- "ساعة يوم القيامة"، التي أنشئت بعد الضربات النووية الأمريكية واختبارات القنبلة الهيدروجينية، تعكس القلق المتزايد من حرب نووية، خاصة مع الحرب في أوكرانيا والتوترات بين الغرب وروسيا.
- بولندا، التي كانت تستضيف صواريخ نووية سوفيتية، تفكر الآن في استضافة أسلحة نووية من الناتو كردع ضد روسيا، مما يثير نقاشاً داخلياً حول جدوى وأمان هذه الخطوة ويعكس تغير الموقف العالمي تجاه الأسلحة النووية.
لم يكن إعراب الرئيس البولندي، أندريه دودا، في مقابلة مع صحيفة فاكت، أول من أمس الاثنين، عن استعداد بلاده لنشر أسلحة نووية ممنوحة من حلف شمال الأطلسي "ناتو" على أراضيها زلة لسان أو سوء تقدير، بل في سياق تزايد استحضار الحديث عن السلاح النووي والتلويح به في الخطابات الرسمية. وانطلاقاً من فكرة أنه سلاح ردعي يخشى كثيرون في الغرب مما يسمونه "سيناريو يوم القيامة"، خصوصاً لأن هذا النوع من الردع غير مضمون العواقب، مع تمدد "الأطلسي" نحو الحدود الروسية، في دول الشمال واسكندنافيا. ويعود استخدام مصطلح "ساعة يوم القيامة" الرمزي إلى عام 1947، ويشير بشكل أساسي إلى مدى اقتراب البشرية من الإبادة، أو بالأحرى إبادة نفسها.
وعندما انقشع غبار قنبلتي أميركا النوويتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في عام 1945، أصيب كبار الباحثين في عالم الفيزياء النووية والسياسة الأمنية بذعر وصدمة شديدين، لدرجة أنهم، وبمشاركة ألبرت أينشتاين وروبرت أوبنهايمر (أبو قنبلة أميركا النووية)، راحوا يشرحون خطر اندلاع حرب نووية عالمية. وفي عام 1947 قامت مجموعة الباحثين في الفيزياء الذرية بضبط ما سُمّي "ساعة يوم القيامة". ومع كل اقتراب لعقارب الساعة من منتصف الليل فإن الخطر يكون قد اتسع.
ومع قيام أميركا والاتحاد السوفييتي باختبار قنبلة هيدروجينية كانت "ساعة يوم القيامة" المفترضة علمياً تشير إلى دقيقتين قبل منتصف الليل. ومع توتر علاقة الولايات المتحدة بكوريا الشمالية في زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب 2017 راح الباحثون يحذّرون من أن خطراً وشيكاً غير مسبوق منذ 60 سنة، جراء مزيج من تغير المناخ والأسلحة النووية والهجمات السيبرانية والاستهزاء بالعلم، يقرّب البشرية من الفناء الحتمي. وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي ذهبت أدراج الرياح نظرية الردع النووي، إذ رأى العلماء في المجال أن ضرب دولة بسلاح نووي سيستدعي رداً نووياً، ولأجل مثل هذه المتوالية من الأفعال والرد عليها ارتفعت صرخات باحثي وعلماء الفيزياء النووية والأمن الدولي من أن ساعة يوم قيامة الأرض، بسبب الأسلحة النووية، صارت أقرب من أي وقت مضى.
صحيح أن الباحثين يعيدون عقارب ساعة القيامة النووية مع كل انفراجة عالمية، إلا أن الحرب في أوكرانيا وتزايد السجال بين الغرب وروسيا حول السلاح النووي أعادا ضبط العقارب في عام 2023 إلى دون 90 ثانية (دقيقة ونصف قبل منتصف ليل فناء البشرية) لشدة القلق من أن تنفلت الأمور حول "يوم قيامة نووي". ويعيد تصاعد نبرة الحديث عن الأسلحة النووية الفزع بين هؤلاء إلى ما كان عليه قبل الدقيقة ونصف الدقيقة التي وضعوها على ساعة سيناريو يوم القيامة النووي. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022 تصاعدت النبرة الروسية، ومنها على لسان رئيسها فلاديمير بوتين وساسة روس آخرين، حيال السلاح النووي واستخداماته، ولو على صورة ما يُسمى منه "قنابل نووية تكتيكية"، أي صواريخ وقنابل لديها مفعول التدمير الموضعي، وذلك ربطاً بـ"تهديد وجود روسيا"، بحسب أدبيات الكرملين.
وذهب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري ميدفيديف، إلى حد اعتبار أن لا معنى للعالم من دون روسيا. لكن الأمر لم يقف عند روسيا، إذا باتت دول غربية، منضوية في حلف شمال الأطلسي، لا تتردد في الحديث عن السلاح النووي بما في ذلك بولندا وحتى النرويج. وما طرحه دودا ليس جديداً في بولندا، إذ استضافت البلاد سابقاً صواريخ نووية سوفييتية تحت سقف "حلف وارسو" (1955 ـ 1991) في مواجهة الغرب.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وبالتالي تفكك "الستار الحديدي" (الحدود بين المعسكرين الغربي والشرقي، التي امتدت بطول نحو 7 آلاف كيلومتر، من أقصى الشمال الأوروبي إلى أقصى جنوبه) وانتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، ثم غزو روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014 وضمّها بالقوة، كُشف أن الاتحاد السوفييتي السابق أعدّ مع العسكريين البولنديين في ثمانينيات القرن الماضي "خطة لضرب الدنمارك بأسلحة نووية"، في سياق استهداف واحتلال دول أطلسية في الشمال الأوروبي، حسبما جاء في وثائق أرشيفية بولندية، نشرت بعضها الصحف الدنماركية.
وفي ذلك الوقت كانت الدنمارك مجهزة بمدافع أميركية قادرة على إطلاق القذائف النووية التكتيكية، وفقاً لما تكشّف بعد الحرب الباردة. كما كان للأميركيين سلاح نووي سراً في جزيرة غرينلاند الجليدية، في قاعدة ثولا، التابعة للسيادة الدنماركية، الواقعة على الحدود الكندية على مداخل القطب الشمالي. وترفض الحكومات المتعاقبة في كوبنهاغن، منذ انكشاف انتشار النووي في الجزيرة بعد عام 1992، قبول التحقيق في عمق الانتشار وتأثيراته على السكان الأصليين طيلة الحرب الباردة.
ومسألة انتشار الأسلحة النووية على حدود الغرب الشرقية والشمالية ليست جديدة. ومع أن دولاً غربية من "الأطلسي" طوّرت بنفسها ترسانة نووية، بقيت الأسلحة الأميركية على طول ما سُمّي "الستار الحديدي"، بما فيها النووية التكتيكية، تستدعي الاحتجاجات الشعبية، خصوصاً في ألمانيا الغربية سابقاً، وبقية الدول، في فترة التوتر التي أعقبت أزمة الصواريخ الكوبية 1962.
استضافت بولندا سابقاً صواريخ نووية سوفييتية تحت سقف "حلف وارسو"
عقيدة حلف الأطلسي النووية
تقدم عقيدة حلف الأطلسي ما يشبه "مظلة نووية" مع سيناريوهات استخدام الروس لأسلحة نووية ضد أراض أوروبية، مثل دولة من دول البلطيق السوفييتية السابقة (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا). ومن المفترض وفق أحد السيناريوهات أن يرد "الناتو" عبر ردع روسيا، التي تنشر صواريخ إسكندر في جيب كالينينغراد بين بولندا وليتوانيا، وهي صواريخ قادرة على حمل رأس نووي لمسافة 500 كيلومتر. والأسلحة النووية التكتيكية شكلت عنصراً أساسياً في استراتيجية حلف شمال الأطلسي الدفاعية أثناء العقود الأولى للحرب الباردة. تلك الاستراتيجية أرهقت بعض حكومات غرب وشمال غربي القارة الأوروبية بفعل ضغط الشارع الرافض لوجود أسلحة نووية. ومع ذلك تكشف تباعاً، بما في ذلك، جراء نشر وثائق ما بعد الحرب الباردة، بأن سلطة إطلاق أسلحة نووية في أوروبا كانت دوماً من مهمة الأميركيين، ما فتح سجالاً عن السيادة الأوروبية.
وتسود حالة من الخوف من الجار الشرقي الكبير، تساهم فيها التغيرات الكبيرة الحاصلة منذ بداية حرب أوكرانيا، والتصريحات الروسية المتعاقبة حول الأسلحة النووية واستخداماتها في ذلك بشكل أو بآخر، من دون إغفال أيضاً الدور الذي تؤديه الحملة الدعائية لشيطنة روسيا المتواصلة منذ 2022. وبولندا على سبيل المثال باتت ترى نفسها لاعباً رئيسياً في منطقة بحر البلطيق والجوار الأوكراني والبيلاروسي. ويفهم بعض ساسة بولندا أن حديث الروس عن نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا، غير بعيد عن حدودهم، يستدعي استحضار مظلة "الردع النووي الغربي". وليس سراً أن جيب كالينينغراد الروسي، الذي أقلق البولنديين لدوره التسليحي في البلطيق، أصبح تحت مجهر "الأطلسي"، بعد توسع رقعة انتشاره في ذلك البحر والشمال.
ويبدو الآن أن لهجة استدعاء ما يسمى "مبدأ المشاركة النووية"، تحت سقف "الأطلسي"، ليست مقتصرة على بولندا. وفي السياق، تعمل النرويج على توثيق العلاقة العسكرية مع الحليف الأميركي، خصوصاً في القواعد المستحدثة في أقصى شمالها، غير بعيد عن أسطول الشمال الروسي النووي في بحر كولا. ويترافق ذلك مع خشية تفسير الروس للوجود العسكري الأميركي في بقية دول اسكندنافيا بأنه يمهد لضربة قاصمة لهم.
التشنج مع روسيا وضعف معسكر خفض التسلح
غير أن موضوع نشر أسلحة نووية في بولندا، أثار قلقاً داخلياً، حسبما استشف من تصريحات رئيس الحكومة البولندية دونالد توسك، التي اعتبر فيها أن الموضوع بحاجة لمزيد من التفاصيل قبل الموافقة عليه، واصفاً تصريحات دودا بـ"الكبيرة والخطيرة للغاية". وشدّد توسك على ضرورة أن يكون سياسيو بولندا متأكدين تماماً من أن هذا ما يريدونه، لأن تشنج المواقف مع روسيا يتخذ أبعاداً ليست في مصلحة معسكر يعارض السلاح النووي، أقله ليس بمستوى وقوة معارضة أجيال من المحتجين على مدار ثلاثة عقود، على وجود السلاح النووي في أوروبا.
ويعود السبب إلى أن معسكر التسلح الأوروبي يتوسع من فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك ودول البلطيق، مروراً بشرق وجنوب شرقي القارة، إلى جانب بالطبع دولها الغربية. ويبدو أن التعاون مع الحليف الأميركي، الذي عاد ليوصف بأنه اليوم يؤدي دور حماية أوروبا مثلما فعل في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بات يفتح على الأقل أيضاً أبواب قبول التقاسم النووي في تحالف ضفتي الأطلسي، وهو القائم على أن الدول الأعضاء في التحالف الأطلسي والتي لا تمتلك أسلحة نووية لا يزال من الممكن أن تشارك في القرارات المتعلقة بها، ويُسمح لها باستخدامها بالتعاون مع الدول التي تمتلكها. وقد يبدو اتساع معسكر التسلح مرعباً، لكن معسكر تأييد استقبال الأميركيين بأياد مفتوحة ينطلق مما أقدمت عليه روسيا حين اتفقت مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، على نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا المتاخمة لبولندا وأوكرانيا، ليس بعيداً عن دول البلطيق وإسكندنافيا.
موضوع نشر أسلحة نووية في بولندا، أثارت قلقاً داخلياً، حسبما استشف من تصريحات توسك
وشيطنة العلاقة بروسيا، وتحالفاتها الصينية والإيرانية على وجه التحديد، تصب في نهاية المطاف في مصلحة الدعوات إلى إعادة تفعيل التسلح عموماً والنووي منه. كما أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وما نجم عنه من أزمة طاقة، دفع بقوى كثيرة في الغرب إلى الدعوة الصريحة باتجاه إعادة العمل بالطاقة النووية، بما فيها المفاعلات الموجودة فعلياً وتلك المنوي تشييدها. وبالنسبة للمعسكر المؤيد للأسلحة النووية، والتسلح عموماً، بدا الحد الفاصل لديهم في ما جرى في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022، حين تحدث وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو هاتفياً مع نظرائه في وقتها، الفرنسي سيباستيان ليكورنو والتركي خلوصي أكار والبريطاني بن والاس، لمناقشة النزاع في أوكرانيا. وقال شويغو يومها لنظرائه إن موسكو لديها معلومات استخباراتية تفيد بأن أوكرانيا ستستخدم "قنبلة قذرة" (قنبلة تقليدية تحتوي على مادة مشعة)، مؤكداً أن الأوكرانيين خططوا لتفجير القنبلة على أراضيهم وإلقاء اللوم على روسيا لجر "الناتو" إلى الحرب.
وتوالت بعد ذلك التقارير، بما فيها تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، عن أن أجهزة الاستخبارات الأميركية اعترضت اتصالات روسية تشير إلى أن القيادة العليا للجيش في البلاد كانت تناقش ما إذا كان سيتم استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لإبطاء التقدم الأوكراني. وصل الأمر بالأميركيين إلى رفع حالة التأهب، معتقدين أن روسيا ستزيّف هجوماً أوكرانياً على نفسها لاتخاذه كذريعة لاستخدام النووي التكتيكي في ساحة المعركة الأوكرانية لصد الهجوم المضاد. وباشرت واشنطن اتصالات مع بكين ونيودلهي وأنقرة لفرض ما يشبه عدم استهداف شحنات الأدوية والمعدات الطبية المضادة للإشعاعات النووية نحو أوكرانيا وعبر أراضي بولندا.
فعلياً استعد الأميركيون للأسوأ، وزوّدوا الأوكرانيين بأقراص اليود ومعدات قياس الإشعاع، وبتدريب الأطباء والممرضات على التعامل مع المرضى الذين تعرضوا للإشعاع، وساعدوا في وضع خطة طوارئ. ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، عملت مجموعة أميركية خاصة على مدار الساعة، خلال الأسابيع التي كان فيها الهجوم الأوكراني المضاد، ووصل تقييم خطر ضربة نووية إلى 50 في المائة. ومن وجهة نظر باحث الحرب في جامعة كوبنهاغن ميكيل فيدبي راسموسن، والتي عبّر عنها في تصريحات سابقة لصحيفة إنفورماسيون الدنماركية، فإن الحرب في أوكرانيا "أعادت بإلحاح مسألة الجغرافيا السياسية، وبالتالي عادت القنبلة النووية إلى الواجهة". وبرأيه فإنه "من المتوقع تماماً" أن تصبح الأسلحة النووية مع الحرب الأوكرانية، مرة أخرى جزءاً من السياسة الدولية. وراسموسن شغل سابقاً رئيس مكتب وزارة الدفاع الدنماركية، وهو عضو في العديد من مجموعات العمل التي تحلل سياسة الدنمارك الأمنية. مع ذلك، فإن بعض المراقبين المتفائلين يقرأون توتر الأمور بصورة أقل تشاؤماً، باعتبار أنه منذ عام 1945 لم تدخل القوى العظمى في حرب مباشرة بينها، وأن الأسلحة النووية ساهمت في الاستقرار والسلام.