لم يبق مع الرئيس التونسي قيس سعيّد من الأحزاب والمنظمات، داعمون مهمون. وحتى أولئك الذي صبروا معه، أو عليه، شهوراً، إيماناً بمشروعه أو طمعاً في إجهازه على خصومهم، انتهوا بإعلان تمايزهم عنه وانتقادهم لمساره، بسبب عدم الالتفات إليهم أو دعوتهم للمشاركة في أي شيء.
ولقد أظهرت التجربة أن سعيّد تلاعب بكل داعميه، ولكنه كلما استشعر غضبهم وزاد الفراغ من حوله، أخرج الورقة التي تسيل لعابهم ليعيد تجميعهم من جديد، ويحيي طمعهم في تحقيق ما لم يقدم عليه طيلة شهور: ضرب حركة "النهضة"، وخصوصاً رئيسها راشد الغنوشي. وهو ما ظهر، عشية يوم الجمعة الماضي، في قرار مفاجئ بمنع الغنوشي من السفر.
هذه الخطوة المتمثلة في تكتيك تحريك الملفات، أسلوب معروف تنتهجه الأنظمة كلما استشعرت الخطر، لأنها تتصور أنها ستزيد الضغط على معارضيها، وتلعب من خلالها على تناقضات الساحة السياسية، وتعيد، في الوقت نفسه، تجميع أنصار الحمى الأيديولوجية المتعطشين للدم السياسي.
وهذه الأنظمة للأسف تنجح في ذلك في كل مرة، لأن الطمع في الإجهاز على الخصوم من خارج الصندوق، هو طموح الدكاكين الحزبية التي لا شعبية لها. وللأسف فإنها تشمل أحياناً حتى بعض الأصوات المحسوبة على المعسكر الديمقراطي.
والمشكلة أن أشهراً طويلة من التفرد، الذي لا غبار عليه، بالحكم، وضرب المؤسسات، ومحوها من الوجود بجرة قلم، والسير في طريق قتل الديمقراطية نهائياً، لم يقنع بعد هؤلاء، أحزاباً ومنظمات.
بل إن بعضها لا يزال يتوهم خيراً ممكناً من هذا المسار، في حين أن البلد يسير بسرعة جنونية نحو الغرق، والكل من حولنا ينبه إلى ذلك دون جدوى، وآخرهم تقرير "لجنة البندقية" (مجلس أوروبا)، الذي أكد بكل وضوح أن كل مسار سعيّد غير دستوري وغير قانوني.
لكن المضحك أن وزير الخارجية التونسية، عثمان الجرندي، تكلم بعد يوم واحد من هذا التقرير، في القمة الاستثنائية للاتحاد الأفريقي حول "الإرهاب والتغييرات غير الدستورية للحكومات في أفريقيا".
وأكد أن "الديمقراطية تواجه العديد من التحديات في ضوء تراجع ثقة الشعوب، ولا سيّما فئةَ الشباب، في القيم والمفاهيم المشتركة، وفي تصوّرها للديمقراطية كنظام حكم ضامن للسلم والأمن والاستقرار والرفاه، وهو ما تستغله الانقلابات العسكرية لفرض أجنداتها".
وأكد الجرندي أنه "لا خيار للدول الأفريقية غير النظام الديمقراطي الضامن للحقوق والحريات، والذي يستجيب إلى تطلعات الشعوب في الكرامة والحرية والرفاه". نعم هذا ما قاله الجرندي للأشقاء الأفارقة، والأكيد أنهم سيستفيدون من التجربة الديمقراطية التونسية، التي لا يعرفون عنها شيئاً لأنها تحدث في كوكب آخر.