صادف يوما 19 و17 يونيو/حزيران الحالي، ذكرى محطتين فارقتين في التاريخ الأميركي. الأولى كانت الاحتفال رسمياً للمرة الثانية فقط بتحرير العبيد في أميركا قبل 157 سنة، والذي لم يتقرّر كعيد وطني وإجازة فيدرالية إلا في 2021، والثانية مرور 50 سنة على كشف فضيحة "ووترغيت" التي أطاحت الرئيس ريتشارد نيكسون. ما يجمع بين الاثنين هو التزامن والرواسب المتبقية لهما، والتي ما زالت حاضرة في المشهد الأميركي الراهن، بصورة أو بأخرى، مع ما لذلك من تداعيات على عموم الوضع الأميركي.
يأتي الاحتفال بعيد تحرير العبيد رسمياً اليوم الإثنين، بدلاً من أمس الأحد، في وقت يبلغ فيه الاحتقان العنصري مدى يقلق الجهات المعنية السياسية والأمنية. وقد حصل ذلك بتراكم متسارع خلال السنوات الأخيرة، أخذت فيه حركة القوميين البيض التي تصرّ على تفوق العرق الأبيض، شحنة كبيرة من الزخم في ظل رئاسة دونالد ترامب.
أول ضوء أخضر علني جاءها في تظاهرة 2017 الشهيرة في مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، عندما أشاد الرئيس آنذاك بالعناصر "الجيدة" من الطرفين، البيض والمناوئين لهم. مساواته بين الاثنين كانت إشارة واضحة لدعم رئاسي أدى إلى المزيد من اقتحام المتزمتين العنصريين للمسرح. وبذلك، أخذت مشاعر النفور العنصري دفعة انتقلت معها من الكامن إلى الممارسة المكشوفة، والتي تجسدت بقتل المواطن الأسود جورج فلويد مخنوقاً تحت ركبة شرطي أبيض.
نزل الآلاف إلى الشارع، وتكرّرت بعدها عدة عمليات، سواء من جانب الشرطة أو من جانب المتعصبين البيض، كانت آخرها مجزرة مدينة بافالو التي استهدفت عشر ضحايا من الأميركيين السود. طبعاً، ترافق ذلك مع موجة قتل جماعي استهدفت الجميع على السواء، نتيجة العنف الدموي العشوائي الشائع في أميركا، لكن بقي استهداف الملونين هو الأبرز، ليس فقط في حياتهم، بل أيضاً في حقوقهم الأساسية التي أقرها الدستور.
فبعد 157 سنة على الانعتاق، ما زالت العوائق المفتعلة تتوالى للحيلولة دون ممارسة السود والملونين إجمالاً حقهم في التصويت. في المدة الأخيرة، شرّعت عدة ولايات قوانين محلية لتنظيم عملية الاقتراع، ما زاد من تعقيد إجراءات التصويت، إذ يصعب على الأقليات ممارسة حقها في هذا المجال. والكونغرس، لاسيما الجمهوريون، رفض التدخل لسنّ قانون يلغي التعطيلات التي وضعتها الولايات. ولا تخفي بعض الجهات مخاوفها من تعاظم هذه المشكلة في انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، كما في انتخابات الرئاسة لعام 2024.
أما مناسبة "ووترغيت" الخمسينية، فقد بدا من تزامنها مع التحقيقات التي تجريها لجنة مجلس النواب في حادثة اجتياح الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، وكأنها كانت على موعد مع هذه الذكرى للتذكير بمدى سرعة عطب الديمقراطية الأميركية التي وصلت إلى شفير الانهيار، لولا رسوخ المؤسسات التي أنقذتها في اللحظة الحاسمة. فالجلسات العلنية التي أجرتها اللجنة في الأسبوعين الماضيين، والتي شارفت على نهاياتها، كشفت عن أعطاب ومقادير كبيرة من الخلل والاهمال والفجوات، ما كاد أن يؤدي إلى انقلاب على الدستور والاطاحة بانتخابات 2020.
كما كشفت عمّا كان يتحكم بالرئاسة، من جنون العظمة، وطغيان الذات، والجنوح إلى التحكم والاستئثار بالسلطة، والتفرد. عوارض تشابه إلى حدّ بعيد ما كان يحصل في رئاسة نيكسون، والتي جددت السؤال المطروح منذ ولادة الاتحاد، "ما إذا كان بإمكان الديمقراطية الأميركية أن يحافظ عليها أصحابها"، كما قال بنجامين فرنكلين، أحد مؤسسي الولايات المتحدة.
وهذا السؤال مطروح الآن بقوة كما كان من قبل، ورغم نجاة أميركا من "قطوع" 2021، فإن الجهات نفسها التي استهدفت مبنى الكونغرس تتوعد عبر وسائل التواصل بتكرار العملية لو انتهت الانتخابات في 2024 إلى فوز غير ترامب أو من يدور في فلكه. ومثل هذه التهديدات تأخذها الجهات الأمنية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف.بي.أي" على محمل الجد، وتحذر من احتمالاتها وعواقبها.
الأسبوع الماضي كان مناسبة للتذكير بأن العنصرية في الممارسة ما زالت حية، ولو أنها ممنوعة في القانون، وبأن ووترغيت و6 يناير 2021، برغم الفاصل الزمني بينهما، يشكلان إنذاراً مبكراً بأن الديمقراطية الأميركية تعبت، وينبغي تجديدها، وإلا فإنها تواجه خطر الانزلاق إلى "الفاشية"، كما سبق وحذرت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت قبل رحيلها، والتي ردد تحذيرها آخرون من النخب الأميركية.