سرّعت حكومة مصطفى الكاظمي من إجراءات التحقيق في ملفات قتل المتظاهرين العراقيين، واستخدام العنف المفرط من قبل قوات الأمن في مدن جنوب ووسط البلاد، فضلاً عن العاصمة بغداد. وقد استدعت العشرات من الضباط وأفراد الأمن للتحقيق معهم، كما كشفت عن إدانة أول ضابط أمن بالسجن لمدة ست سنوات بتهمة قتل متظاهر في مدينة البصرة العام الماضي. ويأتي هذا وسط تساؤلات عن سبب تجاهل الحكومة الجزء المتعلق بالفصائل المسلحة، والتي استخدمت هي الأخرى وسائل قتل مختلفة طوال فترة التظاهرات الماضية، إذ إن هناك دعاوى قضائية قدمها أهالي الضحايا، من متظاهرين وناشطين، اتهموا فيها شخصيات في فصائل مسلحة بقتل أبنائهم.
ووفقاً لمرصد "أفاد"، المعني بالقضايا الحقوقية في العراق في إحصائية سابقة، فقد تجاوز العدد الكلي لضحايا التظاهرات منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 ولغاية نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، عتبة الـ 762 متظاهراً. كما تم تسجيل إصابة نحو 27 ألف متظاهر، منهم نحو 900 سترافقهم إعاقات دائمة وتشوهات ومشاكل صحية مدى الحياة. وأشار المرصد إلى أن مدن بغداد والناصرية والبصرة تتصدر عدد الضحايا في العراق.
ستصدر أحكام جديدة بحق أفراد وضباط أمن بتهمة قتل متظاهرين
ولم تصدر السلطات العراقية المختصة أي حصيلة لعدد ضحايا القمع، الذي مارسته القوات الأمنية وفصائل مسلحة ضد المتظاهرين، ما ترك جميع الأرقام الصادرة بعهدة منظمات حقوقية، أو تسريبات من مصادر أمنية وصحية، تنقلها وسائل إعلام محلية عراقية، وسط تشكيك مستمر بصحة تلك الأرقام، بين من يعتبرها أقل من الواقع وآخرين يعتبرون أنه مبالغ بها. ومساء الثلاثاء الماضي، أعلنت السلطات القضائية في البصرة الحكم على ضابط أمن، بعد ثبوت إدانته بقتل متظاهر يدعى عمر فاضل، وحكم عليه بالسجن 6 سنوات.
وكشف مسؤول في مكتب الكاظمي، لـ"العربي الجديد"، أن أحكاماً جديدة ستصدر تباعاً بحق أفراد وضباط أمن في ذي قار وواسط وكربلاء وبغداد، بتهمة قتل متظاهرين، أو استخدام الذخيرة الحية، فضلاً عن مسؤول محلي جنوبي العراق ثبت إعطاؤه أوامر بإطلاق النار على متظاهرين كانوا يحتشدون قرب مبنى حكومي. ووفقاً للمصدر نفسه فإن "أحكاماً بالسجن والتسريح غير المشرف من الخدمة ستصدر بشكل مؤكد بحق المتورطين منهم". وبحسب المسؤول فإن "الحكومة نسقت مع رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان بموضوع تسريع المحاسبة والكشف عن المتورطين بقمع التظاهرات".
ورداً على الجزء المتعلق بتورط مليشيات مسلحة في عمليات قتل المتظاهرين، مثل مجزرتي مول النخيل والسنك والخلاني في بغداد، وقنص المتظاهرين في ساحة التحرير، ومجزرة الحبوبي في الناصرية، ومثلها في كربلاء والنجف والبصرة، قال المسؤول في مكتب الكاظمي إن الحكومة تواجه ما وصفها بـ"صعوبة كبيرة في التحقيق مع أعضاء بفصائل مسلحة متورطين بتلك الجرائم، والملف تحول إلى سياسي أمني. وكانت عملية اعتقال القيادي في الحشد الشعبي قاسم مصلح دليل على صعوبة التحقيق مع أفراد يتبعون فصائل مسلحة. لذلك سيتركز التحقيق حالياً على قوى الأمن الداخلي، مع وجود استثناءات لمن تكون هناك أدلة قطعية عليه من تلك القوى".
عملية اعتقال قاسم مصلح دليل على صعوبة التحقيق مع أفراد يتبعون فصائل مسلحة
وكانت لجنة تقصي الحقائق المعنية بملف الكشف عن قتلة المتظاهرين أعلنت، في 28 مايو/أيار الماضي، استدعاء 112 ضابطاً ومنتسباً للتحقيق معهم بشأن أحداث تظاهرات أكتوبر 2019. وقال المتحدث باسم اللجنة محمد الجنابي، في تصريحات، إن "اللجنة حصلت على أكثر من 7 آلاف وثيقة قضائية من المحاكم المختصة، وأن الجرائم كانت بشعة، والكشف عن الجناة مسألة وقت، لأن العملية تحتاج إلى كشف الأوراق والأدلة الجنائية". ولم يُحدد الجنابي موعداً واضحاً للكشف عن الجناة، لكنه أشار إلى أن "اللجنة حصلت على القضايا التي رفعت من قبل ذوي الضحايا أمام المحاكم المختصة، وأخذت مجراها القانوني، ليتم الاطلاع عليها مرة أخرى من قبل القضاة المختصين من أصحاب المهنية والحيادية، وإعادة التحقيق، حتى يتم إصدار القرارات القضائية الصحيحة". وأوضح أن "اللجنة مستمرة في عملها، وحشدت كل الوزارات والمؤسسات المعنية، من وزارات الداخلية والدفاع والعدل والصحة، ومجلس القضاء الأعلى، وأجهزة الأمن الوطني والمخابرات ومكافحة الارهاب، لكشف الحقائق للرأي العام (المحلي) والدولي أيضاً".
وتراجع مصطلح "الطرف الثالث" خلال الأشهر الماضية، حيث لم يعد المتظاهرون يذكرونه بعد أن كان يحظى برواج بالغ، بسبب وضوح الجهات المتورطة بقتل المحتجين، وهي القوات الحكومية الرسمية والفصائل المسلحة. وكانت القوات العراقية هاجمت، منتصف الأسبوع الماضي، ساحة التحرير، وقتلت متظاهرين اثنين وأصابت نحو 25، في حين طعنت مجموعة مسلحة ملثمة في اليوم ذاته الناشطة انتصار ناهي بالسكاكين، خلال تواجدها في الساحة، ما أدى إلى إصابتها بجروح خطيرة، وهي ما زالت ترقد في مستشفى حكومي ببغداد.
من جهته تحدث النائب سعد اللامي، وهو قيادي في "ائتلاف النصر"، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، عن إمكانية نقل ملف قمع المتظاهرين في العراق إلى المحكمة الجنائية الدولية في حالة عدم "إحراز تقدم من القضاء العراقي". وقال اللامي، في تصريح لوسائل إعلام محلية عراقية، إن "تسجيل إصابات بين عناصر القوات الأمنية في الاحتجاجات لا يلغي مسؤولية إصدار أوامر فتح النار على المتظاهرين وتنفيذها، ومثول المتهمين من الضباط أمام القضاء سيكشف الحقيقة". واعتبر أنّ "أولئك الضباط سيكشفون عن الجهات التي أعطت أوامر بإطلاق النار بشكل قاس على المتظاهرين، حين يدركون أنهم سيدانون، ولن يدفعوا الثمن بمفردهم". وأكّد أن "هناك إمكانية لتحول تلك الجرائم إلى قضايا دولية، وإحالة المتهمين فيها إلى القضاء الجنائي الدولي في حال عدم تحقيق تقدم من قبل القضاء (العراقي) بالملف". وحذر من أن "الأمم المتحدة قد تبحث إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحينها لن ينفعهم السكوت أو طمس الحقيقة".
سجاد حسين: لدى القضاء العراقي الكثير من الأدلة التي تثبت تورط عناصر الفصائل المسلحة بقتل ناشطين ومتظاهرين
وقال الناشط المدني في مدينة النجف جنوبي العراق سجاد حسين، لـ"العربي الجديد"، إن "لدى القضاء العراقي الكثير من الأوراق والأدلة التي تثبت تورط عناصر الفصائل المسلحة بقتل ناشطين ومتظاهرين، وأهالي بعض القتلى في واسط وميسان وكربلاء لديهم اتهامات مباشرة لشخصيات نافذة في مدن جنوب العراق باغتيال أبنائهم. وأبرز من وصل إلى مثل هذه الحقائق، هو جاسب حطاب، الذي اغتيل بعد عام على تغييب نجله المحامي علي. وقد ثبت أن عناصر وقياديين في مليشيا "أنصار الله الأوفياء" يقفون وراء تغييب نجله. إلا أن القضاء العراقي لم يستدعِ أياً ممن وردت أسماؤهم في ملف التحقيقات التي توصل إليها جاسب حطاب قبل اغتياله".
وحول ذلك قال النائب المستقل باسم خشان، لـ"العربي الجديد"، إن "أكثر عمليات القتل والقمع التي استهدفت المتظاهرين تعرفها الحكومة، كونها كانت برصاص قوى الأمن الرسمية". وأشار إلى أن "معظم قتلى الاحتجاجات سقطوا في الساحات والميادين، وكانت قوات الأمن تستخدم الرصاص الحي وتوجهه إلى صدور المحتجين بشكل قاتل". وأوضح، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، أن "القوات التي استهدفت المتظاهرين، كما الجهات المسلحة المتورطة بالاغتيال، معروفة لدى الحكومة العراقية، لكن هناك ضغطا من داخل العراق يمنع السير بهذا الملف. كما أن هناك ضغوطاً خارجية على الحكومة والقضاء العراقي لعدم إنهاء ملف قتلة المتظاهرين. لكن هذا الاستهتار الحكومي سيؤدي في النهاية إلى انفجار احتجاجي جديد قد يتسبب بتغيير الخريطة السياسية في البلاد".