بين حوارات الفصائل والجديد الذي يعتمل في قلب التحركات الوطنية

بين حوارات الفصائل والجديد الذي يعتمل في قلب التحركات الوطنية

30 أكتوبر 2022
اجتماع أمناء الفصائل العامين في الجزائر (فاضل عبد إبراهيم/الأناضول)
+ الخط -

تعكس نتائج اجتماع الفصائل الفلسطينية في الجزائر عمق المأزق الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ سنوات، ويتمثل في فشل مكونات الحركة من منظمة التحرير وحكومة وفصائل ومؤسسات في الوصول إلى برنامج عمل وطني موحد، ثم عجزها عن مواجهة الهجمة الإسرائيلية الشاملة الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية.

أدى ذلك إلى تراجع مكانة هذه الحركة بفصائلها المختلفة، وتآكل شرعية المؤسسات القيادية، ولا سيما بعد بروز أنماط وتشكيلات جديدة من المقاومة الميدانية العفوية التي باتت تقض مضاجع الإسرائيليين.

لقاء الجزائر، والذي انعقد تحت اسم "مؤتمر لم الشمل من أجل تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية" جاء بعد جهود مكثفة بذلتها الدولة الجزائرية، والرئيس عبد المجيد تبون شخصياً، وسبقته زيارات ولقاءات عديدة جرت على امتداد العام 2022، بهدف استكشاف المواقف.

كان واضحاً أن الجزائر معنية بتحقيق إنجاز فلسطيني، يعزز مكانتها الإقليمية والعربية على أبواب القمة العربية المقررة في مطلع نوفمبر، كما أن الفصائل الفلسطينية بدت معنية باسترضاء الجزائر ومجاملتها نظرا لمكانتها المميزة لدى الفلسطينيين وتاريخ دعمها للقضية والشعب الفلسطيني، حتى أن اجتماع المصالحة الأخير عقد في "قصر الصنوبر" الذي استضاف دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشر، التي تمخضت عن إعلان الاستقلال الفلسطيني في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988.

صدر عن اللقاء بيان ختامي سمي "إعلان الجزائر"، شمل مجموعة من المبادئ العامة عن الوحدة الوطنية والشراكة والمصالحة، وتفعيل منظمة التحرير والانتخابات، فضلاً عن العبارات المألوفة التي تحيي الشعب الفلسطيني وشهداءه وأسراه وسائر تضحياته، وتعاهده على إنجاز الوحدة الوطنية، مع توجيه الشكر والامتنان للجزائر ورئيسها.

نواقص جوهرية

كان يمكن للقاء الجزائر والإعلان الصادر عنه أن يمثلا نقطة تحول فارقة في حياة الفلسطينيين، تضع حداً لفصل طويل ومرير من الانقسام والصراع على سلطة خاضعة للاحتلال ولا تملك من أمرها شيئاً. لكن الجمهور الفلسطيني، ومعظم المتابعين والمحللين استقبلوا الإعلان باللامبالاة والتشكيك في جدية الموقعين عليه، لأسباب كثيرة من بينها:

- سبق للفصائل أن توصلت إلى أكثر من عشرة اتفاقات خلال الفترة بين العامين 2007-2021، بعد حوارات مشابهة جرت برعاية إقليمية ودولية ومن بينها وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن الحركة الأسيرة، واتفاقات القاهرة ومكة والشاطئ، وتفاهمات إسطنبول، واجتماع بيروت ولقاءات موسكو وصنعاء، والورقة المصرية. بعض هذه الاتفاقات شملت بنودا مفصّلة لمختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية التي ينبغي معالجتها، وبعضها الآخر نص على جداول زمنية وتواريخ دقيقة، لكن كل ذلك بددته رياح الانقسام، وحلت محلّه لغة التشكيك والاتهام.

- شطب البند العملي الرئيسي في الاتفاق، المتصل بتشكيل حكومة وحدة وطنية، إثر خلاف على التزام الحكومة الموعودة قرارات الشرعية الدولية، إذ أصر مندوبو فتح على هذا الالتزام الذي يشمل شروط الرباعية الدولية، في حين أراد مندوبو "حماس" اقتصار قرارات الشرعية على تلك المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، فكان الحل شطب البند بالكامل!

- تميز اتفاق الجزائر بنصوصه العامة التي تتيح التهرب من تنفيذ الالتزامات، وخلا من أية مواعيد ملزمة، باستثناء الإشارة إلى إجراء الانتخابات خلال عام، كما جاء في معظم الاتفاقات السابقة، كما ربط الانتخابات بإجرائها في القدس، وهو ما يمكن أن يوفر ذريعة للتملص منها، كما حصل مع الموعد الذي كان محدداً في 22 مايو/أيار 2022. 

- كان لافتاً غياب المستقلين وممثلي المجتمع المدني، وكان يمكن لهذه الفئات التي حضرت معظم اللقاءات السابقة، أن تشكل جسماً داعماً للاتفاق ورقيباً على حسن تنفيذه، لكن الحضور من خارج ممثلي الفصائل اقتصر على عدد محدود جداً من كبار رجال الأعمال.

ما غاب عن اللقاء 
غابت مسائل مهمة عن اجتماع الجزائر، خلافاً لموضوع حكومة الوحدة الوطنية، منها قضية "القيادة الوطنية الموحدة" التي ورد ذكرها في اجتماع الأمناء العامين المنعقد في بيروت ورام الله في سبتمبر/أيلول 2020 ومارس/آذار 2021، هذا البند يشير إلى إمكانية ترجمة شعارات المصالحة إلى فعل مشترك في الميدان.

طبعاً، لا يمكن أن يُعزى هذا التجاهل إلى خلل إداري، فغياب العمل المشترك هو سمة النضال والعمل السياسي الفلسطيني العامة منذ عقدين على الأقل، ويعكس غياب الاستراتيجية الموحدة بين الفصائل والقوى السياسية، فينعدم التكامل والتناغم بين أشكال النضال المختلفة، السياسي منها والدبلوماسي والقانوني وصولاً للمقاومة بمختلف أشكالها.

غابت عن الاجتماع، جهود وضع تصور مشترك عما يجري على الأرض، بما في ذلك الوصول إلى تشخيص مشترك وموقف من التطورات الأخيرة، هنا أيضاً لا يتصل الأمر بـ "إدراك" ما يجري، بل باستحقاقات هذا الفهم وأولها وضع برنامج نضالي يعتمد تغليب التناقض مع الاحتلال على كل ما عداه من تناقضات وخلافات داخلية.
العجز:

من السهل تفسير ما يجري بالقول أن هناك برنامجين متناقضين ولا سبيل إطلاقا للجمع بينهما: برنامج مقاومة وبرنامج تسوية أو استسلام، وهذا ليس رأي المحللين والمراقبين فقط، بل هو رأي قوى سياسية تستسهل امتشاق أحكام التخوين والتكفير لمجرد نشوب خلاف سياسي.

لكن هذه القوى عينها لا تلبث أن تتصالح فجأة مع القوى التي سبق أن اتهمتها بالتفريط والخيانة، وتبرم معها الاتفاقيات إلى درجة أوشكت فيها على خوض الانتخابات معها ضمن لوائح مشتركة، وهي فعلت ذلك على كل حال في بعض الانتخابات البلدية والنقابية، لكن تدقيقاً معمقا في الظاهرة ينبئنا عن تعقيدات أبعد من هذه الأحكام التبسيطية الجاهزة.

من الواضح أن تغيراً نوعياً وملموساً طرأ على السلوك العدواني الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية خلًال العقدين الأخيرين، مع الجنوح المتزايد نحو اليمين والتطرف، واستطالة أمد الانقسام الفلسطيني الذي بات ينذر بالتحول إلى انفصال مديد، هذا الوضع وما يشهده العالم العربي من تفكك وانقسام إلى محاور متصارعة، واحتدام الأزمات الدولية، كلها عوامل أغرت إسرائيل وشجعتها على محاولة حسم الصراع بقرارات أحادية وبقوة الحديد والنار بديلاً عن المفاوضات، والسعي لتطبيق صفقة القرن عملياً من دون إعلان، وهذه السياسات هي محل إجماع القوى الصهيونية كافة.

بدأت بتنفيذها حكومات الليكود برئاسة نتنياهو، وتواصلها حكومة لبيد - بينت عبر تدمير فرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والسطو على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة، وتكثيف الاستيطان، وتهويد القدس، ومواصلة السيطرة على الأجواء والمياه والموارد والحدود والأغوار، وتكريس الانقسام بين الضفة وغزة. 

هذه الخطة تطلبت من إسرائيل مواصلة الضغط على السلطة الفلسطينية ودفعها إلى مكان مرفوض ومرذول وطنياً، واختزال دورها لتصبح مجرد وكيل أمني للاحتلال، وجهاز خدمي يعفي الاحتلال من عبء التعامل مع الحاجات اليومية لملايين الفلسطينيين، إسرائيل تريد سلطة ضعيفة إلى درجة تمنعها من تبني أي مشروع وطني مناهض للاحتلال، دون الوصول إلى حافة الانهيار، سلطة ضعيفة أمام المخطط الإسرائيلي، وقوية أمام معارضي التنسيق الأمني وهذه الصيغة للعلاقة مع إسرائيل.

إزاء هذا الهجوم الشامل، يجد القائمون على السلطة أنفسهم أمام خيارين: فإما تغيير اتجاهات العمل والتوجه نحو اعتماد استراتيجية وطنية موحدة بكل ما يترتب على ذلك من تنازل عن المكاسب والامتيازات، والقبول بأعباء الشراكة الوطنية بما فيها كبح الفساد والاستبداد، أو مواصلة التعلق بالآمال والمعجزات لعل انتخابات قادمة، إسرائيلية أو أميركية، تحمل معها تغييراً ما، وفي انتظار ذلك يواصل المسؤولون انتقاد إسرائيل والتنديد بممارساتها، ومناشدة المجتمع الدولي التدخل من دون فعل أي شيء سوى الشكوى.

في غياب رد السلطة والفصائل، نشأت ظاهرة المقاومة الفردية والعفوية

شيء جديد يتشكل

لا تستطيع السلطة الفلسطينية مجاراة الخطة الإسرائيلية ولا التصدي لها، ولذلك فإن أقل الخيارات كلفة هو التعايش المؤقت مع الحالة والتكيف معها، لكن إسرائيل لا تقبل بذلك، فهي تعتقد أنها انتصرت في جميع حروبها على العرب، وآن لها أن تترجم انتصاراتها إلى حل سياسي، والطريق إلى تنفيذ مخططها يمر عبر قبول الفلسطينيين وإخضاعهم، من خلال هجوم واسع لإخضاع الفلسطينيين، واجتثاث أي مظهر من مظاهر المقاومة ورفض الاحتلال، عبر سلسلة من عمليات الاقتحام والاغتيال والإعدامات الميدانية والاعتقالات الجماعية وتغيير الوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى.

مشكلة إسرائيل هي أن حربها هذه هي ضد الشعب الفلسطيني، ووجوده وليست ضد كيان أو تنظيم، لذلك؛ وفي غياب الرد المقنع من السلطة والفصائل، كان من الطبيعي ان تنشأ ظواهر المقاومة الفردية والعفوية التي نمت وتطورت إلى مجموعات صغيرة، ثم انتشرت من مخيم جنين ثم من مدينتي جنين ونابلس شمالاً، إلى سائر أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة.

عجزت إسرائيل عن القضاء على التشكيل المسمى "كتيبة جنين"، الذي بدأ مثل كرة اللهب التي انتقلت من جنين إلى نابلس، لتتخذ شكلاً جديداً وفريداً هو مجموعة "عرين الأسود"؛ هي مجموعة مسلحة عابرة للفصائل، تضم مقاتلين من مختلف التنظيمات ومن الشبان المتطوعين المستقلين، معظمهم في نهاية العقد الثاني أو مطلع العشرينات من عمرهم، هذه المجموعة باتت تجد مزيداً من الحماية والاحتضان الشعبيين، الأمر الذي مكنها من الصمود في وجه المحاولات الإسرائيلية للقضاء عليها.

يصر وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس على أن "عرين الأسود" هي مجموعة محدودة من 25 شخصاً، متوعداً بسرعة تصفيتها، لكن الواقع أن هذه المجموعة قدمت مجموعة من النماذج الفدائية الباهرة التي بات كل منها يمثل قدوة للشباب. ومن أبرز التطورات أيضا إصدار المجموعة بيانات، دعت في واحد منها إلى الإضراب العام، تضامناً مع مخيم شعفاط، إذ حقق النداء استجابة واسعة في معظم المدن الرئيسية. 

تعكس الاستجابة لدعوة الإضراب والحفاوة الواسعة التي يبديها الناس تجاه العمليات الفدائية، اتجاهاً متنامياً لتبني خيار المقاومة، كما تعكس تراجع قدرة الفصائل عن التأثير في الرأي العام واتجاهات الأجيال الناشئة، التي تبدي عزوفاً ملحوظاً عن الانتساب للفصائل، والملاحظ أن معظم الحركات الاجتماعية والسياسية في السنوات الأخيرة، خيضت بمعزل عن دور الفصائل التقليدية وتوجيهها القيادي، فإذا ربطنا ذلك بالتشكيلات والقوائم التي سجلت للانتخابات التي ألغيت، لوجدنا أن 29 قائمة من أصل 36، هي لحركات اجتماعية ومستقلين من خارج الفصائل، ما يؤكد أن ظاهرة جديدة باتت تتشكل ببطء ولكن باطراد، في قلب هذه التحركات الوطنية والاجتماعية، وما لم توائم الفصائل الوطنية التقليدية برامجها وأداءها كي تنسجم مع الحالة الشعبية، فسوف تحكم على نفسها بمزيد من العزلة، وتخلي الساحة لتشكيلات جديدة أكثر شباباً وعنفواناً.