منذ إبرام اتفاق التسوية في درعا والجنوب السوري عام 2018، الذي رعته روسيا وبموجبه توغّل النظام السوري والمليشيات الموالية لإيران في عموم محافظة درعا والجنوب، باتت درعا تحديداً بؤرة لفلتان أمني، عنوانه الرئيسي الاغتيالات. غير أن هذه الاغتيالات أصبحت في الآونة الأخيرة تأخذ منحى مختلفاً، باستهداف تجار ومهربي ومروجي المخدرات، المرتبطين بالأجهزة الأمنية للنظام.
وفي حين تعرّض النظام لعقوبات غربية بسبب تورطه بصناعة وتجارة المخدرات، تصدّر هذا الملف مسألة التطبيع العربي مع النظام وإعادة سورية إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، بالتفاوض مع النظام وإقناعه لإنهاء تصدير المخدرات والكبتاغون تحديداً إلى دول الجوار، لا سيما الأردن ودول الخليج.
اغتيال مرتبطين بالنظام السوري
ومع تزايد الاغتيالات أخيراً في درعا لتجار المخدرات، تُطرح تساؤلات عما إذا بات النظام يعمل على التخلص من الأدلة التي تثبت وقوفه وراء هذه الصناعة والتجارة. ويلحّ الأردن، الذي حمل لواء المبادرة العربية للتفاهم مع النظام على عدة ملفات منها الكبتاغون، على أن تنهي دمشق هذا الملف لتحقيق تقدّم أكبر في انخراط النظام في محيطه العربي، وتلك مبادرة قائمة من الأساس على مبدأ "خطوة مقابل خطوة".
برز أخيراً اغتيال مصطفى قاسم المسالمة الملقب بـ"الكسم"، متزعم مليشيا ترتبط بالأمن العسكري للنظام، بعبوة ناسفة
وبرز أخيراً اغتيال مصطفى قاسم المسالمة الملقب بـ"الكسم"، متزعم مليشيا ترتبط بالأمن العسكري للنظام، بعبوة ناسفة برفقة آخرين في التاسع من الشهر الحالي، وهو أحد أهم مروجي ومهربي المخدرات إلى الأردن، ومدرج على القوائم الأميركية والبريطانية للعقوبات منذ نهاية مارس/ آذار الماضي، على خلفية تسهيله هذه التجارة.
كما سجلت درعا يوم الجمعة الماضي اغتيال محمد الجنادي الملقب بـ"أبو مالك حمشو"، والذي يعمل أيضاً ضمن مجموعة محلية تتبع لفرع الأمن العسكري في مدينة نوى، ويُتهم بعمله في تجارة المخدرات وتهريبها. وسبقه في الشهر الماضي محمد قاسم الهنداوي المسالمة والشهر الذي قبله أحمد عيد الأكراد. ويتقاطع معظم من تعرضوا للاغتيال في الفترة الأخيرة في تعاونهم مع الأجهزة الأمنية للنظام، لا سيما الأمن العسكري، والعمل في ترويج المخدرات في الجنوب ودرعا تحديداً، وتهريب الكبتاغون إلى الأردن.
وأعلن الجيش الأردني، أمس الأول الأحد، إحباط محاولة تهريب كمية من المواد المخدرة محملة بواسطة طائرة مسيّرة آتية من الأراضي السورية إلى الأراضي الأردنية. وكانت عمّان قد نفّذت في 8 مايو/ أيار الماضي ضربات جوية داخل الأراضي السورية باستهداف مصنعين للمخدرات والكبتاغون تحديداً، ما أدى إلى مقتل التاجر مرعي الرمثان، مع جميع أفراد عائلته بمن في ذلك أطفاله. والرمثان مرتبط بمليشيات إيران ومحكوم في الأردن بتهمة ترويج وتهريب المخدرات.
قبل تلك الضربة، كان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي قد هدد بقيام بلاده بعمل عسكري لإنهاء التهديد الذي تشكّله تجارة الكبتاغون والمخدرات بالعموم للأردن. وبناء على ذلك ستكون فرضية أن يسعى النظام للتخلص من المتعاونين معه في تجارة الكبتاغون قائمة، في حال قرر الأردن الاكتفاء على الأقل بتنفيذ عمليات أمنية للقبض على مهربي المخدرات في الأراضي السورية، إلى جانب فرضيات أخرى تتعلق بتصفية المهربين أو مشغليهم أنفسهم بناء على مصالح خاصة تتعلق بهذه التجارة.
وأشار أيمن أبو نقطة، الناشط في "تجمع أحرار حوران"، وهو منصة إعلامية مهتمة بنقل أخبار محافظة درعا والجنوب السوري، إلى أن هناك ازدياداً في عمليات الاغتيال في درعا ومحيطها خلال الآونة الأخيرة، وأن جزءاً كبيراً من هذه العمليات مرتبط بتجارة المخدرات أو القائمين عليها.
أبو نقطة: غالباً من يقوم بعمليات الاغتيال سواء للمرتبطين بالنظام أو الذين يعملون بتجارة المخدرات، هم المعارضون
واستبعد أبو نقطة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن يكون النظام وراء هذه الاغتيالات، لكون هؤلاء ينفذون عمله بتجارة المخدرات على الأرض. ويضيف: "غالباً من يقوم بعمليات الاغتيال سواء للمرتبطين بالنظام أو الذين يعملون بتجارة المخدرات، هم المعارضون، أي عناصر وقيادات الفصائل السابقة، الذين بقوا في درعا وفضّلوا عدم الخروج للشمال السوري بعد تسوية 2018".
ولفت أيضاً إلى أنه "أحياناً تكون خلفية هذه العمليات حسابات داخلية بين العصابات والتجار، من خلال إزاحة البعض للبعض الآخر عن طريقه والتفرد بمنطقة معينة أو خط تهريب معين، فهناك من التجار الذين يريدون احتكار بعض طرق التهريب لصالحهم". وأضاف: "لا يمنع أن يقوم النظام ببعض الاغتيالات لكنها أيضاً لتصفية الحسابات، لكن في المقام الأول من يقوم بهذه الاغتيالات هم المعارضون، لكونهم يشعرون بالخطر المجتمعي الذي تشكله هذه التجارة على المجتمع، ومعرفتهم بتبعيتها بالمطلق للنظام".
روايتان لمقتل "الكسم"
من جهته، قدّم مصدر مطلع من درعا روايتين لحادثة مقتل الكسم ومن معه، قائلاً إن "الرواية الأولى تشير إلى أن النظام يقف وراء عملية الاغتيال، والسبب أن معلومات شبه مؤكدة تفيد بأن لؤي العلي، رئيس فرع الأمن العسكري في درعا، سيغادر منصبه في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهو يعمل حالياً على تصفية جميع قادة المليشيات الذين يعملون لصالحه، ممن كانوا ضمن صفوف فصائل المعارضة، وانضموا إلى الفرع بعد التسوية عام 2018".
وفي معرض هذه الرواية، أشار المصدر إلى أنه "في يوم الحادثة تم إرسال رتل إلى منطقة الشياح المتاخمة تماماً للحدود مع الأردن بذريعة مكافحة تهريب المخدرات، وكانت لدى الكسم شكوك بذلك". وأوضح أنه "كان من المقرر أن يتم اقتحام المنطقة التي كانت مخيماً للنازحين وتحوّلت إلى حي صغير عند الحدود، وذلك بمشاركة قوات من مليشيا عماد أبو زريق (مهرب مخدرات مدرج على اللوائح الغربية)، وأن العملية ستكون عبارة عن تفجير بعض المنازل من خلال العبوات الناسفة وتصوير الحادثة لبثّها عبر إعلام النظام ضمن رواية مكافحة المخدرات". وأضاف أن "العبوات المخصصة لهذه المهمة كانت في سيارة الكسم، ضمن رتل يُقدّر ما بين 15 و20 سيارة، لكن سيارته وحدها التي انفجرت، وصادف أن كان معه مراسل الإخبارية السورية وعناصر من صف ضباط الأمن العسكري".
الرواية الثانية، بحسب المصدر، تشير إلى أن سيارة الكسم تم استهدافها بمسيّرة من الجانب الأردني، فالرتل كان تحت أنظار الجيش الأردني في تلك المنطقة، مشيراً إلى اتفاق بين النظام وعمّان على تصفية عصابات تهريب المخدرات التي تعرفها المخابرات الأردنية وتعرف ارتباطها بأجهزة النظام الأمنية.
وأشار المصدر إلى أن تصفية الكسم تمت لكونه بات في عداد الأوراق المحروقة بعد إدراجه في لائحة العقوبات الغربية، ومن خلال ذلك يريد النظام تلميع صفحته أمام أجهزة المخابرات لا سيما الأردنية. ورأى أن "النظام لن يتخلى عن هذه التجارة التي تدر عشرات المليارات من الدولارات، وهو يعمل على جانبين، كسب المال، وفي الوقت نفسه ابتزاز الأردن ومن خلفه دول الخليج"، معتبراً أن "تصفية أسماء محروقة لا تعني أن النظام سيتوقف، لأن اليد الطولى لهذه التجارة في الجنوب السوري تعود للمليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة، والكسم وغيره من الأسماء مجرد أدوات للتنفيذ".
اتهامات للنظام بالوقوف وراء التصفيات
واتفق الحقوقي والقاضي السابق في درعا سليمان القرفان مع الكلام عن أن النظام يقف وراء هذه التصفيات، ولا سيما تصفية الكسم، "لكونه مدرجاً على قوائم العقوبات الغربية لارتباطه بعمليات ترويج وتهريب المخدرات، فالتخلص منه جاء ضمن طلبات مبادرة الدول العربية، والنظام قام بذلك ليبرهن للدول العربية عن صدق نواياه في الانفتاح على طلباتها ولا سيما لجهة محاربة تهريب المخدرات"، وفق قوله.
القرفان: الكسم صار يشكّل خطراً على كل المسؤولين المتورطين بعمليات تهريب المخدرات للدول العربية
وأشار القرفان، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "التخلص من الكسم من المؤكد أنه لم يأتِ في سياق نيّة النظام وقف صناعة وتجارة المخدرات، إنما ضمن سياق التخلص من الوجوه المعروفة والتي تعتبر شاهداً على الكثير من الملفات ولا سيما ملف صناعة وتجارة المخدرات". ولفت إلى أن "الكسم صار يشكّل خطراً على كل المسؤولين المتورطين بعمليات تهريب المخدرات للدول العربية، لذلك كان على النظام التخلص منه وتقديم ذلك كخطوة نحو مبادرة الدول العربية، في حين أن كل المعطيات توحي بأن تجارة وتصنيع وترويج المخدرات مستمرة بالوتيرة نفسها، وبالتأكيد لن يغلب النظام في إيجاد البديل عن الكسم في المرحلة المقبلة".
وكان تقرير لـ"معهد نيولاينز" للأبحاث، ومقره واشنطن، قد قدّر قيمة تجارة الكبتاغون في الشرق الأوسط خلال عام 2021 بحوالي 5.7 مليارات دولار. وأشار التقرير إلى تورط رئيس النظام بشار الأسد وأفراد من عائلته ونظامه بهذه التجارة إلى جانب شريكه الرئيسي "حزب الله" اللبناني. وهذا الرقم يشمل فقط قيمة تجارة التجزئة بالاستناد إلى قيمة المضبوطات التي حددها التقرير بـ420 مليون حبة من عقار الكبتاغون فقط.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد وقّع في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ميزانية الدفاع الأميركية لعام 2023 التي قدّمها الكونغرس، وتضمّنت قانوناً لمحاربة الكبتاغون الذي يصنعه النظام السوري. ويتضمّن مشروع القانون أنّ تجارة المخدرات المرتبطة بنظام الأسد تعتبر "تهديداً أمنياً عابراً" للحدود، ويطالب الوكالات الأميركية بوضع استراتيجية مكتوبة خلال مدة أقصاها 180 يوماً، لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات والاتجار بها والشبكات المرتبطة بنظام الأسد في سورية والدول المجاورة. ودخل القانون حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران الماضي، لكن لم يتضمن أي أدوات عسكرية.