رفع مناخ الترهيب الذي يستخدمه الرئيس التونسي قيس سعيّد للسيطرة على كل السلطات، خصوصاً القضاء، من منسوب التوتر في البلاد، فيما تلوح في الأفق نذر مواجهة مع المعارضة، التي قررت تحدي أحدث محاولات إسكاتها، عبر تأكيدها مواصلة الاحتجاج في شارع الحبيب بورقيبة غداً الجمعة، وذلك بعد أن أصدرت الحكومة قراراً يمنع التجمعات لمدة أسبوعين، مبررة قرارها بانتشار فيروس كورونا.
وستختبر المعارضة غداً الجمعة، الذي يصادف 14 يناير/ كانون الثاني، وهو يوم عيد الثورة الذي ألغاه سعيّد لأنه "تاريخ إجهاض الثورة"، بحسب تعبيره، وجعله في 17 ديسمبر/ كانون الأول، قوتها بمواجهة انقلاب سعيّد الذي يمضي في قراراته التي تعكس رغبته في التفرد بالحكم وإقصاء جميع الأصوات.
وكان خطاب سعيّد، أمام مجلس الوزراء، أخيراً، وحديثه عن قرب إصدار مرسوم لإصلاح المجلس الأعلى للقضاء، قد أثار غضب القضاة بسبب ما يعتبرونه استهدافاً لهم، ومحاولة متكررة لتشويه صورتهم، وسط مخاوف لدى هؤلاء من توجه سعيّد للسيطرة على القضاء بعد انفراده بباقي السلطات.
وبعد أن استخدم سلاح الخطف، واصل ضرب خصومه بسلاح القضاء، أخيراً، عبر إحالة 19 شخصية سياسية، من بينها رؤساء حكومات ووزراء ونواب ورؤساء أحزاب، على المحاكمة.
روضة القرافي: خطاب سعيّد ضد القضاة يؤدي إلى استباحتهم
كذلك تزايدت المخاوف من توجهه نحو سحب تنظيم الانتخابات والاستفتاء اللذين أعلن في 13 ديسمبر/ كانون الأول الماضي تنظيمهما هذا العام، من الهيئة المستقلة للانتخابات، بسبب تشكيكه في استقلاليتها، وسط تحذيرات من العودة إلى توظيف وزارة الداخلية في تنظيم الاستحقاقات الانتخابية.
منع التظاهرات بحجة مكافحة جائحة كورونا
ومع اقتراب ما كان يفترض أن يكون موعد الاحتجاج الكبير، غداً الجمعة في ذكرى الثورة، وكما كان متوقعاً في تونس، أصدرت الحكومة بحجة مكافحة جائحة كورونا، قراراً، أمس الأربعاء، بمنع التظاهرات لمدة أسبوعين، سواء في الفضاءات المفتوحة أو المغلقة. وأعلنت حظر تجوّل سيبدأ من الساعة العاشرة مساءً وحتى الخامسة صباحاً.
إلا أن هذا الأمر ووجه بالرفض من قبل المعارضة. وقال القيادي في "النهضة" محمد القوماني، لوكالة "رويترز"، إن الحركة ستمضي قدماً في الاحتجاج ضد سعيّد غداً الجمعة.
واتهم زعيما حزبين، ضما صوتيهما إلى الأصوات الداعية إلى احتجاجات الجمعة، الحكومة بإعادة فرض القيود الصحية لأسباب سياسية. وقال غازي الشواشي، الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي الذي يشغل 22 مقعداً في البرلمان: "سنكون في شارع الثورة (شارع الحبيب بورقيبة) للاحتجاج مهما كان الثمن. وقرار المنع سياسي".
وأعلن الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي أن هذا الإجراء يهدف "إلى منع التجمعات والتظاهرات، والإبقاء على المدارس مفتوحة في وجه مئات الآلاف من الطلبة والتلاميذ، فقط للتوقي من موجة غضب شعبي لم تجد (السلطة) لمواجهتها سوى التعلل بالأوضاع الصحية".
قلق أممي من تدهور حقوق الإنسان بتونس
وفي حوار لإذاعة الأمم المتحدة، الثلاثاء الماضي، عبّرت ممثلة المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تونس، إيولدي كانتي أريستيد، عن قلق الأمم المتحدة تجاه تدهور حقوق الإنسان في تونس.
ويظهر تدهور حقوق الإنسان من خلال أحداث متكررة، لعل أبرزها ما حدث لوزير العدل الأسبق ونائب ورئيس حركة "النهضة" نور الدين البحيري، واختطافه إلى مكان مجهول، ودون توجيه تهم محددة له إلى غاية اليوم، برغم أن سعيّد يؤكد أن هناك وثائق مؤكدة تدينه. واعتبر الرئيس أنّ مصير البعض هو الأحكام المشددة، متهماً إياهم بارتكاب خيانات والارتباط بدول غربية، وملوحاً بعقوبة الإعدام.
لكن القلق الذي عبّرت عنه أريستيد، توسع كثيراً في تونس، ورفع من منسوب التوتر والخوف من انزلاق البلاد إلى المجهول، خصوصاً بعدما شملت هجمات سعيّد الجميع، الإعلام والأحزاب والقضاء والتجار، في خطاب متشنج يكاد يتحول إلى تحريض مباشر على هؤلاء.
ومع التصويب المستمر على القضاء، ارتفعت مخاوف القضاة كثيراً. وأوضحت الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة التونسيين روضة القرافي، أنّ "ما نرصده في الآونة الأخيرة تواتر أسلوب رئيس الجمهورية في الضغط، وتوجيه الاتهامات بالفساد، والتقصير الشامل للقضاة، وحتى بألفاظ الازدراء. ولا يمكن أحداً أن يصدق أن الفساد أو التقصير يمكن أن يشمل أكثر من 4 آلاف قاضٍ في تونس".
استهداف القضاة يؤدي إلى استباحتهم
وأضافت القرافي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "هذا الأسلوب في الاتهام الشامل تحول إلى أسلوب هرسلة (استهداف). ولا يكاد تصريح لرئيس الجمهورية، أو اجتماع، يخلو من اتهام موجه إلى القضاء. إنّ هذا الخطاب الضاغط، المقلل من شأن القضاة ومن اعتبارهم، يؤدي إلى استضعافهم واستباحتهم".
وأشارت إلى أنّ "ما لاحظناه أنّ خطاب السلطة مؤثر بطبيعته ويلقى صدىً ويُترجم في تعبيرات على مستوى الشارع". وأوضحت أنّه "تشكلت مجموعات مشبوهة تستند إلى ذلك الخطاب، وأعلنت أنها ستهاجم المجلس الأعلى للقضاء يوم 14 يناير. وسبقها الإعلان عن مجموعات تنشط على شبكات التواصل الاجتماعي دعت إلى اكتساح المحاكم أيضاً. وهذا يبين لأي مراقب نزيه أنه على علاقة مباشرة بخطاب السلطة التنفيذية العنيف والضاغط على القضاء".
واعتبرت القرافي أنّه "في هذا السياق من التخويف والترهيب، أصبحنا نخشى كثيراً من المساس بأداء مؤسسة القضاء والقضاة والاستقلالية. ونخشى كذلك من منزلق العنف المادي والجسدي ضد القضاة وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء".
وتابعت: "نحن في مرحلة مخيفة تجاه القضاء. لسنا من دعاة التغطية على الفساد، ولكن الفساد هو لدى بعض القضاة، ولا يمكن أن يقتنع أحد بأن الفساد معمم على 4 آلاف قاضٍ تونسي، ورئيس الجمهورية لديه كل السلطة على جهاز الرقابة، وهو التفقدية العامة، ليتم العمل على هذه الملفات بشكل جدي وتنتهي إلى تتبعات تأديبية أو حتى جزائية".
أيمن البوغانمي: الحياة السياسية تدور حول مزاج الرئيس
وقالت: "نحن مع أي مسار شفاف للمساءلة، ومع ضمان المحاكمة العادلة ودون ضغوط، وتوفير الإمكانات للدوائر المتخصصة. هذا ما سيقود فعلاً إلى نتيجة". وأضافت: "أما أن نحوّل هذا الخطاب الضاغط، من دون العمل بما يمكن أن يؤتي بنتائج لمحاربة الفساد، فإنه يصبح في إطار حملة لتهيئة الرأي العام للاستيلاء على مؤسسة المجلس الأعلى للقضاء، والعودة من جديد إلى تنظيم ملف القضاء من طرف السلطة التنفيذية".
العودة إلى نظام التبعية
وبيّنت القرافي أنّ هناك "سعياً للمساس بكامل المنظومة التشريعية في هذا الظرف الاستثنائي، على أساس العودة إلى نظام التبعية الموجود في دستور 1959، والذي يحبه رئيس الجمهورية ولا يخفي ميله لذلك التصور، حيث كان القضاء تابعاً، ولم يؤسس لقضاء يحمي التونسيين من نظام الاستبداد والفساد".
واعتبرت أنه "عندما يترك رئيس الجمهورية وسائل وآليات محاربة الفساد، ويذهب إلى إعادة صياغة التشريعات، فإنه يقود الحملة لإيجاد الذرائع والمبررات للاستيلاء على المؤسسات القضائية، وإعادة تشكيلها بما يمكنه من وضع اليد عليها، سواء المجلس الأعلى للقضاء أو إدارة العدالة والمحاكم أو رئاسة النيابة العمومية، وكلها مآلات أصبحت الآن ممكنة".
وشددت القرافي على أنّ "وضع القضاة الآن مخيف جراء هذه الحملات. ونحن إزاء تهديد بالعنف المادي، وكل شي متوقع في تلفيق التهم وإعداد الملفات. والمناخات الآن هي مناخات خوف وتراجع مساحات التعبير أمام القضاة". وحمّلت "رئيس الجمهورية ووزير الداخلية (توفيق شرف الدين) تبعات ما يمكن أن يحصل لأمن وسلامة القضاة وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء".
والثلاثاء الماضي، ندد حزب "حراك تونس الإرادة"، باستهداف الأمن لمنسقه المحلي في بني حسان بولاية المنستير بسبب نشاطه السياسي. وطالب، في بيان، النيابة العمومية بـ "التحرك فوراً لردع المخالفين والتزام الجميع القانون. كما نحمّلها ونحمّل المعتدين سلامة المنسق المحلي التابع للحزب، ونحذر من مغبة جرّ البلاد إلى مربع القمع ومخالفة القانون واستهداف الناشطين السياسيين".
يصعب التنبؤ بمستقبل تونس
وأمام هذا الوضع الضبابي، اعتبر المحلل السياسي، أيمن البوغانمي، في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "الحياة السياسية في تونس، انطلاقاً من التراكمات والوقائع الأخيرة أصبحت عبارة عن حالة شقاق وصدام مفتوح بين الرئيس وجماعته وبين البقية، لأنه حتى من أغرته 25 يوليو/تموز نفّرته 22 سبتمبر/أيلول، وجزء كبير منهم قطع جسور العلاقة مع الرئيس، مثلما حصل مع التيار الديمقراطي مثلاً".
وأشار البوغانمي إلى أنّه "يصعب التنبؤ بمستقبل الوضع، لأنّ تونس تسير خارج الأطر الدستورية والأعراف الديمقراطية التي على أساسها نتنبأ. والمشكل أنه في غياب آليات قانونية، وآليات لحلّ الأزمة، لا نستطيع وضع تصور لما سنقبل عليه، لأنّ الحياة السياسية أصبحت تدور حول مزاج الرئيس وتصريحاته وقراراته".
وبيّن أنّ "هذه الوضعية المتأزمة يمكن أن تستمر لوقت طويل، كما يمكنها أن تتغير في أي لحظة". وشدد على أنه "من الأكيد أن الوضع الحالي لا يستطيع أن يستمر، ولا يستطيع أن يؤسس لأي شيء إيجابي يذكر. كل الاحتمالات ممكنة، فما سُمِّي خريطة طريق، التي أعلنها الرئيس، غير قابلة للتنفيذ".
وقال البوغانمي إنّ "طريقة اختطاف البحيري قطعت جسوراً جديدة بين سعيّد وخصومه التقليديين، الذين يشعرون بالخطر من أن ما حصل عبارة عن بالون اختبار، قد يتم تعميمه".
وأضاف أنّ "البحيري شخصية تقسم الرأي العام، وهناك من شمت فيه على مواقع التواصل. ولكن السياسيين يعلمون أن ما حدث مع البحيري ليس النهاية، بل قد يكون البداية، وقد يشملهم ما شمله، وهو ما جعل الرئيس يتفاجأ برفض عموم السياسيين لما حصل للبحيري".