يصرّ الرئيس التونسي قيس سعيّد على الذهاب في خريطة الطريق التي أعلن عنها سابقاً، المتمحورة حول موضوع الاستشارة الإلكترونية، ثم إجراء استفتاء في 25 يوليو/تموز المقبل، ثم الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهي خريطة لم يستشر فيها أحداً ولا يستشير أحداً إلى الآن في خصوص تفاصيلها، على الرغم من أهميتها القصوى.
ويصرّ الرئيس على نجاح الخطوة الأولى في هذه الخريطة، أي الاستشارة، التي يفترض أن تُبنى على أساسها بقية المراحل، على الرغم من فشلها الشعبي، لكن مع ذلك سيعيّن سعيّد لجنة بمعرفته تتولى تلخيص بنودها وعرضها على الاستفتاء، من دون الاكتراث لأي رأي.
غياب المقترحات البديلة للمعارضة
ويتبيّن أن هذه الخريطة أصبحت تقريباً أمراً واقعاً اليوم، إذ تغيب عن معارضيه أي مقترحات عملية بديلة، بينما يمرّ الوقت سريعاً في اتجاه الاستفتاء، وربما أصبح النقاش منحصراً في كيفية إجراء هذا الاستفتاء والمحافظة على هيئة الانتخابات المستقلة وعدم ضربها من سعيّد، خصوصاً أن بعض الأصوات المؤيدة له بدأت تلمح إلى ذلك.
وفيما تتجه الأنظار إلى الاتحاد العام التونسي للشغل لخلق هذا التوازن المفقود مع الرئيس، أكد الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري لـ"العربي الجديد"، أن "الاتحاد لن يشرف على حوار في المرحلة الراهنة". وشدّد على أنه "ليست هناك اتصالات مع الرئيس"، ولكنه لفت إلى أن "الاتحاد سيناضل من أجل فرض هذا الحوار".
اتحاد الشغل سيناضل من أجل فرض حوار داخلي
وفي السياق، أكد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي "ضرورة إيجاد حزمة موحدة من الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية". وجاء ذلك خلال لقائه، يوم الخميس الماضي، مع وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان عزرا زايا.
وتطرق اللقاء إلى الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس وكيفية دعم التجربة الديمقراطية، وعبّر الجانب الأميركي عن تقديره للدور الذي يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل منذ الاستعمار (الفرنسي بين عامي 1881 و1956) في الدفاع عن القضايا الوطنية.
وجددت المسؤولة الأميركية "تأكيد إدارة بلادها أهمية احترام الحقوق النقابية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وقيم الحريات العامة والفردية والديمقراطية"، مثمّنة "الدور التاريخي للاتحاد في كل الأزمات التي مرت بها تونس".
وشدّدت في كل لقاءاتها على أن "وجود مجتمع مدني مستقل وحيوي أمر أساسي في الديمقراطية ويجب الحفاظ عليه"، وعلى أن "تكون الحلول تشاركية وأن يكون صوت المجتمع المدني قوياً".
وتشير هذه المحادثة إلى الرهان الكبير على المنظمة، وطنياً ودولياً، وربما تدفع في اتجاه أن يؤدي الاتحاد دوره بسرعة أكبر نظراً للتطورات المتلاحقة.
وعلى مدى الأيام الثلاثة الماضية، ومن مؤتمرات نقابية في جهات مختلفة، رفع الطبوبي من وتيرة انتقاده للحكومة. وشهدت البلاد إضرابات عمالية مهمة، تؤشر على توتر علاقات الرئيس مع المنظمة النقابية ومع غيرها.
وفي المقابل، بدا سعيّد منزعجاً من إمكانية عقد البرلمان جلسة عامة جديدة هذا الأسبوع. وقال مساء أول من أمس السبت، خلال لقائه رئيسة حكومته نجلاء بودن، إن القرارات التي ستتمخض عن مجلس مجمّد ستكون خارج التاريخ والجغرافية.
وأمس الأحد، منعت السلطات التونسية مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" من عقد اجتماع في مدينة نابل، ولكن أعضاء المبادرة عقدوا اجتماعهم في الشارع بصوت عال، ما يؤكد تزايد انزعاج الرئيس من هذه المعارضة.
وتكمن الصعوبة الحقيقية لبحث مخارج للأزمة في إمعان سعيّد في تجاهل كل الساحة السياسية، والذهاب في مشروعه وكأنه الفاعل الوحيد في المشهد، ولا يتحاور حتى مع داعميه من الأحزاب والشخصيات، التي انفض كثير منهم من حوله.
سعيّد يحتكر السلطة
وقال القيادي في "التيار الديمقراطي" نبيل حجي، ساخراً، إنه "تم إصدار مرسوم لمقاومة الاحتكار والمضاربة في السلع، ويبدو أننا اليوم في حاجة لمرسوم آخر ضد احتكار السلطة، لأن الرئيس محتكر كامل البلاد بسلطاتها الثلاث (الرئاسية، البرلمانية، الحكومية) وبمؤسساتها، ويتحدث عن الاحتكار، وكأن علينا أن نشاهد ما يفعله ونصمت".
وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد": "من المضحك أن تنعقد ندوات وملتقيات في البلاد حول النظام السياسي، ولا نعلم لمن يتناقشون ومن سيستمع لهم، فسعيّد لديه قراراته وأجندته وهو بصدد تنفيذها".
ولفت حجي إلى أن "من يظن أنه ستكون في 17 ديسمبر انتخابات تعددية وشفافة ونزيهة، فهو واهم، فإما أنه لن تكون هناك انتخابات أصلاً، وسيجد سعيّد في ما بعد حجة مثل عمل إرهابي أو خطر داهم أو أي شيء آخر لتأجيلها، أو أنه سيكون هناك انتخاب بقانون انتخابي على المقاس، يضمن به سعيّد عدم نجاح أي معارض له".
سعيّد منزعج من إمكانية عقد جلسة برلمانية
وشدّد على أن "بعض المنطق يقول إن من يمسك بكل السلطات لا يقدّم السلطة التشريعية إلى معارضيه، لأن تشكّل برلمان بمعارضين له (حسب ما تبينه عمليات استطلاعات الرأي) لن يمرر له أي قانون، وبمجرد أن يتسلم هذا البرلمان السلطة، فإنه سينظر في كل هذه المراسيم ويمكن أن يتراجع عنها".
وأضاف أنه "من الصعوبة أن يتصور الواحد منا أن من افتك السلطة بالجيش والأمن سيهديها إلى معارضيه". ورجح حجي أن يكون "القانون الانتخابي الجديد شبيهاً بقانون العزل السياسي الذي كان يستهدف حزب التجمع المنحل بصيغة من الصيغ، فيُحال مثلاً كل من انتمى إلى برلمان 2019 على التقاعد السياسي لخمس أو عشر سنوات بطريقة تمنعه من المشاركة، بما يصنع برلماناً مشتتاً يمكّن سعيّد من ممارسة سلطاته بشكل مطلق".
من جهته، اعتبر رئيس الهيئة السياسية لحزب "ائتلاف الكرامة" يسري الدالي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ذهاب سعيّد في تنفيذ الروزنامة التي أعلنها من دون الإصغاء إلى معارضيه يكشف تصلبه الذهني الذي نبهنا له منذ البداية، فهذه الشخصيات ليست لها القدرة والجرأة على مراجعة نفسها، ولا يمكنها النظر إلى الوراء ولا أن تصحح".
وتابع "للأسف نحن نشاهد مغالطات كثيرة، بعضها بسبب المحيطين به، إذ يبني سعيّد قراراته على معلومات لا نعلم من يمده بها". وعلّق على إشارة سعيّد إلى حوار ممكن بعد الاستشارة، قائلاً إن "سعيّد يعمل وفق نفس الميكانيزمات، فكما نظم استشارة من أجل عيون المجتمع الدولي، تحدث أيضاً عن الحوار إرضاء لهم".
وانتقد الدالي "تعنت سعيّد بالحديث عن نجاح الاستشارة على الرغم من ضعف عدد المشاركين الذي لم يتجاوز 3 في المائة من التونسيين، وعلى الرغم من ذلك، فهو ماضٍ في برنامجه". وتابع "كل ديكتاتور يفكر بنفس الطريقة، وكلما فشل يبحث لنفسه عن حجّة ويحمّل المسؤولية لأطراف أخرى، وهو ما يجعلهم غير واقعيين ولا يقبلون الرأي الآخر المخالف".