وصل توتر العلاقة بين الصين ودولة ليتوانيا الصغيرة في البلطيق إلى ذروته أمس الثلاثاء على خلفية سماح فيلنيوس لتايوان بفتح مكتب تمثيلي لها تحت اسم "ممثلية تايوان"، وهو ما يشبه مكتب التمثيل في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن (كعنوان توتر علاقات أيضاً)، ما عدته بكين "لعباً بالنار"، وبحسب ما ذهبت صحيفة غلوبال تايمز الصينية أمس، فإن "ليتوانيا ستدفع الثمن".
ومنذ يوليو/تموز الماضي، حاولت الصين الضغط على ليتوانيا لثنيها عن كسر القاعدة القائلة "صين واحدة"، وهي التي لا تعترف باستقلال تايوان، وتعاقب الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها. ويوم أمس الثلاثاء، مضت بكين خطوة إضافية في توتر علاقة الطرفين باستدعاء سفيرها من فيلنيوس ومغادرة سفير الأخيرة منها.
أسباب هذا التوتر.. أبعد من ليتوانيا
ومنذ انتخابات البرلمان في أكتوبر/تشرين الأول، يتعرض البلد الصغير ليتوانيا لضغوط إعلامية وسياسية صينية بسبب مبادئ سياستها الخارجية التي حددها وزير الخارجية الجديد، غابريليوس لاندسبيرغيس، والتي تقوم على أن "السياسة الخارجية يجب أن تستند إلى القيم، ومن بين تلك القيم التي حددها غابريليوس المسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأدت في مايو/أيار الماضي إلى قرار ليتواني بالانسحاب من مجموعة 17 زائداً واحداً، التي أسست لعلاقة بين دول شرق ووسط أوروبا (بعضها ليس عضواً في الاتحاد الأوروبي كصربيا) وبكين.
استخدمت بكين ما يسمى "دبلوماسية اللقاح" لتعزيز علاقتها أكثر بالمجر وصربيا
واستخدمت بكين ما يسمى "دبلوماسية اللقاح" لتعزيز علاقتها أكثر بالمجر وصربيا، ودول أخرى، فيما اختارت ليتوانيا على ضوء توتر العلاقة مع موسكو، وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) التقارب أكثر مع الجانب الأميركي، وطرح بدائل عن العلاقة ببكين، التي تعتبرها ليتوانيا تقسيمية للأوروبيين، من خلال مجموعة 27 زائدا واحدا، أي مجموع دول الاتحاد الأوروبي وبكين، بدل استفراد الأخيرة بكل دولة أو مجموعة دول. وكان غابريليوس طرح أفكاره في مقابلة مع "بوليتيكو" في مايو/أيار الماضي، ما فتح باب التوتر والتصويب الصيني على بلده.
ليتوانيا ليست وحدها التي تشكك بسياسات الصين في أوروبا، فعلاقة كوبنهاغن وإلى حد ما استوكهولم ليست على ما يرام على خلفية علاقة الجانبين بتايوان وباستقلالية سياسة خارجية نقدية لسياسات الصين في المجال الحقوقي والاستثمارات في أوروبا.
وحاولت بكين في أكثر من مناسبة إسكات الصحافة الدنماركية عن انتقاد سياساتها مع الإيغور المسلمين وتصرفاتها في هونغ كونغ، وأدى ذلك إلى وضع أعضاء برلمان دنماركي على "لوائح سوداء لبكين"، وتهديد باعتقالهم حال وصلوا إلى مناطق صينية.
التوتر الحاصل لا ينفصل عن إحباط دول أوروبية صغيرة من هيمنة سياسات باريس وبرلين في تحديد العلاقات الخارجية
ويستند بروز التوتر الدبلوماسي الأخير بين دول البلطيق الصغيرة وبكين أيضاً إلى حالة تقارب بين الأولى وسياسات أميركية أكثر تركيزاً على سد ثغرات الاختراق الصيني في القارة العجوز، فعلى مستوى السياسة والاقتصاد باتت منطقة البلطيق، بما فيها مجموعة "دول الشمال" تقارب علاقتها ببكين من زاوية عدم فصل بين الالتزام بمبادئ حقوقية والاستثمارات.
وفي تصريحات صحافية أمس، رأت مديرة مركز "تشاينا أوبزرفر"، المختص بمراقبة تحركات بكين في وسط وشرق أوروبا، إيفانا كاراسكوفا، أن "فهم ليتوانيا لعلاقتها بالأنظمة غير الديمقراطية يقوم على أن تلك الأنظمة لا يمكنك توقع سياساتها، وهو ما يؤثر بصورة مباشرة حتى على العلاقات الاقتصادية".
والتوتر الحاصل برأي خبراء أوروبيين لا ينفصل عن إحباط دول أوروبية صغيرة من هيمنة سياسات باريس وبرلين في تحديد العلاقات الخارجية، وخصوصاً الليونة في العلاقة بالطرفين الصيني والروسي، على عكس تركيز الصغيرة على سياسات "القيم في العلاقات"، وبدعم شبه علني من واشنطن، التي باتت تركز أنظارها على بكين أكثر من أية منطقة أخرى.
وهناك قوى سياسية في دول شرق القارة، التي يتقارب فيها القادة مع بكين، أكثر تشككاً ونقداً لسياسات الصين الاستثمارية، ويستند هؤلاء، كما تفعل دول البلطيق وإسكندنافيا، إلى طبيعة وأهداف الاستثمارات الصينية، واختلال توازنها لمصلحة شركات حكومة بكين. ويرى هؤلاء المتشككون أن ما يُصدّر من أوروبا إلى الصين لا يعكس توازنا في العلاقات.
ويستشهد هؤلاء بسياسات الاستثمار الانتقائية لبكين في دول تبدو أكثر أهمية لسياسات النفوذ في القارة من أخرى، كما حدث مع اليونان بعد أزمتها المالية الكبيرة في 2010، ودول تبدو القوى السياسية الحاكمة فيها كـ"جماعات ضغط " لبكين وموسكو في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومن بينها المجر والتشيك وبعض القوى الإيطالية والبولندية واليونانية، وغيرها في القارة.
هذا بالإضافة إلى أن "التحدي الأمني الصيني بات على جدول أعمال المؤسسات الأمنية في بعض الدول الأوروبية، ومن بينها دول البلطيق واسكندينافيا، والتي تراقب محاولات بكين تأسيس موطئ قدم لها في أكثر من بلد من خلال سياسيين محليين مستعدين للتعاون معها" بحسب ما تقرأ كاراسكوفا.
وعلى سبيل المثال، فإن مجموع دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، لم تستقبل من الاستثمارات الصينية أكثر من 100 مليون يورو في الفترة الممتدة بين 2000 و2019، بحسب ما ذهبت صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" في يوليو/تموز الماضي على ضوء التوتر في العلاقات.
وكان التوتر المكتوم، قبل أن يطفو إلى السطح بإجراءات دبلوماسية أمس، أعاد التسليط على "معضلة أوروبية واضحة خلال السنوات الأخيرة في علاقة الأوروبيين ببكين، وما إذا كان يتوجب التسليط على الديمقراطية؟ وكيفية التعاطي مستقبلا مع سياسات الصين"، وفقاً لما يذهب إليه المركز البحثي في برلين "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" في تقييمه للمعضلة الأوروبية التي تحولها ليتوانيا اليوم، كعضو في الاتحاد الأوروبي مع بقية دول البلطيق، إلى قضية يتوجب على الأوروبيين اتخاذ موقف موثق حيالها.
ويعتبر المركز أن بعض الدول، مثل ليتوانيا، تتخذ موقفاً واضحاً من بكين "لأنه لا شيء لتخسره في علاقاتها مع الصين"، ويبدو أن ليتوانيا، بحسب الباحثة في المركز، جانكا أويرتيل، "تأخذ بجدية سياستها الخارجية القيمية على محمل الجد، وسيكون من المثير الانتباه لما سيكون عليه الموقف الأوروبي من هذا التوتر".