شكّل التدهور الحاصل في الأوضاع المعيشية وانهيار العملة اليمنية، بالون اختبار لإعادة إحياء التظاهرات العفوية في مدينة تعز، لكن زخم الاحتجاجات الغاضبة، في سبتمبر/أيلول الماضي، تعرّض للانكسار، بعد اتهامات من السلطات الأمنية بالانحراف عن المسار السلمي، جراء قطع الشوارع بالإطارات المشتعلة وتمزيق صورة عملاقة للرئيس عبدربه منصور هادي. وأقرت السلطات، أواخر الشهر الماضي، باعتقال 17 متظاهراً. وتظهر حالة الهدوء السائدة منذ أيام أن البيان الذي أعلنته شرطة تعز، وزعمت فيه حصولها على اعترافات من المعتقلين بوجود أطراف دفعتهم إلى الفوضى وقدّمت لهم السلاح والمال، من دون إذاعة تلك الاعترافات المزعومة، أدت دوراً في اغتيال موجة الغضب الشعبي وتحوّلها إلى تظاهرات عابرة لا تحقق أهدافها، خشية من تُهم المساس بالأمن القومي.
انحسر الحراك الشعبي خلال سنوات الحرب في عموم المدن اليمنية، لتبقى تعز هي الاستثناء
ولا تقف الظروف الأمنية كسبب وحيد لخنق الاحتجاجات في مدينة تعز التي ترزح تحت الحصار الحوثي منذ 6 سنوات، بل تبدو كواحدة من جملة تعقيدات راكمتها سنوات الحرب، فضلاً عن ظروف أخرى حوّلت المساحة الجغرافية الصغيرة الخاضعة للحكومة المعترف بها دولياً، إلى مسرح نشط لأجندة إقليمية عابثة.
وانحسر الحراك الشعبي خلال سنوات الحرب في عموم المدن اليمنية، ففي صنعاء، باتت العاصمة حكراً لمهرجانات دينية وطائفية تدعو إليها السلطات الحوثية، فيما بدت الرسائل السياسية ومسيرات استعراض القواعد الشعبية هي العنوان الأبرز للخروج الجماهيري في مناطق نفوذ الحكومة المعترف بها دولياً أو "المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم إماراتياً. وكانت تعز هي الاستثناء الوحيد بين المدن، إلا أن الشارع الرئيسي واليتيم، وسط المدينة، ظل مسرحاً لفعاليات سياسية ذات أهداف عشوائية، ففي حين طغت شعارات التملق السياسي للسلطة الشرعية والأطراف الإقليمية على التظاهرات الرئيسية، حضرت الأهداف الضيقة والرسائل السياسية ذات الأفق المحدود، كعناوين لتظاهرات وتظاهرات مضادة تقف خلفها فروع الأحزاب داخل المدينة.
وعلى الرغم من تذبذب وتيرة موجة الاحتجاجات صعوداً وهبوطاً، إلا أن ناشطين يؤكدون أن الشارع في تعز يثبت فيها أنه لا يزال ناقماً على الطبقة السياسية والعسكرية الحاكمة، ويرفض التدجين الحاصل في كافة المدن، خصوصاً الخاضعة للحكومة المعترف بها دولياً.
دور سلبي للأحزاب
ساهمت الأحزاب السياسية في التشوهات التي أصابت الحراك الشعبي داخل تعز، وبعد أن كانت المدينة مصدر إلهام للمحافظات اليمنية الأخرى في تسليط الضوء على القضايا الوطنية، توارى الزخم الثوري بشكل لافت خلال سنوات الحرب، حتى إن احتجاجات سبتمبر الماضي ضد الجوع، لم تكن سوى صدى لما شهدته المكلا وعدن قبل ذلك بأيام.
انزلقت فروع الأحزاب في تعز إلى معارك جانبية حرفت الأنظار عن القضايا الوطنية، ودائماً ما كانت تُهم التخوين وتنفيذ الأجندة الخارجية تتطاير بمناسبة أو من دونها، وهو ما أوجد شرخاً كبيراً في العلاقة التي تجمعها مع بعض ضمن تكتل واحد تم استحداثه خلال سنوات الحرب، ويدعى أحزاب التحالف الوطني، أو مع الشارع، الذي فقد ثقته في القوى السياسية، خصوصاً الجماهير غير المؤدلجة. وخلافاً لحرب البيانات، لجأت أحزاب تعز إلى تفريخ كيانات وتكتلات سياسية وحقوقية تستخدمها كغطاء لإيصال رسائل مباشرة لبعضها في القضايا الحقوقية والسياسية والأمنية الداخلية، ومن وراء الستار كان يتم حشد القواعد الجماهيرية إلى الشارع للتنديد بقضية محلية صرفة، ثم الانزواء مجدداً.
تحت غطاء مكونات تحمل مسميات مختلفة، على رأسها "الهبّة الشبابية للتصحيح"، و"رابطة أسر الشهداء"، وحركة "يكفي"، تبادل "التجمع اليمني للإصلاح" و"التنظيم الوحدوي الناصري"، وهما أكبر فاعلين حزبيين داخل مدينة تعز، رسائل سياسية مضادة لا يمكنهما الإفصاح عنها في بياناتهما الرسمية، وعلى رأس ذلك المطالب بإقالة محافظ المحافظة، نبيل شمسان، أو القيادات العسكرية المحسوبة على حزب الإصلاح والتي تُتهم بالوقوف وراء الاختلالات الأمنية المتتالية. وينتقد شباب تعز، ومنهم أدهم الشرعبي، أداء الأحزاب الذي أفضى إلى تسميم الجو السياسي والمدني بشكل تام، ويقول، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن فروع الأحزاب في تعز انتهازية وتبحث عن مصالحها فقط.
وكشفت الاحتجاجات الأخيرة، حجم الهوة بين القوى السياسية وهموم الشارع، وبدلاً من أن تبادر هذه القوى إلى دعوة قواعدها للمشاركة في الاحتجاجات والعصيان المدني حتى تصحيح الأوضاع، خرجت أحزاب تعز تبارك التظاهرات غداة قمعها، واتفقت في بيانات منفصلة وخجولة على مشروعية التظاهرات، مع تفاوت في التعليقات على طريقة قمعها.
انزلقت فروع الأحزاب في تعز إلى معارك جانبية حرفت الأنظار عن القضايا الوطنية
ودائماً ما تكون الاحتجاجات الشعبية فرصة سانحة للأحزاب، للنيل من الحكومة الشرعية وسرد مطالبها المتراكمة، وكان الحزب "الاشتراكي اليمني" أكثر حدة في نقد الحكومة الشرعية والتحالف الذي تقوده السعودية، عندما أشار إلى أنه "لا خيار أمام اليمنيين سوى مقاومة من ينتزع خبزهم، ويدفع بهم في جحيم حرب مُهلِكة". وعلى الرغم من الرسائل الضمنية التي وجّهها نحو قوات الجيش وحزب "الإصلاح" في تعز بشكل خاص، شنّ "الاشتراكي" هجوماً لاذعاً على كافة اللاعبين الفاعلين في الأزمة، فحمّل "كل قوى السلاح المحلية المرتهنة لأجندات إقليمية، مسؤولية الانهيارات المتلاحقة في اليمن على مختلف المستويات، وفي مقدمتها قوى الانقلاب الحوثية ومن خلفها إيران، وكذا السلطة الشرعية"، التي وصفها بـ"الكسيحة"، ومن خلفها التحالف بقيادة السعودية.
وجاء بيان "الناصري" مطابقاً للبيان الصادر عن "الاشتراكي" في غالبية المضامين المتعلقة بقمع التظاهرات وانتقاد الحكومة الشرعية، إذ دعا "التنظيم الوحدوي الناصري"، الرئيس اليمني والتحالف، إلى "إيقاف التدهور المريع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والابتعاد عن السياسات الخاطئة القائمة على التوازنات والاسترضاء التي اتبعوها خلال السنوات الماضية وأثبتت فشلها، فلم تحقق نصراً ولا استعادت دولةً ولا حققت أمناً ولا استقراراً"، وفق تعبير البيان.
وكان "الناصري" أكثر مكاشفة، عندما أشار إلى أن السياسات الخاطئة "أضرت بالوطن والمواطن وأحدثت انقلاباً في المزاج والخطاب الشعبي الذي أصبح لا يحمّل الانقلابيين (الحوثيين) مسؤولية استمرار الحرب والمعاناة وتدهور الأوضاع في اليمن بقدر ما يحمّلها للسلطة الشرعية والتحالف الداعم لها بل ويوجه أصابع الاتهام إليهم"، لافتاً إلى أن خطورة هكذا خطاب "تكمن في أنه قادم من الحاضنة الشعبية للشرعية، وستكون له آثاره على مسار معركة التحرير واستعادة الدولة".
"التجمع اليمني للإصلاح" في تعز، أعلن هو الآخر تأييد المطالب السلمية للحراك الشعبي، لكن الرسائل التي أطلقها في بيانه، بدت أقرب للخطاب الرسمي الصادر عن السلطات الرسمية، فتجنّب المواجهة أو توجيه انتقادات لاذعة للشرعية كباقي الأحزاب، كما كان الأكثر توجساً من أجندة مشبوهة تتربص بتعز من خلال التظاهرات. في المحصلة، وباستثناء تأكيد "الاشتراكي" ضرورة "تكتل القوى الشعبية المدنية المتضررة من الحرب في كيان واحد ينتصر لليمنيين"، افتقدت مواقف جميع الأحزاب السياسية لأي موقف صارم مع الحكومة الشرعية، أو تحفيز حقيقي لقواعدها بضرورة استمرار التصعيد حتى تحقيق المطالب، كما حصل في الاحتجاجات التي شهدتها تعز خلال انتفاضة الربيع العربي في 2011، وكانت فيها تعز مهد الانتفاضة ضد النظام السابق.
بين العفوية والإسناد الحزبي
لا يفضّل خبراء وجود إسناد حزبي للتظاهرات من أجل ضمان استمراريتها. ووفقاً للكاتب الصحافي والناشط السياسي خالد عبدالهادي، فإن طابع العفوية وعدم التنظيم وغياب القيادة قد تقف وراء عدم توالي الاحتجاجات في المدينة. ويضيف عبدالهادي، في تصريحات لـ"العربي الجديد": "إذا افترضنا العامل الحزبي، فسنصطدم بمقدمة عكسية مفادها أن بعض الأحزاب ضد هذه الاحتجاجات أساساً (...) مع ذلك فعدم تسيير تظاهرات يومية لا يجيز الحكم بنهايتها، إذ ربما يتخذ المحتجون أياماً متفرقة ومحددة للتظاهر". وخلافاً للرأي السابق، يعتقد الكاتب والباحث أيمن نبيل، أن الاحتجاجات في تعز لا يمكن أن تستمر لفترة طويلة من دون مساندة من قوى منظمة، وهذا أمر صعب في تعز، لأن المدينة يسيطر عليها حزب قوي (عسكرياً وتنظيمياً) هو "الإصلاح".
ناشط سياسي: إشكالية حراك تعز تكمن في غياب أدوات ضغط فاعلة لتحقيق مطالب المحتجين
وفي ما يتعلق ببقية الأحزاب المختلفة مع "الإصلاح"، يرى نبيل، في حديث مع "العربي الجديد"، أنها مشاركة معه في الحكومة، وهي كذلك لم تعد تتواصل جيداً مع قواعدها، وغير مستعدة لمواجهة "الإصلاح" بنفسها شعبياً، وإن كانت مستعدة لتأييد أي طرف (باستثناء الحوثيين) يواجه "الإصلاح" وينهي السيطرة الإصلاحية على تعز وفشلها الإداري والأمني.
ويشير إلى تعقيدات أخرى تحول دون استمرار الحراك الشعبي، منها وضع المدينة الحساس والمربك جراء الحصار الحوثي من الجهة الشرقية وإمطارها برصاصات القناصة حتى اليوم، لافتاً إلى أنه يسهل في هذه الحالة وصم كل متظاهر بأنه يقدّم خدمة للحوثيين. ويضيف "على كل حال، هذا المزاج الغاضب في تعز ينتظر من يستثمره ويكسب التأييد الشعبي في المدينة لكي يسيطر عليها ويبطش بحزب الإصلاح، بينما الأخير مستمر في منهجه وعناده اللذين يدفع ثمنهما سكان المدينة الآن، وسيدفع الإصلاح ثمنه أيضاً إن لم يتدارك الأمور".
ويواجه "التجمع اليمني للإصلاح"، وهو أكبر حزب إسلامي داخل اليمن، اتهامات بالتحكّم في القرار العسكري والأمني داخل تعز، كما أن الخطوط الحمراء التي سردها البيان الأخير وظهر فيه متوجساً من الأجندة والمشاريع المتربصة، فُهمت بأنها رفض ضمني للتظاهرات، على اعتبار أنه سيكون من الصعوبة التحكّم في كل الشعارات التي ينادي بها المحتجون، وبالتالي منع الاحتجاجات بشكل كلي.
لكن "الإصلاح" رفض الاتهامات بتقديم دعم مطلق لاحتجاجات عدن ضد "المجلس الانتقالي" ورفضه تظاهرات تعز، وأشار في بيانه الأخير إلى أنه أصدر سلسلة بيانات ومناشدات للحكومة للقيام بترتيبات عاجلة تخفف عن كاهل المواطن والوقوف بكل وضوح إلى جانب المواطنين.
هذه النقطة، يؤيدها الكاتب والناشط السياسي عزوز السامعي، ويقول إنه "من الصعب الجزم بأن الإصلاح يرفض احتجاجات تعز، أو تشكيل رأي نهائي بهذه المسألة، خصوصاً أن الحزب أصدر العديد من البيانات التي عبّرت بوضوح عن دعم المطالب المتصلة بمواجهة الفساد، وتحسين الخدمات، فضلاً عن انخراط الكثير من شبابه ونشطائه في هذه الاحتجاجات". ويضيف السامعي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن "الإصلاح بالطبع حزب ذكي، ولا يمكنه المغامرة بالوقوف على الضد من المطالب الحقوقية للشارع". وفي حين يؤكد أن الاحتجاجات التي تشهدها تعز ليست عابرة أو مرتبطة بانفعالات آنية، بدليل استمرارها منذ أشهر، يرى السامعي أن إشكاليتها تكمن في غياب أدوات ضغط فاعلة لتحقيق مطالب المحتجين، وهو الدور الذي كان يفترض أن تمارسه القوى السياسية التي يبدو أنها تخلت عن الشارع، واكتفت بإطلاق بيانات أو تصريحات خجولة داعمة لهذه المطالب من حين لآخر.
حصار وأدوات ناقصة
تداخلت تعقيدات عدة في تكبيل الحراك السلمي الغاضب الذي تمتاز به تعز، وبعيداً عن الدور السلبي للأحزاب، يقف الحصار الخانق الذي تفرضه جماعة الحوثيين كسبب جوهري وراء خفوت الزخم الثوري. بدا الحصار الحوثي أشبه بنقطة النهاية التي تكبح الزخم الثوري داخل المدينة، وخلال الأشهر الماضية أصيبت سلسلة من موجات التصعيد في قضايا محلية مثل مكافحة الفساد أو الانفلات الأمني، بالشلل، مع تعاظم مخاوف الشارع من قفزة نحو المجهول أكثر مما هو حاصل الآن، والمغامرة بخلق وضع مضطرب يخدم الحوثيين بدرجة رئيسية.
قيادي في "الاشتراكي": السبيل الوحيد كي تستعيد تعز دورها الريادي يتطلب قبل كل شيء استكمال تحريرها من المليشيات الحوثية
يُرجع القيادي في "الاشتراكي"، الكاتب وسام محمد، انحسار الغضب الشعبي إلى أن أدوات التغيير أصبحت ناقصة بالنظر إلى طبيعة الظروف التي تمر بها تعز واليمن عموماً، لكنه يشير في المقابل إلى أن ما يُحسب لتعز أنها لا تزال حتى الآن ترفض الرضوخ وتقاوم مشروع الحوثي الذي يسيطر على قرابة ثلث مناطقها الريفية ويحاصر المدينة (مركز المحافظة) من ثلاث جهات. ويقول محمد، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تعز مجزأة إلى ثلاثة أجزاء، وهذه الأجزاء لا تستطيع الاتصال ببعضها (...) في الجزء الذي يبدو فيه الشارع فاعلاً تبرز مشكلة غياب القيادة الواضحة والتي لا بد أن تكون محل ثقة الغالبية، وهذا يعود إلى وجود أجندة إقليمية تحاول أن تعبث وأن تستثمر في الغضب، وهو شيء يولد نفوراً عاماً عند الشارع بحكم التسييس العالي للناس في تعز". ويضيف: "الأمر الآخر أن أفق تعز وطني، وهذا هو سر قوتها. وفي واقع التشرذم القائم اليوم والمشاريع المتصارعة، وهي مشاريع ما دون وطنية، من الطبيعي ألا نجد تعز تقوم بدورها المعهود".
ويشير محمد إلى أن السبيل الوحيد كي تستعيد تعز دورها الريادي "يتطلب قبل كل شيء استكمال معركة تحريرها من المليشيات الحوثية وتوحيد أجزائها خلف سلطة موحدة، ثم انبثاق مشروع وطني يعيد توحيد عموم اليمنيين خلف قضايا وأهداف موحدة". ويؤكد أنه من دون ذلك، ستظل تعز محتفظة بصمودها في وجه المشروع الحوثي، وأيضاً بعادتها في بعث الرسائل والقول إنها لا تزال على قيد الفعل والأمل، مقاومة لكل محاولات التدجين والهيمنة، وهذا أقصى ما يمكن عمله في الظروف الحالية.