فُتح ملف عائلة الرئيس الأميركي جو بايدن وارتباطاتها المالية، على مصراعيه، كما يبدو، وهو ملف لن يغلق قريباً، مع عقد الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي، أول من أمس الخميس، أول جلسة استماع في قضية بدء إجراءات ملاحقة الرئيس بهدف عزله. ويتهم الجمهوريون بايدن بالانتفاع من أعمال عائلته التجارية، أو التأثير عليها لمراكمة الأموال، لا سيما حين كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما.
لكن ملف العزل، والذي يحتدم فيما تقف الولايات المتحدة على شفير أزمة جديدة إذا ما فشل الكونغرس في التوصل إلى اتفاق بشأن الميزانية، يعكس احتدام الصراعات داخل واشنطن بين الحزبين، واحتدام المنافسة تحضيراً لانتخابات الرئاسة والكونغرس العام المقبل، والتي يتداخل فيها الشخصي بالعام، في وقت يسعى الكونغرس الذي يختزل كل الانقسامات، إلى أن يستغل كل سلطاته، للتأثير على هذه المنافسة.
وعندما وصل بايدن إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2021، كان يأمل أن يستغل خبرته كسيناتور مخضرم، في التعامل مع الجمهوريين في الكونغرس، رغم بروز عدد من المشرعين المحسوبين على سلفه دونالد ترامب، ومن التيار اليميني المتطرف.
ومرّ عام 2021 حيث تمكن بايدن من تخطي بعض الحواجز، وإقرار تشريعات تعتبر في صلب أجندته، لكن هذا "التسليك" مع الحزب الخصم سرعان ما تبدّد. إذ فيما تتجه واشنطن نحو إغلاق حكومي جزئي يبدو حتمياً، يرى بايدن نفسه، وسط "حرب أهلية" جمهورية، بين تيار يريد أن عرقلة كل شيء، مصوباً على محاكمة الرئيس، بعد واقعتي محاولة عزل ترامب، وآخر يعمل بأجندة انتخابية قبل عام من انتخابات الرئاسة والكونغرس، ما يجعل بايدن ضحية نظرية "البطة العرجاء" في العام الأخير من ولايته، ومجهر ملاحقة في الكونغرس بدأ يوسع مطاولة أعمال العائلة.
تلقى جايمس وهانتر بايدن أموالاً من شركة نفط صينية
وكان ترامب قد أثار خلال ولايته (2016 - 2020) الحديث عن أعمال نجل بايدن، هانتر، في أوكرانيا والصين، ما جعله يلاحق من قبل الديمقراطيين في الكونغرس بهدف العزل في ما عرف بـ"أوكرانيا غيت"، عندما لوّح ترامب بحجب المساعدات عن كييف حتى تفتح تحقيقاً بشأن خصمه آنذاك في الرئاسة لعام 2020، بايدن. أما بايدن، فيحاول اليوم عدم إظهار أي توتر بشأن قضية العزل، رغم أن أثرها قد يكون كبيراً على سمعته السياسية وعلى استطلاعات الرأي التي تقول دائماً بانخفاض شعبيته، ورأي الناخبين السلبي بأدائه وبشأن كبر سنّه.
أولى جلسات الاستماع
وأطلق الجمهوريون، أول من أمس، جلسات استماع في مساعيهم لعزل الرئيس، في تصعيد لتحقيق مرتبط بالفساد بدأ قبل 8 أشهر وفشل في الكشف عن أدلة على أي مخالفات ارتكبها بايدن. وأكد الشهود، الذين تمّ الاستماع إليهم الخميس، أن لا أدلة بعد على تورط بايدن بأعمال ابنه، فيما نصح آخرون بضرورة التوسع في ملاحقة حسابات العائلة المصرفية.
ويقول الحزب الجمهوري، بما في ذلك رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي، إن المعلومات التي جمعها التحقيق تستوجب جمع تحقيقات عديدة ضمن تحقيق رسمي واحد يتمتع بالسلطة اللازمة ليطلب محققون من 3 لجان في مجلس النواب مذكرات لإحضار سجّلات بايدن المصرفية. وعندما أعلن مكارثي إطلاق إجراءات العزل، في شهر سبتمبر/أيلول الحالي، اتُهِم من قبل الديمقراطيين بأنه ينصاع لضغوط المتشددين المحافظين.
وينص الدستور الأميركي على أنه بإمكان الكونغرس إزاحة الرئيس في حالات "الخيانة أو الرشوة أو غير ذلك من الجرائم والجنح الكبيرة". ويقود العزل (وهو المعادل سياسيا لتوجيه الاتهامات الجنائية) في مجلس النواب إلى "محاكمة" في مجلس الشيوخ، فيما يخسر الرئيس وظيفته حال إدانته. ويسيطر الديمقراطيون بأغلبية سيناتور واحد على مجلس الشيوخ المؤلف من مائة عضو، ويحتاج العزل إلى موافقة ثلثي المجلس، ما يجعله شبه مستحيل. لكن الجمهوريين مصممين على المضي قدماً في إجراءاتهم، رداً على ملاحقة رئيسهم السابق، ولزيادة الضغوط على بايدن قبيل الانتخابات.
وعقدت لجنة الإشراف التابعة لمجلس النواب أول جلسة استماع صباح الخميس، وصفها الجمهوريون بأنها "دورة تنشيطية".
وقام التحقيق حتى الآن على طلبات إحضار سجلات مصرفية تقع في أكثر من 12 ألف صفحة من أفراد عائلات بايدن وشهادات استمرت ساعات من مساعدي هانتر التجاريين ومحققين فيدراليين. كما قدّم الجمهوريون شريكاً تجارياً سابقاً لهانتر بايدن يدعى ديفون آرتشر على أنه شاهد رئيسي يمكنه تقديم أدلة دامغة على أن الرئيس تربّح عن طريق علاقات نجله. ولدى الضغط عليه بشكل متكرر، أفاد آرتشر بأنه لم ير أو يسمع قط بايدن الابن يناقش تعاملاته التجارية مع والده، لكنه أكد أن الرئيس تحدّث إلى مساعدي نجله في العديد من الاتصالات الهاتفية العائلية، وقال إنه يظن أن هانتر "كان يبيع وهماً" بشأن والده.
وذكرت شبكة "أن بي سي" أمس، أن رئيس لجنة الإشراف النائب الجمهوري جايمس كومر، أقرّ بعد 6 ساعات من الاستماع، أن الجمهوريين لم يتوصلوا بعد إلى أي أدلة تدين بايدن، لكنه وضع اللوم في ذلك على عرقلة التحقيق الأول الذي قاده مجلس النواب "ما يجعل تحقيق العزل ضرورياً". وقال كومر إن اللجنة ستطلب سجلات الحسابات المصرفية من هانتر بايدن وشقيق الرئيس، جايمس، والشركات التابعة لهما. وأعلنت اللجنة أن كومر فعلاً أصدر مذكرات للحصول على سجلات مصرفية لهانتر، وجايمس، وشريك للأخير هو إريك سكويرين، بالإضافة إلى خمس شركات ترتبط بهم. واستدعت اللجنة 3 شهود، قالت "أن بي سي" إنهم بمثابة خبراء أكثر من كونهم حاملي أدلة. وقال أحد الشهود – الخبراء، أستاذ القانون، جوناثان تورلي، إن الأدلة المفقودة تتعلق بمسألة "ممارسة النفوذ" من قبل بايدن، لإثراء العائلة.
أموال ومكالمات ونكات
وجاء التقرير الذي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، ليزيد متاعب بايدن التي لا يزال غير معترف بها، إذ قالت إن "فحصاً" أجرته، أظهر أن استغلال مسار بايدن السياسي من قبل عائلته، يتخطى ابنه هانتر. ورأت أنه طوال 5 عقود بالعمل السياسي، بنى بايدن سمعته السياسية، على جذور عائلته من الطبقة العاملة، لكن مع الوقت، فإن أفراداً من عائلته استثمروا في صعوده السياسي عبر ذكر اسمه لدعم أعمال لهم وصفقات تساوي ملايين الدولارات. وأقرّت "وول ستريت جورنال" بأنها لم تصل إلى أدلة على أن بايدن استفاد مالياً من أعمال عائلته التي اعتمدت على اسمه، ولكن "في مرات قليلة قبل أن يتبوأ الرئاسة، كان جو بايدن حاضراً في أعمال العائلة أكثر مما هو أو أفراد عائلته اعترفوا بذلك".
وقالت "وول ستريت جورنال" إن شقيقي بايدن، جايمس وفرانسيس، سعيا إلى الاستفادة من هذا الرباط العائلي، بحسب مقابلات لها وسجلات حكومية اطلعت عليها. وبحسب مساعدين سابقين في أعمال العائلة، فإن أفراداً في عائلة بايدن كانوا يتلقون اتصالات من جو بايدن خلال اجتماعاتهم وأحياناً يدخلونها في هذه الاجتماعات، وهي ممارسة فهمها بعض من شهدوا عليها، بأنها محاولة منهم لتظهير علاقتهم بالسلطة. وبحسب هؤلاء، فإن المحادثات مع جو بايدن غالباً ما كانت تقتصر على تبادل النكات، ويقول مسؤولون في البيت الأبيض إن الرئيس غالباً ما يهاتف أفراد عائلته للاطمئنان عليهم. وأكدت الصحيفة أنه في بعض الأوقات، فإن الشركاء التجاريين كانوا يصابون بالخيبة عندما لا يفلح اسم بايدن في اختراق الأسواق.
وروت الصحيفة أن الصفقات التي حاولت الاعتماد على اسم بايدن، تتضمن واحدة مع شركة رعاية صحية وعد جايمس بايدن بتوسعتها بناء على علاقة جو بايدن القوية مع النقابات والوكالات الحكومية، وذلك بحسب دعوى تذكر اسم جايمس بايدن كمدعى عليه. وفي صفقة أخرى، بحسب "وول ستريت جورنال"، فإن جايمس بايدن كان مديراً في شركة سعت لبناء ألف منزل في العراق حين كان جو بايدن نائباً لأوباما، وفي بعض الصفقات، بما فيها في أوكرانيا والصين، فإن قطباً في مجال الأعمال كان يبني علاقة مع أحد أفراد العائلة، سعياً أحياناً لتجنب إجراءات تدقيقية.
انضم بايدن لمكالمات هاتفية عدة مع شركاء عائلته التجاريين
وفي مرات أخرى، يتعمد أفراد من عائلة بايدن، إسقاط اسم جو بايدن في أي محادثة. فمثلاً، شقيق الأخير الأصغر، فرانسيس (معروف باسم فرانك)، الذي عمل مع شركة "فيديرال سيغنال" الصناعية في إيلينوي لمساعدة الشركة على التواصل مع نواب في فلوريدا، كان مراراً يقطع اجتماعات في الشركة ويقول إنه عليه أن يأخذ مكالمة من "الرجل الكبير" كما كان يصف جو بايدن، وذلك بحسب ماثيو برادي، أحد العاملين السابقين في الشركة، الذي ردّ مرة بـ"عظيم، فأخوك هو نائب الرئيس".
وقالت الصحيفة إن اسم العائلة ساعد جايمس وهانتر بايدن (وهما صديقان مقربان أيضاً) عندما استحوذا على صندوق للمضاربات (باراديغم غلوبال أدفايزر) في عام 2006. حينها أكد الرجلان للخبير في "وول ستريت" تشارلز بروفيني، أنهما لا يملكان خبرة في المضاربات، لكنهما لديهما علاقات مع اتحادات نقابية مختلفة، بحسب ما أكد بروفيني للصحيفة، مضيفاً أنهما قالا إن هذه العلاقات تنامت بسبب مسيرة جو بايدن السياسية. وأكد بروفيني أنه في بعض الأحيان كان جو بايدن ينضم إلى محادثة بينه وبين جايمس وهانتر، عبر الهاتف. وقال: "في ذلك الوقت، كنت تحت تأثير نجوميته، واعتقدت أن كل ما كان يقول مزحات، ولكن اليوم أرى أنها كانت لإضفاء المصداقية".
وبعد أشهر من مغادرة بايدن منصب نائب الرئيس، بنى جايمس وهانتر علاقات قوية مع شركة نفط صينية (سي أف أف سي تشاينا إنرجي)، وأكدت تحويلات مالية نشرها جمهوريون في الكونغرس عام 2020 أن الرجلين حصلا على أموال من هذه الشركة، غطت بعض مصاريف بطاقاتهما الائتمانية وكانت المصدر الأساسي لـ20 تحويلا ماليا بأكثر من مليون دولار، لمجموعة "ليون هول" الاستشارية التي يديرها جايمس بايدن.
وأكدت الصحيفة أن أكثر أعمال العائلة تحت المجهر هي أعمال هانتر في أوكرانيا والصين، وقالت إن هانتر بايدن تلقى ملايين الدولارات مقابل ما قال إنه الحصول على "علامة" بايدن. وقد دفعت له شركة "بوريسما" الأوكرانية للطاقة مليون دولار، ليكون ضمن مجلس إدارتها بين 2014 و2019، عندما كانت تخضع لتدقيق تنظيمي. وكان من بين أعماله التواصل مع شركات صينية، وقد حصل منها على أموال بحسب الصحيفة وسجلات مصرفية.
مقابل كل ذلك، قللت إدارة بايدن من أهمية المساعي لعزل الرئيس، على اعتبارها مجرّد "حيلة" جمهورية. بدوره، يواصل بايدن استخدام سرديته المفضلة، وهي التحذير من الخطر الذي تواجهه الديمقراطية الأميركية، إذ رسم أول من أمس، مجدداً، صورة قاتمة بشأن ذلك عبر ترامب مباشرة. وقال بايدن إن أيديولوجيا خصمه الجمهوري والمحافظين الذين يدعمونه وأنصاره "تهدد جوهر أمتنا"، مضيفاً من أريزونا، أن "الديمقراطيات لا تموت بالضرورة بقوة السلاح. يمكن أن تموت عندما يلتزم الناس الصمت، عندما لا يتحرك الناس أو عندما لا يدينون الهجمات على الديمقراطية، عندما يكون الناس مستعدين للتخلي عن أغلى ما لديهم لأنهم يعانون الإحباط وخيبة الأمل والتعب والشعور بالإقصاء".
في غضون ذلك، ذكر تقرير لوكالة "أسوشييتد برس"، أن أسماء في الحزب الديمقراطي، مثل حاكم بنسلفانيا جوش شابيرو، وحاكمة ميتشيغن غريتشين وايتمر وحاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم، بدأوا يتوجهون إلى الناخبين في التجمعات، ويؤكدون دعمهم لبايدن، في مواجهة رئاسية صعبة العام المقبل قد تكون أمام ترامب مجدداً، لكن عيونهم فعلياً على خلافة بايدن والترشح للرئاسة في 2028.
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس، أسوشييتد برس)