخرى على الاقتصاد، وتأمين احتياجات ملايين اللاجئين الأوكرانيين.

وتتعرض مولدوفا لهجوم من بروباغاندا الكرملين منذ نجاح مايا ساندو في انتخابات 2020 نظراً إلى توجهها لتحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. وتدعم روسيا الرئيس السابق إيغور دودون والمعارضة الداعية للتقارب مع موسكو.

وفي إبريل/ نيسان 2022، صرح مسؤول عسكري روسي كبير بأن روسيا تسعى للسيطرة على أوديسا الأوكرانية والوصول إلى حدود "جمهورية ترانسنيستريا (بريدنيستروفيا الاسم الروسي)"، الإقليم الانفصالي في مولدوفا، الذي يتمركز فيه نحو 1500 جندي روسي.

ونفت مولدوفا، أول من أمس الجمعة، أن تكون أوكرانيا تشكّل أي "تهديد مباشر" لمنطقة ترانسنيستريا، رداً على تصريحات لوزارة الخارجية الروسية اتهمت كييف بـ"التحضير" لـ"غزو" هذه المنطقة. وجاء في بيان أن "وزارة الدفاع تراقب كل الوقائع والأعمال والتغييرات التي تجري في المنطقة". وأضاف البيان: "نؤكد أنه ليس هناك أي تهديد مباشر على الأمن العسكري للدولة".

وسبق أن اتهمت رئيسة مولدوفا مايا ساندو روسيا بالتخطيط لاستخدام "مخربين" أجانب لإطاحة حكومتها. وقالت في مؤتمر صحافي، في 13 فبراير/شباط الحالي، إن مخطط "المؤامرة" كان يشمل تنظيم "احتجاجات من قبل ما يسمى بالمعارضة" بهدف "قلب النظام الدستوري". وشددت على أن "محاولات الكرملين نشر العنف في بلادنا ستفشل".


مولدوفا تخشى من تكرار سيناريو أوكرانيا عبر اجتياح روسي لترانسنيستريا

ومن الواضح أن مولدوفا تخشى من تكرار سيناريو أوكرانيا عبر اجتياح روسي لترانسنيستريا، الإقليم المُعترف به دولياً كجزء من مولدوفا، وعاصمتها تيراسبول. مع العلم أن ثلاث "دول" أخرى غير معترف بها، اعترفت بترانسنيستريا دولةً مستقلةً.

و"الدول" هي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (إقليمان انفصاليان في جورجيا)، وأرتساخ "ناغورنو كاراباخ" (إقليم متنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا). وتنتشر القوات الروسية تحت عنوان "حفظ السلام" في ترانسنيستريا منذ عام 1995. وفي السنوات الأخيرة، زادت روسيا من وتيرة منح الجنسية الروسية لمواطني الإقليم الانفصالي.

ونتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي (في عام 1991) ظهرت خاصرة رخوة أخرى في مولدوفا، وهي منطقة غاغاوزيا، التي تتمتع بحكم ذاتي في جنوب غرب مولدوفا، وعاصمتها مدينة كومرات.

ويسكنها نحو 200 ألف من الأوغوز، وهم مواطنون من أصول تركية فرّوا من البلقان قبل قرابة ثلاثة قرون ويعتنقون المسيحية الأرثوذكسية، ويعيشون ضمن المجال الإعلامي الروسي ويدعمون أيديولوجياً "العالم الروسي".

وهم إثنية منفصلة لا علاقة لها بالمولدوفيين والسلافيين، وينتمون إلى مجموعة الشعوب التركية، وهم أقرب ثقافياً ولغوياً إلى الأتراك، كما يعتمدون على اللغة الروسية كثيراً.

 بوتين وتوكاييف في أستانة، 13 أكتوبر الماضي (Getty)
بوتين وتوكاييف في أستانة، 13 أكتوبر الماضي (Getty)

ونتيجة اختلاف اللغة، يعيش الأوغوز خارج الفضاء الإعلامي المولدوفي. وحسب الوضع القانوني الخاص لغاغاوزيا بعد منحها الحكم الذاتي تلافياً للمشكلات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعتمد في عام 1994، فإنه "في حالة حدوث تغيير في وضع جمهورية مولدوفا كدولة مستقلة، فإن شعب غاغاوزيا له الحق في تقرير مصيره والخروج من جمهورية مولدوفا".

قرغيزستان... بين الحياد والمخاوف

منذ الأيام الأولى للحرب، ذكرت وكالة "نوفوستي" الروسية أن الرئيس القرغيزي صدر جباروف دعم "العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا" (الاسم الروسي للغزو) أثناء اتصال هاتفي مع الرئيس فلاديمير بوتين، ما استدعى رداً من المكتب الصحافي للرئاسة القرغيزية، شدّد على أن بيشكك تؤيد تسوية سلمية للنزاع.

وفي إبريل/نيسان الماضي، أكد جباروف أن بلاده تتمسك بالحياد في الحرب بين موسكو وكييف، وجدد رفض بلاده الاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" الانفصاليتين الأوكرانيتين، ولاحقاً، رفضت بيشكك الاعتراف بضم روسيا الجمهوريتين ومنطقتي خيرسون وزابوريجيا في أوكرانيا.

ومنذ بداية الحرب، منعت السلطات الرسمية أي تظاهرة مع الغزو أو ضده. واستفادت قرغيزستان من تدفق بعض رجال الأعمال الروس والمختصين في مجال التقنيات العالية وغيرها.

ولا تبدي قرغيزستان مخاوف كبيرة من زيادة أعداد الروس لأنها ليست من الوجهات المفضلة، كما أن عددهم لا يزيد عن 340 ألفاً ولا يتدخّلون كثيراً في السياسة ويحظون بمعاملة جيدة، ويقدمون دعماً لاقتصاد البلاد. وبعد "التعبئة الجزئية"، فرّ إليها عشرات الألوف من الروس وغادر معظمهم إلى أماكن أخرى.


لم تدعم قرغيزستان الغزو الروسي لأوكرانيا

لكن خوف السلطات في بيشكك ينطلق من أنه جرى تجنيد عشرات من المحكومين بالسجن للقتال في أوكرانيا ضمن مجموعات "فاغنر"، إضافة إلى أن مرسوم بوتين لمنح الجنسية للمواطنين الأجانب في حال القتال مع الجيش الروسي، أثار مخاوف قرغيزستان وباقي بلدان آسيا الوسطى لأسباب عدة، أهمها الخوف من عودة شباب مدربين على السلاح لاحقاً في منطقة غير مستقرة، وتعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، ونشطت في التسعينيات فيها حركات متشددة.

وكذلك تشعر السلطات من الوضع القانوني للمتطوعين الطامحين لنيل الجنسية الروسية في حال وقوعهم في الأسر، وأخيراً إمكانية أن تستخدم روسيا لاحقاً مواطني هذه البلدان، بعد حصولهم على الجنسية الروسية، لإثارة قلاقل في بلدانهم الأصلية، أي آسيا الوسطى. وتسبّب هذا الخوف في إصدار جميع بلدان آسيا الوسطى بيانات لمواطنيها المقيمين في روسيا تحذرهم من المشاركة في الحرب على أوكرانيا.

كازاخستان الأكثر جرأة

على عكس المواقف الأخرى، وعلى الرغم من أنها استعانت بروسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي في بداية العام الماضي للمساعدة في الاستقرار ولسحق انتفاضة شعبية ضد السلطة، اتسم الموقف الكازاخي بأنه الأكثر جرأة ضد الغزو الروسي.

وربما يعود ذلك إلى تردي العلاقات في السنوات الأخيرة بين موسكو وأستانة على خلفية تصريحات أطلقها برلمانيون روس وإعلاميون محسوبون على بروباغاندا الكرملين، حول حق روسيا في المناطق الشمالية من كازاخستان، وأنها لم تكن دولة قبل احتلالها من قبل الامبراطورية الروسية، وأن الدولة السوفييتية منحتها أراضي كانت تعود لروسيا.

وزادت هذه التصريحات مخاوف كازاخستان، خصوصاً أنها استُخدمت سابقاً لتبرير ضمّ روسيا بالقوة شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، ودعم الانفصاليين في دونباس الأوكرانية (تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) ولاحقاً الحرب الأخيرة قبل عام في أوكرانيا.

وبعد أسبوع من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، دعا الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف موسكو وكييف إلى التفاوض، وشددت تصريحات المسؤولين الكازاخيين على ضرورة المحافظة على استقلال أوكرانيا وضمان سيادتها على كامل حدودها المعترف بها دولياً. وأكدت استانة أنها ستلتزم بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا بدقة.

وتعرضت علاقات البلدين إلى أقسى امتحان في الأزمة منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي، في الجلسة العامة لمنتدى سانت بطرسبورغ الدولي التي حضرها توكاييف، الذي كان الزعيم العالمي الوحيد الذي لبّى دعوة بوتين، وجلس إلى جواره.

وحينها، وعلى الرغم من الموقف المعروف لتوكاييف وجميع قادة الاتحاد السوفييتي السابق من قضية عدم الاعتراف بضم القرم واستقلال دونيتسك ولوغانسك أو أي كيان انفصالي في الفضاء السوفييتي السابق، أصرت مديرة الجلسة رئيسة تحرير "آر تي" مارغاريتا سومينيان على توجيه سؤال حول الموضوع.

فاضطر توكاييف إلى التأكيد أن بلاده لن تعترف بما وصفها "أشباه دول"، وأشار إلى تناقض في القانون الدولي بين مبدأين، هما مبدأ السيادة ووحدة أراضي الدولة، وحق تقرير المصير للشعوب. وأوضح أنه في حال اتباع المبدأ الثاني منفصلاً، فإن عدد الدول في العالم سيزداد إلى ما بين 500 و600 دولة مقارنة بقرابة 193 حالياً.


رفضت كازاخستان الاعتراف بضمّ المناطق الأوكرانية إلى روسيا

وشكّل الجواب إحراجاً لبوتين وسياسته من أقرب الحلفاء. وتلا التصريحات توتر شديد في العلاقات وتوقفت صادرات النفط الكازاخي عبر روسيا بذريعة عدم مراعاة القوانين البيئية تارة، ووجود مخلفات قنابل منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) تشكل خطراً على المنصات العائمة للتصدير في البحر الأسود، تارة أخرى.

وعلى الرغم من أن إيقاف الصادرات النفطية يشكل ضربة قوية للاقتصاد الكازاخي المعتمد بشدة على موارد الطاقة، فقد أصرت كازاخستان على موقفها واضطرت روسيا للتراجع لاحقاً عن هذه القرارات لأسباب سياسية واقتصادية.

وبعد لجوء أكثر من مائتي ألف روسي إلى كازاخستان هروباً من موجة التعبئة، عادت المشكلات بقوة بعدما كشف المسؤولون الكازاخ عن حجم الفارين من الخدمة، ومخاوف من زيادة عدد الروس البالغين قرابة 3.5 ملايين روسي في كازاخستان، وتمركز الروس الجدد في المناطق ذات الغالبية الروسية مثل مدينة ألماتا وغيرها. وشددت السلطات الكازاخية شروط الحصول على الاقامة الدائمة للروس.

وكما حال باقي بلدان آسيا الوسطى التي تدخل في تحالفات أمنية وعسكرية مع روسيا، يمكن أن يبرز خلاف قانوني مع كازاخستان بشأن تسليم الروس الفارين من التعبئة والخدمة العسكرية. ولهذا، قرر قسم كبير من الروس مغادرة كازاخستان نحو تركيا وجورجيا وأرمينيا وأوروبا إن استطاعوا.

طاجكستان وتركمانستان... محاولة حياد

بعد نحو أسبوع من اندلاع الحرب، قال وزير الخارجية الطاجيكي، سيروج الدين محي الدين، إن دوشانبه تؤيد إنهاءها في وقت مبكر. ولاحقاً، رفضت طاجكستان مشاركة مواطنيها في الحرب مع أي طرف، وحذرتهم مستعينة بآراء عدد من رجال الدين، الذين شدّدوا على أنه "يجب على المسلم اليوم أن يكون أكثر يقظة من أي وقت مضى. لا ينبغي لأحد أن يتدخل في النزاعات أثناء الكوارث والاضطرابات المختلفة التي تهدد التنمية البشرية". ومن جانبها، حافظت تركمانستان على حيادها وعدم إصدار مواقف حول القضايا الخارجية.

أذربيجان وأرمينيا... محاولة استغلال الحرب

حافظت أذربيجان على موقفها المحايد، ورفضت الاعتراف بضم المناطق الأوكرانية الأربع إلى روسيا، وقدمت دعما إنسانياً لأوكرانيا ومنحات من النفط مجاناً. وانتهزت فرصة انشغال روسيا بحربها على أوكرانيا لشنّ هجمات على القوات الأرمينية على الأرض، لتثبيت مواقعها في المناطق التي تعتبرها تابعة لها، حتى ولو خالف ذلك اتفاقات الهدنة برعاية وضمانة روسيا.

ولم تستقبل أذربيجان أي مواطنين من روسيا بعد بداية الحرب، أو نتيجة إعلان التعبئة، لأنها واصلت إغلاق معابرها البرية مع روسيا بسبب قيود كورونا التي لم يتم إلغاؤها.

أما أرمينيا فقد توافد إليها عدد كبير من الروس منذ بداية الحرب، وأصبحت مكاناً مفضلاً للعاملين الروس في قطاع التقنيات العالية، وازدادت الأعداد بعد إعلان "التعبئة الجزئية". وشهدت علاقات يريفان مع موسكو بروداً في العام الأخير، واقتراب أرمينيا من الاتحاد الأوروبي، الذي بدا أن دوره في تسوية الصراع في ناغورنو كاراباخ قد كبر على حساب التراجع الروسي.

المساهمون